بقلم : د. حسن أحمد حسن
عندما تختلط الأوراق، وتوضع في “الفرامة”، ويعاد ذروها في رياح هوجاء وأعاصير يصبح من العسير معرفة المكونات الذاتية الخاصة بهذه الورقة أو تلك، ومن شبه المستحيل إعادة تركيب الصورة الحقيقية لأية ورقة، ولعل هذه حال تطور الأحداث وتداعياتها الخارجة عن أطر التوقع والاستقراء التقليدية سواء ما يتعلق بالساحة الدولية أو الإقليمية منها، وحتى الداخلية الخاصة بدولة ما، وبوقفة موضوعية مع ما يشهده العالم من أحداث متشابكة يستطيع المتابع العادي أن يستنتج بيسر وسهولة أن تفاعلات الكيمياء السياسية تشوه روافع الرأي العام، وتخلط الفيزيولوجيا المجتمعية بسموم التهجين المعلوماتي واستنساخ الخيال والأوهام التي يتم ضخها بحرفية يصعب التحكم بصنابير تدفق مفرزاتها المعلبة منذ عقود في غرف العمليات والتحضير لتهيئة البيئة الاستراتيجية المأمولة لدى من يسعون لإحكام السيطرة على العالم الذي بدأ يتفلَّت من قبضة حكومة الظل العالمية المصممة على إعادة حبس المارد في قمقمه مهما بلغت كوارث البشرية في أية بقعة من العالم أجمع.
مثل هذه الصورة السوداوية لم تنجح حتى اللحظة في إخفاء بقع الضوء التي يزداد عددها ويتسع انتشارها على الرغم من الخلط المتعمد ـــ وغير الفاشل حتى الآن ـــ في تعميم مصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تعدو أن تكون كلام حق يراد به الباطل، حيث تم نسف المسلمات السياسية التي يتصدر سلم أولوياتها تحديد العدو والصديق كمقدمة للبدء بالخطوات الأولى لرسم الاستراتيجيات، فكيف لمن يحتكم إلى الحدود الدنيا من العقلانية والمنطق أن يقتنع إن الإدارات الأمريكية تهتم بحقوق الإنسان، وتقدم الخير في الوقت الذي لم يعرف العالم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى بؤرة للتوتر والاضطراب وافتعال الحروب والنزاعات إلا وكان لواشنطن حصة الأسد في ذلك؟ وكيف يمكن لأنصار القانون الدولي والحرية أن يثقوا بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي التي تترك مجلس الأمن معلقاً على مشنقة الفيتو الأمريكي لمنح حكومة نتنياهو كل الوقت المطلوب وأكثر للاستمرار بجريمتي الإبادة الجماعية والتهجير القسري، وقد يكون مشروعاً التساؤل عن إمكانية تدخل القوى العظمى التي تصنفها واشنطن في خانة الخصومة والعدائية، مثل الصين وروسيا، في حين أن أرقام بيانات الجمارك الصينية تشير إلى أن قيمة الشحنات من الصين إلى الولايات المتحدة بلغت عام 2023م. /500،3/ مليار دولار على الرغم من انخفاضها بنسبة (13،1%)، وهناك عشرات التساؤلات الموضوعية التي تفرض ذاتها في أي ملف يوضع على طاولة التشريح والتحليل، ومثل هذه التناقضات المركبة والمعقدة والمزمنة تظهر بجلاء في منطقتنا التي كانت على الدوام مسرح عمليات تتصارع عليها القوى المتنافسة وتتقاسم الغنائم، وتترك للشعوب دفع الضريبة والتكلفة، ومن حق أي متابع مهتم أن يتساءل: كيف يستقيم فهم العلاقات التطبيعية المعتمدة أو تلك التي قيد العمل والتجهيز في الوقت الذي يقارب فيه أعداد الشهداء الفلسطينيين /37000/ شهيد غالبيتهم من الأطفال والنساء؟
والغريب ألا يكتفي جهابذة التحليل وقنوات نقل السيالة العصبية لروح الهزيمة بذلك، بل يصدعون الرؤوس بالتهويل من إقدام تل أبيب على تجهيز فلول جيشها المأزوم والمهزوم واتخاذ التدابير لاجتياح لبنان وكأن ذلك سهل وفي متناول اليد، وعلى الجانب الآخر قد لا يقل سوءاً عن هذه الصورة الحديث عن قرب القضاء المبرم والتام على الكيان المؤقت، وكأنه يحارب وحده، وليس جزءاً عضوياً من امبراطورية الشر العالمية…
الأدهى والأمر والأنكى والأكثر إيلاماً تلك التحليلات التي تفرد صفحات مطولة عن الخسائر المتوقعة لدى كل طرف في حال توسعت دائرة الحرب، وخرجت عن السيطرة، وتبدلت قواعد الاشتباك مضبوط الإيقاع، وهنا يطل علينا ذكر العودة للعصر الحجري بنكهات متعددة، وكأن من اتخذ قرار المقاومة لا يحسن تقدير التكلفة والفاتورة المطلوب دفعها مسبقاً ولاحقاً، وقد وصل الأمر ببعض الفرسان لتقديم رواية اليوم بما يناقض الرواية التي قدمها بالأمس بشكل يوحي فعلاً أن التحليل وتقديم القراءات والتنبؤات يندرج في إطار (شغلة من ليس لدية شغل)، وفي أحسن الأحوال يبدو التنبؤ السياسي والعسكري قريباً من التنبؤ بحالة الطقس، مع أن علوم المستقبل أصبحت فرعاً علميا مستقلا ومتكامل الأركان، بأسسه ومقولاته ونظريته ومناهجه البحثية الخاصة به، وهذا يذكرني بنشرة الأحوال الجوية أيام الاتحاد السوفييتي الذي كان يضم “15” جمهورية، وكانت نشرة الأخبار تستغرق قرابة نصف ساعة، وفي نهاية كل نشرة يكرر المذيع القول: (إذا أردت أن تعرف حقيقة الطقس غداً فانتظر إلى ما بعد الغد)، وإلى منظري التهويل بالويل والثبور وعظائم الأمور أقول: إذا أردتم أن تعرفوا حقيقة نتائج الحرب الكبرى فانتظروا إلى ما بعد الحرب، فمن اعتنق المقاومة نهجاً وعقيدة أعد العدة، واستعد لدفع الفاتورة مسبقاً، ولو كان الطرف الآخر المعادي بكل مكوناته متيقناً من نتيجة هكذا حرب لكان فرضها وأراح الكثيرين من أعباء السباحة في بحر من الأوهام للتنبؤ بحالة الطقس الجيوبولتيكي.
(موقع سيرياهوم نيوز-٣)