د. سلمان ريا
ليست السويداء حدثاً طارئاً في الوعي السوري، ولا رقعة جغرافية منفصلة عن وجدان الوطن، بل هي مرآةٌ صافية لما تراكم في الأعماق من خيباتٍ وأحلام مؤجلة، من كراماتٍ ترفض المساومة، ومن وعيٍ جمعيٍّ يرفض أن يُختصر في طائفة أو يُحاصر في زاوية. السويداء ليست تمردًا، بل تذكيرٌ مؤلم بأن الدولة التي لا تُنصت لأبنائها، تُوشك أن تفقد حقها في تمثيلهم.
إن ما تشهده السويداء اليوم ليس سوى صفحة من كتابٍ سوريٍّ طويل، كُتب بالحبر والدم، بالوهم والرجاء، بالتنازلات التي قُدّمت باسم الوحدة، وبالخذلان الذي مورس باسم الاستقرار. لم تطالب السويداء بما يتجاوز الوطن، بل بما يعيد للوطن معناه: دولةٌ عادلة، دستورٌ حيّ، مواطنةٌ لا تستثني أحداً، وكرامةٌ لا تُختزل في خطابٍ أو جهاز.
في خضمّ هذه اللحظة الحرجة، يتكشّف عمق المأزق السوري: ليس في الجغرافيا وحدها، بل في فكرة الدولة ذاتها، كما تمّ اختزالها وتشويهها على مدى العقود الماضية.فالدولة حين تتحوّل إلى ظلّ لزعيم، وتفقد وظيفتها التمثيلية، تصبح عبئاً على مجتمعها لا حامياً له. إن الخوف المشروع من الانقسام لا يُعالج بالقوة، ولا يُطفأ بالاتهام، بل يبدأ من لحظة صدق تعترف بأن ما نعيشه ليس عقداً اجتماعياً، بل فراغاً سياسياً مُقنّعاً، تتسيده الولاءات الضيقة، وتُقصى فيه إرادة الأفراد، وتُختزل فيه الجماعات إلى ملفات أمنية أو أوراق تفاوض.
لقد آن الأوان لأن نكفّ عن اجترار مفردات السيادة المصطنعة، وننتقل إلى التفكير الجاد في ولادة الدولة التي لم تولد بعد. دولةٌ لا تستند إلى غلبة فريق، ولا إلى أيديولوجيا شمولية، بل إلى عقدٍ دستوريٍّ حرٍّ، يكون الفرد فيه صاحبَ حقٍ لا تابعًا، وتكون الجماعات فيه محترمةَ الخصوصية لا مُستَغَلّة باسمها، ويكون القانون فيه سيّد الجميع لا أداةً بيد الأقوى.
إن حرية الإنسان ليست منحة، بل أصل وجوده السياسي، وشرط انتمائه الحقيقي لأي كيان. فلا دولة تقوم على إخضاع الأفراد ثم الادعاء بحمايتهم، ولا وطن يُبنى على القسر ثم يُطلب الولاء له. كما أن الخصوصيات الدينية والمذهبية والثقافية، ليست تهديداً لوحدة البلاد، بل ثراؤها العميق، متى ما وُضعت في إطارٍ دستوريٍّ عادل، لا في معادلاتٍ أمنيةٍ أو توازناتٍ فوقية.
السويداء لا تطالب بالانعزال، بل بالحضور الكامل. لا ترفض الدولة، بل تبحث عنها في ركام ما سُمّي بها. ولعل صوتها اليوم ليس صوت جبلٍ ينأى بنفسه، بل صدى لسوريا كلها، تلك التي أُرهقت من الانقسامات المصنّعة، ومن سردياتٍ مزيفة اختزلت الوطن في زعيم، والمجتمع في طائفة، والكرامة في الشعارات.
الاستمرار في تجاهل هذا الصوت لن يُنتج إلا مزيدًا من الغربة بين الدولة والمجتمع، ومزيدًا من الانكفاء نحو الهويات البديلة. لكن الإصغاء الصادق، المُتّكئ على إرادةٍ سياسية مسؤولة، قد يُعيد كتابة المشهد، لا بتسويات شكلية، بل بتأسيسٍ جديد يُعيد المعنى إلى الدولة، ويُحرّر الوطن من رماده.
إن ما نحتاجه اليوم ليس قوةً تُفرض، بل شرعية تُستعاد. لا مركزًا يُعيد تدوير الهيمنة، بل دستورًا يُعيد توزيع الأمل والعدالة والسلطة. نحتاج إلى دولةٍ لا تسكن الماضي، ولا تحتمي بالخوف، بل تنطلق من حاضرٍ جريحٍ نحو غدٍ يستحقه الجميع.
فهل نملك الشجاعة لنولد من جديد؟
أم نبقى عالقين بين حنينٍ إلى استقرارٍ لم يكن، وخوفٍ من انفجارٍ يتقدّم نحونا بخطى بطيئة لكنها ثابتة؟
السويداء تفتح الباب لسؤالٍ كبير:
هل نملك بعد كل هذا الألم، القدرة على صناعة وطن؟
وطنٍ لا يكون فيه الإنسان خائفاً من دولته، ولا الدولة مرعوبةً من حرية مواطنيها؟
وطنٍ لا يُقصي أحداً، ولا يُؤلّه أحداً، بل يُقيم العدل بين الجميع؟
اللحظة حرجة، والنداء واضح.
فمن سيسمع؟
ومن سيجرؤ على الإجابة؟
(موقع اخبار سوريا الوطن-1)