سيلفا رزوق
أكد مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية سفير روسيا الاتحادية في دمشق ألكسندر يفيموف، أن على الإرهابيين في إدلب أو في أي مكان آخر في سورية إلقاء أسلحتهم، والاستسلام، ونيل العقاب الذي يستحقونه، وإلا فإنّهُ سيتم تدميرهم، مشيراً إلى الضربات الدقيقة ضد المسلحين المسؤولين عن الهجوم الإرهابي البشع الذي استهدف الكلية الحربية في حمص، حيث شنّ الجيشان الروسي والسوري سلسلة من الضربات الدقيقة أدت إلى تدمير عدد كبير من معاقلهم ومستودعاتهم ومعداتهم وقوتهم البشرية.
مشدداً على أن هذه الضربات سوف تستمر حتى القضاء على الإرهاب في إدلب.
واعتبر يفيموف في حوار خاص مع «الوطن»، أن قصف المطارات المدنية السورية هو انتهاك صارخ للقانون الدولي ولسيادة سورية، وموسكو ترفض رفضاً قاطعاً هذه الأعمال التي تُشكّلُ تهديداً للسكان المدنيين، محذراً من أنه في ظل الأحداث التي تجري في غزة، فإن مثل هذه الخطوات غير المسؤولة محفوفة بعواقب أكثر سلبية على المنطقة بأكملها مديناً هذه الهجمات ومطالباً في الوقت نفسه بإنهائها فوراً.
السفير يفيموف اعتبر أن «مسار أستانا»، لا يزال المسار الوحيد الفعَّال في إطار التسوية السياسية في سورية، كاشفاً عن إمكانية عقد الاجتماع المُقبل في إطار هذا المسار قبل نهاية هذا العام.
ولفت يفيموف إلى تأثير العملية العسكرية الخاصة بأوكرانيا في العلاقات الروسية – السورية، مشيراً إلى أن قدرات بلاده المالية الآن محدودة إلى حدٍ ما، نتيجة العقوبات الغربية غير المسبوقة المفروضة على روسيا، كما أن روسيا تواجه في أوكرانيا الآلة العسكرية لحلف شمال الأطلسي برمتها، وهذا يتطلب نفقات ضخمة، لكن مع ذلك لم يكن هناك «تراجع» في أي مجال من مجالات التعاون بين روسيا وسورية، سواء في العام الماضي أو هذا العام.
وبخصوص ما يجري في غزة اعتبر يفيموف أن الأحداث المأساوية في غزة ليست سوى حلقة واحدة في سلسلة طويلة من نفاق الدول الغربية، مشدداً على أن روسيا سوف تظل مشاركاً مهماً في عملية السلام في الشرق الأوسط، مهما بذل الغرب من جهود لإبعادها عن ذلك الاتجاه.
وبين يفيموف أن الأحداث في أوكرانيا أعطت زخماً قوياً وحاسماً للانتقال من نموذج هيمنة القطب الواحد للنظام العالمي الذي تهيمن عليه مجموعة ضيقة من الدول الغربية إلى نظام متعدد الأقطاب أكثر إنصافاً.
وقال: «أنا سعيد للغاية لأن سورية في طليعة الدول التي أعلنت صراحة موقفها المستقل فيما يتعلق بالقضية الأوكرانية وعدد من القضايا الرئيسة الأخرى في عصرنا، وأغتنم هذه الفرصة، وأودُّ أن أشكر الرئيس بشار الأسد، وقيادة سورية بأكملها وشعبها على هذا الموقف الشجاع والمبدئي».
وفيما يلي النص الكامل للحوار:
بعد الهجوم الإرهابي على الكلية الحربية في حمص، كان هناك رد قوي من الجيش العربي السوري بالتعاون مع القوات الفضائية الروسية على المجموعات الإرهابية في إدلب.. اليوم كيف تقيّمون وضع هذه المجموعات؟
•• في البداية، أودُّ التأكيد أن موقفنا المبدئي الذي نتمسك به دائماً تجاه الإرهابيين سواء في إدلب أو غيرهم، هو موقف واضح جداً: إذ عليهم إلقاء أسلحتهم، والاستسلام، ونيل العقاب الذي يستحقونه، وإلا فإنّهُ سيتم تدميرهم.
أما بالنسبة لرد الفعل على الهجوم الإرهابي البشع في حمص، فأنت على حق، فقد شنّ الجيشان الروسي والسوري سلسلة من الضربات الدقيقة ضد المسلحين المسؤولين عن هذا الاعتداء الإرهابي، ما أدى إلى تدمير عدد كبير من معاقلهم ومستودعاتهم ومعداتهم وقوتهم البشرية.
في الواقع لقد تمَّ ضرب الإرهابيين قبل أحداث حمص في 5 تشرين الأول، وأؤكد أنه سيستمر حتى القضاء على الإرهاب في إدلب، وأنا على قناعة أن الجهاديين المتحصنين في هذه المنطقة يدركون جيداً مدى ثبات موقفنا، حيث إنهم كانوا محاصرين بشكل أساسي في إدلب وليس لديهم أي مكان للهروب من هناك.
كما أنه من الواضح أن المحاولات التي بذلها الرعاة الغربيون لمساعدة أتباعهم سواء من خلال تبييض أعمالهم أو إعادة تسميتهم وهو ما شهدناهُ في السنوات الأخيرة، قد باءت بالفشل فإنّهُ ليس لدى الإرهابيين آمال أخرى وإن كانوا ما زالوا قادرين على المقاومة، لكنَّ نهايتهم أصبحت بالفعل نتيجة مفروغ منها.
بخصوص قصف المطارات المدنية السورية، والذي يشكل خرقاً للقانون الدولي ويهدد حياة المدنيين، ما تقييم روسيا لهذه الهجمات المنتظمة التي تَشنُها إسرائيل؟
•• في رأينا، الوضع هنا واضح للغاية فهذه الغارات الجوية ـ كما ذكرت – هي انتهاك صارخ للقانون الدولي ولسيادة سورية، ونرفض رفضاً قاطعاً هذه الأعمال التي تُشكّلُ تهديداً للسكان المدنيين.
علاوة على ذلك، في ظل الظروف الحالية، ومع الأخذ في الحُسبان الأحداث التي تجري في غزة، فإن مثل هذه الخطوات غير المسؤولة محفوفة بالعواقب الأكثر سلبية على المنطقة بأكملها ونحن ندينها ونطالب بإنهائها فوراً، كما أن وزارة الخارجية الروسية تُصدر بانتظام تصريحات من هذا النوع كان آخرها في 27 تشرين الثاني فيما يتعلق بالهجمات الأخيرة على مطار دمشق الدولي.
تراجع الحديث عن اجتماعات اللجنة الرباعية وبدا كأن هذا المسار لم يعد قائماً.. هل توقف فعلياً هذا المسار وأين وصلت الجهود الروسية فيما يخص محاولات التقريب بين دمشق وأنقرة؟
•• مازلنا نعتبر إعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة أحد العوامل المهمة في التسوية السورية ونحن مقتنعون أن استئناف علاقات حسن الجوار التي تقوم بطبيعة الحال على احترام سيادة سورية وسلامة أراضيها، لن يكون له تأثير إيجابي في الوضع في سورية فحسب، بل سيسهم أيضاً في التحسن الشامل للوضع في المنطقة كلها.
أنتم تعلمون جيداً أنه في نهاية عام 2022 وفي النصف الأول من عام 2023، وبوساطتنا النشيطة، تم تنظيم عدة اجتماعات في موسكو بين ممثلي دمشق وأنقرة، بما في ذلك على مستوى وزراء الدفاع ووزراء الخارجية.
بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية في تركيا في أيار من العام الحالي، المفاوضات من هذا النوع لم تعُدْ تُعقد، ومع ذلك لا جدوى من الحديث عن إنهاء هذا التنسيق، على الأقل لأن هدف هذه المفاوضات الرئيس يلبي مصالح كلٍ من الجمهورية العربية السورية والجمهورية التركية على المدى البعيد.
ولسوء الحظ فإن الأمور لا تحدث دائماً بالسرعة التي نرغب بها جميعاً، ففي بعض الأحيان تتدخل عوامل غير مُتوقعة وتغيّر الظروف القائمة. فعلى سبيل المثال أدى التدهور الحاد للوضع في منطقة النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي في هذه المرحلة بطبيعة الحال إلى تحويل الاهتمام الرئيس إليه ولكل الدول في الشرق الأوسط، ما أجبرها على دفع مشاكل أخرى مُهمة إلى الخلف بشكل مؤقت، وبمجرد أن يسمح الوضع بذلك، سيتم استئناف العمل على تقريب المواقف بين دمشق وأنقرة.
ما الجديد بخصوص اللجنة الدستورية؟ وهل لا يزال بيدرسون مصمماً على انعقادها في جنيف؟ ولماذا جمد هذا المسار حالياً؟ وهل يمكن العودة إلى مسار أستانا؟
•• أعتقد أنّك تُدركين جيداً أسباب توقف اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، حتى الآن يجري البحث الحثيث عن منصة بديلة تناسب جميع المشاركين في هذه العملية، كما أن غير بيدرسون يُشارك في هذه العملية أيضاً، ولا أخفي أن هذا ليس بالأمر السهل، لكنّه بالطبع ليس ميؤوساً منه، وأعتقد أنه عاجلاً أم آجلاً سيتم العثور على مثل هذا الموقع وسيتم استئناف عمل اللجنة الدستورية.
أما «صيغة أستانا»، فإن استعمال كلمة «العودة» هو غير مُناسب، إذ لم يتركها أحد، ولقد كانت وما زالت المسار الوحيد الفعَّال حقاً في إطار التسوية السياسية في سورية، وعلى مدى السنوات الماضية رأينا أنه في أستانا فقط كان من الممكن تحقيق التقدم في هذا الاتجاه، ويُمكن عقد الاجتماع المُقبل في إطار هذا المسار قبل نهاية هذا العام.
حُدد أكثر من موعد لانعقاد اللجنة الاقتصادية المشتركة بين سورية وروسيا لكن في كل مرة كان هناك تأجيل.. كيف تصفون اليوم هذه العلاقات؟ ولماذا تأخر انعقاد هذه الاجتماعات؟ وهل العملية العسكرية في أوكرانيا هي السبب؟
•• أنتم على حق، آخر اجتماع للجنة الحكومية المُشتركة انعقد في عام 2019، ومع ذلك فإن العمل بهذا الشكل على مدى السنوات الأربع الماضية لم يتوقف، بل أود أن أقول: إنه ارتفع بوتيرة جديدة، إذ يتم التنسيق بشكل دوري بينَ الرئيسين المشاركين في هذه اللجنة الحكومية المشتركة والتي عُقد آخرها في نهاية تشرين الأول في موسكو والذي تَمّ خلاله توقيع اتفاقية مهمة في مجال توسيع التعاون التجاري – الاقتصادي بين بلدينا، وهذا يُعدُّ خطوة مهمة للغاية، وليس لديّ أدنى شك في أنها ستصبح حافزاً لمزيد من تعزيز علاقاتنا الثنائية.
قدراتنا المالية الآن محدودة نتيجة العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا والعقوبات الغربية غير المسبوقة لكن اقتصادنا صمد وحقق نمواً قوياً وتعاوننا مع سورية متواصل
كما ترون، يمكن أن يكون التنسيق المصغّر أيضاً مثمراً جداً، بل أودُّ أن أقول: إنه في بعض النواحي أكثر إنتاجية وربحية من الاجتماعات الواسعة النطاق التي يشارك فيها العشرات من ممثلي الطرفين. فمن ناحية هو يوفر المزيد من الفرص لإجراء حوار موضوعي ومتعمق، وبالتالي تحقيق تقدم سريع، ومن ناحية أخرى، فإنه يتطلب الحد الأدنى من التكاليف اللوجستية والمالية.
ومرة أخرى فإنه خلال جائحة كوفيد، اكتسب الاتصال بين الجانبين عبر تقنية الفيديو تطوراً ملحوظاً، ومنذُ ذلك الحين، تحوّل ممثلو العديد من وزاراتنا وهيئاتنا الحكومية، الذين كانوا يجتمعون سابقاً مع زملائهم السوريين مرة واحدة سنوياً كجزء من اجتماعات اللجنة الحكومية المشتركة إلى التواصل المُنتظم «عن بعد»، وهذا التفاعل يؤتي ثماره أيضاً. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك مُذكرة التفاهم في قطاع الرعاية الصحية الموقّعة على هامش اجتماع تشرين الأول المذكور أعلاه للرئيسين المشاركين في اللجنة الحكومية المشتركة في موسكو، والتي تمّ الاتفاق عليها عن بُعد من خلال الإدارات المَعنية.
أما ما يتعلق بتأثير العملية العسكرية الخاصة في العلاقات الروسية – السورية. بالطبع، قدراتنا المالية الآن محدودة إلى حدٍ ما، والنقطة المُهمة هي العقوبات الغربية غير المسبوقة المفروضة على روسيا، بما في ذلك تجميد أصولنا في الحسابات الأجنبية والتي تصل إلى ما يقرب من 300 مليار دولار أميركي، وحقيقة إننا في أوكرانيا نواجه في الواقع الآلة العسكرية لحلف شمال الأطلسي برمتها، وهذا يتطلب نفقات ضخمة.
لكن في الوقت نفسه، لمْ يصمد اقتصادنا بشرف فَحَسبْ أمام «عصا العقوبات» بل سيُظهرُ هذا العام نمواً قوياً للغاية – حتى وفق توقعات صندوق النقد الدولي الذي هو ليس صديقاً لنا بأي حال من الأحوال فإنه سيكون 2.2 بالمئة، أما وفق تقديرات خبرائنا، وأنا مقتنع بأنهم أكثر موضوعية، فإنه سيصل إلى مستوى 3 بالمئة، وهذا مؤشر جيد للغاية ويعكس بشكل موضوعي الواقع الراسخ له.
ومن الأمثلة الممتازة على صحة هذه الأرقام العلاقات الروسية – السورية، وأودُّ أن أَلفت انتباه القراء إلى أنه لم يكن هناك «تراجع» في أي مجال من مجالات تفاعلنا سواء في العام الماضي أو هذا العام، وكما قلنا في بداية الحديث: يواصل جيشنا جنباً إلى جنب مع السوريين هزيمة الإرهابيين في إدلب وكذلك في المناطق الصحراوية في وسط وشرق البلاد كما تعمل شركاتنا بشكلٍ فعّال هنا، وتتم مناقشة مشاريع مُستقبلية جديدة.
كما أنه خلال المنتدى الثقافي الدولي التاسع الذي عُقد في تشرين الثاني في مدينة سانت بطرسبورغ، أعلن الرئيس بوتين أن فريقاً من المتخصصين لدينا قد أكمل بالفعل جميع الأعمال التحضيرية اللازمة لترميم قوس النصر في مدينة تدمر، وفي المستقبل القريب ستبدأ مباشرة أعمال الترميم، وكما تعرفون أن هذا ليس مشروعاً رخيصاً بأي حال من الأحوال.
كما نواصل تقديم ألف منحة دراسية سنوياً للتعليم المجاني في الجامعات الروسية – وهذه واحدة من أكبر الحصص، وهي أعلى فقط بالنسبة لبعض البلدان التي كانت في السابق جزءاً من الاتحاد السوفييتي.
وهناك برامج لإعادة تأهيل الأطفال السوريين الذين تعرضوا لإصابات جسدية وصدمات نفسية أثناء النزاع، كما يتم تخصيص الأموال لترميم المساجد والكنائس المُدمرة. ويتم تنظيم حفلات لفنانين روس في دمشق كان آخرها تلك التي أُقيمت في 21 تشرين الثاني في دار الأوبرا، ويمكن أن أسرد هذه القائمة لفترة طويلة جداً. لذلك، صدقوني فالعملية العسكرية الخاصة ليست عائقاً أمام علاقاتنا.
وقعت روسيا على عدد من المشاريع الاستثمارية في سورية هل من مشاريع قادمة وهل أنتم راضون عما تحقق حتى الآن؟
•• الشركات الروسية الموجودة في سورية تتعامل بمسؤولية كبيرة تجاه التزاماتها، فهي تقوم بالكثير من العمل في مختلف قطاعات الاقتصاد، كما تقوم ببناء مرافق جديدة للبنية التحتية المهمة وترميمها، وخلق فرص عمل لمواطني الجمهورية العربية السورية. لذلك، يمكن وبلا شك اعتبار أنشطة شركاتنا في إطار عقودها الحالية ناجحة.
والشيء الآخر هو أن العلاقات الروسية – السورية في المجال الاقتصادي كله لا تزال إلى حدٍ ما أقل من المستوى العالي للعلاقات السياسية والعسكرية المتبادلة والقائمة بين بلدينا. ويرجع ذلك إلى عدد من العوامل الموضوعية المُقيدة لها. وفي مُقدمة هذه العوامل أقصد ضغط العقوبات الاقتصادية. ولكن لا يوجد هناك سبب للتشاؤم، فالعقبات القائمة كبيرة، ولكنها ليست مستحيلة الحل بأي حال من الأحوال.
دعني سعادة السفير أنتقل بالسؤال عن ملفات المنطقة، من خلال ما شاهدناه في العدوان على غزة كان من الواضح استخدام الغرب للمعايير المزدوجة في التعاطي مع الشهداء الفلسطينيين ومع حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، وهذا ما كانت تتحدث عنه موسكو منذ سنوات وتصف الغرب بالمنافق.. هل العدوان على غزة كشف الوجه الحقيقي للدول الغربية؟ وهل يمكن لذلك أن يغير من سياسات الغرب العدوانية؟
•• لقد كان نفاق السياسة الغربية واضحاً منذ فترةٍ طويلة. وتعود جذوره إلى عصر الاستعمار، عندما كانت الدول الأوروبية التي كانت تختبئ وراء شعارات «نبيلة» حول مهمتها الحضارية، تستغل وتسرقُ بلا رحمة شعوب آسيا وإفريقيا والأميركيتين.
وعلى الرغم من كل «الندم» العلني من جانب السياسيين الغربيين، فإن موقفهم الحقيقي تجاه بقية العالم لم يتغير، وما زالوا ينظرون إلى جميع البلدان الواقعة خارج مجتمعهم الضيق من منظور المصلحة الذاتية البحتة كأسواق لتصريف سلعهم، ومصادر للموارد الطبيعية والبشرية، وغير ذلك.
لقد انتقدت روسيا منذ فترة طويلة وباستمرار نهج النفاق الذي تتبعه الدول الغربية على مرِّ السنين، كشفنا بانتظام، باستخدام أمثلة محددة، عن المعايير المزدوجة التي يشكل تطبيقها عنصراً أساسياً في سياستهم الخارجية. ومن المؤسف أن الأحداث المأساوية في غزة بهذا المعنى ليست سوى حلقة واحدة في سلسلة طويلة من نفاق هذه الدول.
إن الكارثة التي حدثت في غزة واضحة للجميع. وحتى المنظمات المؤيدة للغرب حصرياً، التي تسمى المنظمات «غير الربحية» و«مدافعة عن حقوق الإنسان» مثل منظمة العفو الدولية، استيقظ ضميرها فجأة.
إنّ الأدلة التي تؤكد وفاة عدة آلاف من المدنيين أغلبهم من النساء والأطفال، والتدمير الممنهج الذي استهدف البنية التحتية المدنية – كالمستشفيات والمدارس والمساجد، والتي التجأ إليها العديد من اللاجئين – لا يمكن إنكارها. ولكن، كما نرى، يتمكن الساسة الغربيون من غض الطرف حتى عن ذلك وشاهدنا قبل الأمس، في 8 من الشهر الجاري مثالاً جديداً عن ذلك عندما أفشلت أميركا مرة أخرى مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة وبذلك حكمت على آلاف المدنيين أيضاً بالموت.
ومع ذلك، وفي ظل الضغط المتزايد باستمرار للمشكلات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والقيمية، وكذلك بسبب عدم الرضا المتزايد عن نهجها من جانب أغلبية البشرية، سيتعين عليهم الاعتراف بأنهم لم يعودوا مهيمنين، بل فقط أحد المشاركين العديدين في العملية السياسية الدولية ويجب أن يأخذوا في الحسبان حقوق ومصالح جميع دول وشعوب العالم.
لطالما روسيا كانت من الدول الراعية لعملية السلام في الشرق الأوسط، اليوم نسمع عن مبادرات عربية وأميركية لحل الدولتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكأن هناك سعي لإبعاد روسيا عن هذا الملف، هل يمكن لروسيا أن تبقى راعية لأي مسار تفاوضي في المنطقة؟
•• لقد دعت روسيا منذ عقود عديدة وباستمرار، إلى تسوية في الشرق الأوسط على أساس تنفيذ عدد من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، التي، أودُّ أن أُذكركم بأنها ذات طبيعة مُلزمة، وجوهرها هو إنشاء دولتين مستقلتين ذواتي سيادة – فلسطين وإسرائيل وهذا هو موقفنا المبدئي والثابت وغير الانتهازي.
لقد عملنا جاهدين على تنفيذ خطة التسوية الثنائية في إطار ما يُسمى «اللجنة الرباعية للشرق الأوسط» والتي تتألف من روسيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والتي أصبحت منذ عام 2002 الآلية المُتعددة الأطراف الهامة والوحيدة المُعترف بها دولياً لدعم عملية السلام، ومع ذلك، فإن الأميركيين، وهذا ليس سراً على أحد، بذلوا قصارى جهدهم لإبطاء أنشطتها، وسمحوا فقط بتلك المبادرات التي تتوافق مع مصالحهم ثم تصوروا أنهم يستطيعون الاستغناء عن «اللجنة الرباعية» وأي رعاة مشاركين على الإطلاق وقرروا احتكار عملية التسوية في الشرق الأوسط، والنتيجة واضحة للعيان. كما أن العودة الآن إلى الصيغة السابقة بالنسبة لهم تعني الاعتراف بأخطائهم، وكما هو الحال دائماً، فإنهم ليسوا مستعدين للقيام بذلك، ومن هنا جاءت المحاولات التي أشرت إليها بحق لإبعاد روسيا جانباً.
هذه المحاولات محكوم عليها بالفشل لعدة أسباب:
أولاً، أصبح من الواضح للجميع الآن كيف سينتهي هذا النوع من المبادرات الأحادية الطائشة. ومن الواضح أنه من الضروري العمل معاً لحل هذه القضية المعقدة، كما يقولون، «العالم كله».
ومن دون روسيا وخبرتها التي لا تُقدّر بثمن على مسار التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية فإن هذا أمر لا يمكن تصوُّره.
ثانياً: لدينا على عكس العديد من الدول الأخرى، علاقات ودية مع فلسطين والدول العربية المحيطة بها وعلاقات مع إسرائيل.
ثالثاً: إن نهج روسيا الثابت وغير الانتهازي، الذي سبق أن ذكرته أعلاه، والمعروف جيداً والمقدر في المنطقة، يسمح لنا بأن نكون وسيطاً محايداً حقاً.
رابعاً: نحن نعلم يقيناً أن الأغلبية العظمى من دول العالم تتخذ مواقف مماثلة لمواقفنا، وقد تجلى ذلك بوضوح في قمة مجموعة البريكس الاستثنائية التي عُقدت بشأن القضية الفلسطينية – الإسرائيلية، وأثناء التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع القرار المتعلق بأحداث في غزة.
لذا فمن المؤكد أن روسيا سوف تظل مشاركاً مهماً في عملية السلام في الشرق الأوسط، مهما بذل الغرب من جهود لإبعادنا عن ذلك الاتجاه.
هناك من يعتبر أن موسكو استفادت من العدوان على غزة بحيث باتت أوكرانيا شبه منسية من الغرب الذي لم يعد قادراً على تقديم الدعم لها كما كان في السابق. كيف يمكنكم التعليق على وجهة النظر هذه؟
•• إنّ مثل هذه التصريحات تُسمع بشكل رئيسي من أولئك المسؤولين بشكل مباشر عن إشعال نار الحروب في العقود الأخيرة، وهُم يعتقدون أنهم بهذه الطريقة سيكونون قادرين على إخفاء دورهم المُدمر الحقيقي في هذه الأحداث، وتحميل روسيا المسؤولية.
إلا أن هذا أمل ساذج للغاية، مبني على تفكير استعماري لم يتم القضاء عليه حتى الآن، وهو يقوم على افتراض أن الناس في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية غير قادرين على التحليل المُستقل، وهُم سوف يصدقون كل ما يُقال لهم. ولكن هذا ليس صحيحاً على الإطلاق.
وبالنسبة لأغلبية البشرية، كان من الواضح منذ فترة طويلة ما هي الحقيقة، فمن ناحية يُدرك الناس في عشرات البلدان جيداً أن الاتحاد السوفييتي وفيما بعد روسيا ساعدوهم في بناء المصانع والطرق والمدارس وقدموا لمواطني هذه الدول التعليم والعلاج ونحن نواصل بنشاط هذا العمل الإنساني حتى اليوم.
ومن ناحية أخرى، فإن الناس في هذه البلدان يتذكرون جيداً أن الولايات المتحدة وحلفائها على العكس من روسيا، إذ جاؤوا إليها إما لنهب ثرواتها الطبيعية، كما يحدث الآن وعلى سبيل المثال في منطقة ما وراء الفرات، أو لقصفها بالكامل، وربما لتقسيمها ووضع عملائهم في السلطة.
ويمكن أن أُضيف أكثر من ذلك، إنه إذا كانت المأساة في غزة مُفيدة لأحدٍ ما في سياق الحديث عن أوكرانيا، فبالطبع أولاً وقبل كل شيء للغرب، وكما أشرتَ بحق، لم يَعُد سراً على أحد أن الغرب سئم ومنذ فترة طويلة من تقديم المُساعدات لكييف التي تختفي كما لو كانت في مشروع لا نهاية له ذلك من دون أن تعطي النتائج المرجوة منها.
ومع ذلك فإنه مع الأخذ في الحسبان تلك التصريحات المتشددة التي تمّ الإدلاء بها على مدار العام والنصف الماضيين، وتلك الإجراءات غير المسبوقة التي تم اتخاذها لدعم أوكرانيا ضد روسيا، فليس من السهل إيقاف أو حتى تقليل تلك المساعدات بشكل كبير إلى نظام زيلينسكي من دون تكاليف هائلة لتحسين صورتهم، لكن جولة جديدة من التصعيد في الشرق الأوسط توفر مبرراً رائعاً لذلك، فيمكنهم أن يقولو: نحن الآن مشغولون بأمور أكثر إلحاحاً، وبالتالي لم يَعُدْ بإمكاننا إعطاء كييف الأسلحة والأموال بالكميات نفسها كما في السابق.
بالحديث عن الحرب الأوكرانية، الرئيس فلاديمير بوتين وصف مؤخراً ما يجري بأنه معركة وجودية بين الحضارة الروسية المقدسة والغرب المتعجرف، كيف ترون نهاية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا؟ وكيف تنظرون لتداعيات ما يجري على الساحة الدولية؟
•• يصادف يوم 21 تشرين الثاني مرور 10 سنوات على بداية ما يسمى: «الميدان الأوروبي» الذي كان عبارة عن احتجاجات مناهضة للحكومة في وسط كييف.
اسمحوا لي أن أذكركم بأن قضيتهم كانت قرار الرئيس الشرعي لأوكرانيا فيكتور يانوكوفيتش بتأجيل التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي من أجل دراسة الوضع مرة أخرى وذلك من وجهة نظر التزامات كييف بموجب اتفاقية منطقة التجارة الحرة داخل رابطة الدول المستقلة. الذي كان في جوهره أنه أراد مرة أخرى أن يزن إيجابيات وسلبيات مسألة اختيار الاتجاه الرئيسي لتطوير السياسة الخارجية الأوكرانية.
وقد أثارت هذه الخطوة غضباً في الغرب وبشكل خاص في الولايات المتحدة وحلفائها وهي التي ألهمت ومولّت الاحتجاجات التي بدأت قبل 10 سنوات، ثم وافقت على الانقلاب غير الدستوري في نهاية المطاف وبدؤوا في تحريض القوميين الذين وصلوا إلى السلطة لبدء حرب أهلية مع سكان الدونباس، الذين لم يوافقوا على سياسات القيادة الجديدة غير الشرعية للبلاد.
على مدى السنوات الثماني التالية، تعمّد الغرب تخريب الجهود التي بذلتها روسيا لحل الأزمة سلمياً في إطار اتفاقيات مينسك الموقعة، وفي الوقت نفسه ضخ الغرب في نظام كييف المال والسلاح كما صرّح بذلك في العام الماضي وبشكل مباشر كل من أنجيلا ميركل وفرانسوا هولاند، الزعيمان السابقان لألمانيا وفرنسا، وهما الدولتان اللتان كانتا بالمناسبة ضامنتين لعملية مينسك.
وفي الوقت نفسه سامح الغرب الأوكرانيين الواقعين تحت وصايتهم على أي جرائم أرتُكبت بحق الشعب الروسي في أوديسا وماريوبول التي أشير إلى أنه لم يتم التحقيق فيها بعد، بما فيها قتل المدنيين في دونباس وهكذا دواليك.
أما ما الغرض من كل هذه الإجراءات؟ فهو بادئ ذي بدء هو خلق تهديد وجودي لروسيا، وأريد أن أشير مرة أخرى إلى أن هذه المواجهة لم تبدأ من قِبَلِنا قبل عشر سنوات، بل على العكس من ذلك، لقد قلنا دائماً وما زلنا نقول إننا مستعدون للحوار، ولكن فقط على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة. لكن الغرب لا يريد التحدث مع أحد في مثل هذه الشروط ولذلك فنحن ليس لدينا الآن خيار آخر سوى الفوز في هذه المعركة بالقوة.
أما بالنسبة لعمليتنا العسكرية الخاصة فكما تعلمون لديها أهداف مُحددة للغاية، وقد عبَّر عنها الرئيس فلاديمير بوتين في بدايتها ولم تتغير، ومن المهم للغاية بالنسبة لنا أن نحمي أنفسنا من التهديدات التي يحاولون خلقها لنا على الأراضي الأوكرانية. وهذا يتطلب إزالة النازية وتجريد السلاح من أوكرانيا، فضلاً عن ضمان وضعها المحايد، عندئذٍ ستنتهي عمليتنا بمجرد الانتهاء من جميع هذه المَهام بالكامل.
أما فيما يخص العواقب على الساحة الدولية فهي واضحة تماماً، لكنّ الشيء الرئيسي هو أن الأحداث في أوكرانيا أعطت زخماً قوياً، بل أودُّ أن أقول حاسماً للانتقال من نموذج هيمنة القطب الواحد للنظام العالمي والذي تهيمن عليه مجموعة ضيقة من الدول الغربية إلى نظام متعدد الأقطاب أكثر إنصافاً حيث تكون هناك مُساواة حقيقية، ويمكن ضمان الحقوق لجميع الدول والشعوب وضمان مصالحها المشروعة.
لقد أظهرت العملية الخاصة بوضوح نقطتين مهمتين، أولهما أنه لم تعد الولايات المتحدة وحلفاؤها يمتلكون قدرات حقيقية للحفاظ على تفوقهم الكامل، وكما ذكرتُ سابقاً فقد فشلوا ليس فقط في هدم اقتصادنا من خلال العقوبات وهذا ما كانوا يُعوّلون عليه بالضبط، بل فشلوا حتى في كبح نموه، كما أنه لم يكن ولن يكون من الممكن هزيمتنا في ساحة المعركة، على الرغم من إنفاق موارد هائلة حقًا لتحقيق هذا الهدف.
أما النقطة الثانية فهي أنها فشلت في إجبار العالم على عزل روسيا وهو أن أغلبية البشرية الآن لا ترغب في اتباع قيادة الغرب بشكل أعمى فَحَسْبْ، بل لديها أيضاً الإرادة السياسية والقُدرات الاقتصادية للتصرف بناءً على مصالحها السيادية في المقام الأول، بغض النظر عن واشنطن وحلفائها.
وأنا سعيد للغاية لأن سورية في طليعة الدول التي أعلنت صراحة عن موقفها المستقل فيما يتعلق بالقضية الأوكرانية وعدد من القضايا الرئيسية الأخرى في عصرنا. وأغتنم هذه الفرصة، وأودُّ أن أشكر سيادة الرئيس بشار الأسد، وقيادة سورية بأكملها وشعبها على هذا الموقف الشجاع والمبدئي.
سيرياهوم نيوز1-الوطن