محمد عبد الكريم أحمد
في عودة خطيرة إلى سياسة معاقبة السودان ومسؤوليه، أقرّت إدارة جو بايدن، مطلع حزيران الجاري، عقوبات مالية وقيوداً على تأشيرات السفر ضدّ الأطراف التي سيَثبت تورّطها في العنف الدائر في هذا البلد. وجاءت هذه الخطوة بعد يوم واحد فقط من إعلان الجيش السوداني تعليق مشاركته في محادثات جدة، في ما بدا دلالة على اقتناعه بأن راعيَي المحادثات (السعودية والولايات المتحدة) لا يمارسان الضغط المتوقّع من قِبَله على قوات «الدعم السريع» (لاعتبارات المصالح الاقتصادية لدى الأولى، والسياسة الاستراتيجية الأوسع في القرن الأفريقي وإقليم الساحل وتشابكها مع الأدوار الروسية والإقليمية لدى الثانية)، وأنهما يعملان على إطالة المفاوضات من دون وضع جدول أعمال واضح وملزم لإعادة الاستقرار، على نحو سيكون من شأنه في نهاية المطاف تكريس الوضع القائم.
العقوبات الأميركية: مقاربة مضلّلة
جاء قرار فرض العقوبات تنفيذاً لأمر جديد كان الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد وقّعه مطلع أيار الفائت، يجيز فرض عقوبات على «المسؤولين عن تهديد السلم والأمن والاستقرار في السودان»، أو من يعوّقون الانتقال الديموقراطي فيه، أو يستخدمون العنف ضدّ المدنيين، أو مَن أدينوا بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. وعلى رغم تأكيدات مسؤولين أميركيين أن القرار غير ذي صلة بقرار الجيش السوداني ترْك محادثات جدة، بالإشارة إلى الإعداد له والإعلان عنه بالفعل في وقته (مطلع أيار)، إلّا أن توقيت إنفاذه يعاكس ذلك. واستهدفت العقوبات، في شقّها المالي، أربع شركات «تُحقّق دخلاً من الصراع في السودان وتسهم فيه» بحسب وزارة الخزانة الأميركية، بينما شملت قيود منح التأشيرات مسؤولين من الجيش و«الدعم السريع» و«شخصيات محسوبة على نظام عمر البشير» (لم تعلَن أسماء هذه الشخصيات بعد، لكن ورد أن قائمتها لن تشمل رئيس «مجلس السيادة» عبد الفتاح البرهان، أو نائبه السابق محمد حمدان دقلو «حميدتي»).
ad
لم تبذل الرياض وواشنطن الجهود التي كانت ضرورية لحسم الأزمة في السودان
وبالنظر إلى قائمة الشركات الأربع (والتابعة بالتساوي لـ«الدعم» والجيش)، تتبيّن نيّة استخدام سلاح العقوبات كوسيلة مضلّلة للضغط على «طرفَي الأزمة». إذ إن استهداف شركة الصناعات الدفاعية المملوكة للجيش، أحدث نوعاً من الصدمة كونه موجّهاً ضدّ مؤسّسة دولتية تعمل وفق معايير معروفة مسبقاً، بينما أنشطة شركات «الدعم» (ومن أبرزها شركة الجنجويد للأنشطة المتعدّدة القابضة) تقوم بالأساس على معاملات سرّية ووسيطة مع شركات وأجهزة خارج السودان، وتحديداً في الإمارات، وربّما مع شركة «فاغنر» الروسية. ومن ثمّ، فإن تطبيق العقوبات يستهدف بالأساس الضغط على الجيش السوداني، وربّما بدفع من السعودية، التي يبدو أن قرار الأخير قد أصابها بالصدمة، وأنها تعتبره انتقاصاً من دورها ومكانتها الإقليمية، كما يستهدف تكثيف الضغط الأميركي «المزدوج» على أطراف الصراع، من دون الدفع بالضرورة نحو تسويته سياسياً.
ad
واشنطن والرياض: ماذا بعد؟
لم تبذل الرياض وواشنطن الجهود التي كانت ضرورية لحسم الأزمة في السودان عبر وضع كلّ طرف أمام مسؤولياته، وجنحتا إلى تأجيج الأزمة والابتعاد عن جذورها الحقيقية، كما أظهرتا نوعاً من الممالأة لقوات «الدعم السريع» وخصوصاً، التي ظلّت الأطراف الخارجية الداعمة لها مُطلّة من الباب الخلفي لفرض تسوية وفق ما تتطلّع إليه. وبالتوازي مع هذا التلاعب السعودي – الأميركي، ومواصلة الرياض شكلاً أداء دور القوّة الوازنة في الوساطات الدولية والإقليمية من دون تقديم مبادرة ملموسة، بدت المتغيّرات الإقليمية أكثر ملاءمة لمناورة البرهان، ومحاولته حسم الصراع لمصلحته، ومنع العودة إلى خطوط ما قبل 15 نيسان (وفق ما كانت تلمّح إليه محادثات جدة من منظوره). وجاء تجدّد الجهود الأفريقية لحلّ الأزمة، وإعلان تركيا وقوفها إلى جانب الجيش السوداني، والتململ المصري الصامت من الوساطة السعودية – الأميركية، ليوفّر ظروفاً مناسبة لرئيس «السيادي» للقيام بمناورته تلك.
ad
في المقابل، يؤشّر إشهار واشنطن سلاح العقوبات مجدّداً إلى عزمها على تعزيز الضغط على الجيش السوداني، وعدم إتاحة الفرصة أمام أيّ طرف لحسم الصراع، ريثما تؤتي الضغوط النتائج المرجوّة. وعبّر عن ذلك – على نحو غير مباشر – مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، بملاحظته أن الهدنة الممدَّدة لخمسة أيام (من 29 أيار) لم تحظَ باحترام الطرفَين، وأن ذلك يثير مخاوف واشنطن. ودلّت تلك الملاحظة، إضافة إلى ما أكّدته وزيرة الخزانة، جانيت يلين، أن العقوبات تستهدف وقف التدفّقات المالية اللازمة لتمويل دفع «رواتب الجنود»، على تكرار واشنطن أخطاءها السابقة في السودان، وتوقّعها في الوقت نفسه نتائج مغايرة، وهي السياسة التي ضاعفت من مثالب ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري»، ودفعت البلاد برمّتها إلى المواجهات العسكرية المفتوحة الراهنة، عبر الاكتفاء بتقديم حلول سياسية جزئية، ربّما على نحو متعمّد تماماً. ومن المتوقّع أن تتمدّد هذه الاستراتيجية في المرحلة المقبلة، بتفويض من «شركاء السودان» الخليجيين، سواء تحت مظلّة «الرباعية» أو ثنائياً، في مقابل تبديل بعض القوى الإقليمية المعنيّة سياساتها، وفكّ ارتباطاتها بالتدريج مع السعودية والإمارات في السودان، ومجمل القضايا المشتركة المتعلّقة به وبمستقبله.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية