| فراس عزيز ديب
يقول المثل الشعبي: «الملدوع من الحليب بينفخ باللبن»! لكن ليسَت كل الأمثال الشعبية تبدو صالحة للتطبيق في كلِّ زمانٍ ومكان، بما فيها تفاصيل حياتنا على المستوى الشخصي أو الوطني، تحديداً إننا في سورية وبعد أكثر من عشر سنواتٍ من الحرب، بتنا فيها أمام حالةٍ فريدة تبدو فيها التفاصيل الصغيرة نقاط قياسٍ لأزماتِ الآخرين، فما بالك بالتفاصيل التي تعيدنا إلى أساس ما عانينا ونعاني منه: المطالِب المُحقة!
سرقَت السويداء الحدث خلالَ الأيام الماضية، دعوات للتظاهرِ أعادت للأذهانِ على كاملِ التراب السوري ما جرى ربيع عام 2011 وما زلنا لم نخرج من بوتقتهِ حتى الآن، لتبدأَ التحليلات هنا وهناك وتبدأ معها سياسة «النَّفخ باللبن»، قلّة قليلة من تعَاطت مع الحدث بالكثير من هدوءِ الأعصاب، والأغلبية العظمى تعاطت معهُ بالقلقِ والخوف ولهذا الأمر مسبباته المنطقية.
يبدو في طليعةِ هذه الأسباب موقع السويداء التي لها من اسمها نصيب، والتي تشكِّل مع درعا بوابة الوطن الجنوبية والمطلة على جبهتنا العسكرية الأهم، ما يعني بأنها نقطةَ جذبٍ لكل من يفكر بإعادة عقارب الساعة إلى الخلف، كذلك الأمر يبدو الوضع الأمني غير المستقر في المحافظة مع انتشارِ عصابات الخطف والخارجين عن القانون، مادة أولية قد يحاول البعض البناء عليها لتعويم الفوضى، لنصلَ إلى الجانبِ الأهم وهو المتعلِّق بالتحريض الإعلامي الذي سبق هذا الحدث وجعل بعض القنوات تفرد لها مساحات واسعة لمناقشتِها وتحليلها، مع الإصرار على الربط بين الوضع المعيشي المتردي الذي يعيشه المواطن السوري وهو واقع لا يمكننا الهروب منه أو تجميله، وفكرة الاحتجاج، هذا الربط أو لنقل هذا الاستغلال، لم يكن عملياً «رواية رسمية سورية» هدفَت للهروب من تحمّل المسؤوليات، على العكس فالكلام الذي قالهُ رئيس الوزراء حسين عرنوس في لقائهِ الأخير مع «الوطن» كان واضحاً وصريحاً وفيه إجابات على كل التساؤلات، حتى لو كانت بعض الإجابات تمتلك حقائق لا نحب سماعها، لكنها بالنهاية حقائق لا يمكن الهروب منها، هذا الاستغلال جاءَ بتقريرٍ رسمي روسي تضمن عدةَ بنودٍ تسعى الولايات المتحدة لتنفيذها بعدَ نجاح سياسة الحصار بخنق الاقتصاد السوري للدفع بالوضع الداخلي نحو الانفجار أكثر، تحديداً في المناطِق التي لم يشملها الدمار بعد.
مرَّ يوم الجمعة بسلام، خرجت قلّة قليلة لتطالب بما تشاء وعادت حيث أتَت، بدت المخاوف ربما أكبر بكثير من الحدث، هذا التهويل ربما يتحمل مسؤوليتهُ الجميع باستثناء أبناء السويداء لكونهم المعنيين بالأمر، على هذا الأساس لابد من توضيح مغالطاتٍ أساسية قد تفيدنا في قادمات الأيام.
في الحقيقة غالباً ما يكون توجيه السهام نحو المنبوذين هو نوع من إعادة تسليط الضوء عليهم، قبل أسابيع وعندما أعلن رئيس وزراء لبنان السابق ومتزعم تيار المستقبل، سعد الحريري، عزوفهُ عن الحياة السياسية، قلنا ببساطة بأن على البعض عدَمَ الزج باسم سورية في هذا الحدث، فالدولة التي لا تزال تمتلك الكثير من أوراق القوة على المستوى الإستراتيجي، يجعلها منخرطة ولو جزئياً في لعبةِ إعادة رسم خرائط النفوذ السياسي في المنطقة، لن تكترثَ برحيلِ أو بقاء سياسي سعودي يحمل الجنسية الفرنسية وعملَ رئيساً لوزراء لبنان، بالسياق ذاته تماماً على البعض أن يكف عن إعطاء المدعو وليد جنبلاط مكاناً أكبر بكثيرٍ من حجمه، من ادِّعاءِ قدرته على تحريكِ تظاهراتٍ أو تأليبَ قرار مدينة بكاملها، هذا الكلام ليس فيهِ نفخاً بذاك البالون فحسب، لكنهُ يحتمل إساءة لأهلنا في السويداء بشكلٍ عام، ربما ما يقوله جنبلاط وغيره لا يتعدى ما يقولهُ ناشط سياسي هنا أو هناك لكن هذا لا يعني بأن له «موانة» انقلاب الشرفاء على الثوابت الوطنية، تحديداً أنه باتَ مكشوفاً منذُ أن دعم «جبهةَ النصرة» التي تحارب كل السوريين، وصولاً لدعواته الصريحة لارتكاب المجازر بحق كل من يقف تحت مظلةِ الوطن، بما فيهم أهلنا في السويداء الذين كانوا ولا يزالون صماماً لصمود الوطن، على هذا الأساس يجب الكف عن الربط بين هذا المأفون وبين ما يجري على الأقل من مبدأ: الضرب بالخرِف سياسيَّاً حرام!
كما لا يختلف اثنان بما فيهم أهلنا في السويداء، بأن بعض الذين أفرزتهم هذه الحرب اللعينة من هذه المدينة خرجوا ليتحدثوا بلسانٍ إسرائيلي صرف، لكن واقعياً هذا ليس حال السويداء فحسب، فقد خرج من حلب واللاذقية ودمشق، من فاقوا الإسرائيلي دونيةٍ لكن كم يشكلون؟ على هذا الأساس وُلدَت عند البعض طموحات الترويج لفكرةِ أن تكون السويداء «كياناً مستقلاً» يرتبط بشريانِ حياة مع فلسطين المحتلة، هذا الأمر لم يخفهِ أولئكَ الذين نصبوا أنفسهم ناطقين باسم أهلنا في الجبل وهم منهم براء، ولم تخفهِ شخصيات صهيونية من بينهم القائد السابق لسلاح الجو في الكيان الصهيوني أمير إيشل، وبالوقت ذاته دعمتهُ بعض الدراسات الصادرة عن معاهدَ أبحاثٍ ترى بأن الاستفادة من التجربة الانفصالية للأكراد أمر مفيد.
لكن بالمطلق فإن حسابَ الحقل لا يطابق حساب البيدر، فالجنوب السوري وتحديداً في كل من درعا والسويداء والقنيطرة، وإن شكَّلوا على مرِّ السنين خزاناً بشرياً أغنى المجتمع السوري بشخصيات بصمَت في شتى المجالات، لكنهُ لم يشكل أبداً خزان ثرواتٍ طبيعية قابلة للاستثمار ليسَ بهدف فتح شهية الطامعين على طريقةِ الجزيرة السورية فحسب، لكن بهدف جعل هذا الكيان المفترض قابلاً للحياة من مكتسباتهِ الذاتية على طريقة سرقة النفط السوري لدعم الجماعات الإرهابية، فأبناء الجبل بأغلبيتهم العظمى كما أبناء درعا نحتوا في الصخر عبر العمل الزراعي الذي كانَ صمام أمان للمنطقة الجنوبية بالكامل، بالوقت ذاته لا تبدو المنطقة هناك كما الجزيرة العربية السورية هي نقطة تلاقي مصالح إقليمية، هنا أنت محاط إما بفلسطين المحتلة أو الكيان الصهيوني وعليكَ أن تختار، عملياً لا نحتاج الكثير من الوقت لنفهم جوابَ من رفعوا عبر السنين رايةَ طرد كل محتل.
دعونا نتفق بأن الوضع المعيشي السيئ قد يدفع البعض لرفع الصوت تجاهَ إجراء هنا وإجراء هناك، هذا منطقي وطبيعي في حال تم تحت سقف الوطن، كما أنه من الضروري التأكيد على فكرة أن ليس كل من يطالب بأمرٍ ما هو عميل أو خارج عن القانون، هناك مطالب باتت فعلياً حديث كل السوريين، لكن هذهِ المطالب هي ليست مطالب محافظة أو مدينة هي مطالب كل المحافظات السورية من دون استثناء، يخطئ البعض عندما يتحدث عن مطالب محافظة أو منطقة لأنه ببساطة كمن يريد أن يقول: إن هذه المحافظة «منبوذة» عن عمد وهذا مُجاف للحقيقة. بالوقت ذاته يخطئ من يربط أي أمر بموضوع الكرامة، وكأن من لا يطالب بهذه الحقوق فقدَ كرامته، وهو ربما لم يطالب لأنه مدرك بأن الدولة لو امتلكت ما تمنَّعت.
في الجهة المقابلة فإن على البعض أن يستوعب فرضية أن تلاقي دعوات المطالب مع مصالح غير بريئة لا يلغي هذه المطالب، ولا حتى يجرِّم صاحبها إلا إن كان قد أعلن صراحةً بأن مطالبه تهدف استجلاب من يحميه.
في الخلاصة ستبقى العين على السويداء لأنها بموقعها وتركيبتها أنموذجاً لما يريده العدو من خلط الأوراق، لكن الجواب على هذه المخاوف بسيط وهو نابع أساساً من الإيمان بهذا الشعب، فلا تقل لي هل ستصمُد المدينة تجاهَ ما يراد لها، قل لي أين موقع السويداء وأهلها خلال سنوات الحرب حتى عندما فقدت الدولة السورية السيطرة على نصف مساحة أراضيها، هذه المقاربة فقط كفيلة بأن تجيب عن الكثير من التساؤلات.
(سيرياهوم نيوز-الوطن١٤-٢-٢٠٢٢)