| حسين ابراهيم
لا يمكن وضع ما يحصل في السويد من تحدٍّ للعالم الإسلامي من خلال إحراق المصاحف، إلا في سياق هجوم غربي معاكس يستهدف استعادة الزخم الذي فقده الغرب في السنوات القليلة الماضية، على مستوى نفوذه في العالم، وتحكّمه بسياساته واقتصاداته، ولاسيما أن السويد حصلت على ضوء أخضر للانضمام إلى “الناتو” أخيراً، وللمفارقة من «تركيا إردوغان» الإسلامية، بعدما ظلّت في مربّع الحياد منذ الحرب العالمية الثانية. ما يحصل في العالم، اليوم، من صراع على إعادة إنتاج مراكز القوى بتوزيع مختلف، هو، بشكل من الأشكال، تصفية حساب لم يُسَوَّ في تلك الحرب، حين انتصر التحالف الغربي بالمشاركة مع الاتحاد السوفياتي السابق، على ألمانيا النازية، واستأثر وحده بمغانم الحرب، بأنْ تقاسم العالم واستعمره، بينما فشل السوفيات في مدّ نفوذهم في العالم عن طريق دعم الثورات، وخسروا الحرب الباردة، وتفكّكت دولتهم وكتلتهم وتحالفهم العالمي في النهاية.
ويمثّل إحراق المصاحف محاولة لتحويل ذلك الجزء من الصراع في العالم، والذي يجري بين مجتمعات ذات غالبية إسلامية وبين الغرب، إلى حرب دينية. ولذا كان من الطبيعي أن يكون ردّ فعل القوى المناوئة للغرب من غير المسلمين هو إظهار مزيد من الاحترام للإسلام، ولا سيما أن ما يسميه الغرب بالإرهاب الإسلامي هو عدوّ وهمي اخترعه الغرب نفسه لشدّ العصب، بعدما استخدمه في هزيمة السوفيات، ثمّ أنكر دوره في هذا، كما فعل مع السوفيات أنفسهم في الحرب العالمية الثانية. من هنا، معركة الغرب الحالية هي معركة مزدوجة ضدّ «عدوّين»، الأول هو القوى المناوئة تقليدياً له، كروسيا والصين، العائدتين بقوة تحت عناوين مختلفة؛ منها القومي والاقتصادي، والثاني هو الإسلام. الحرب في حقيقتها ليست دينية، وسيظهر ما تَقدّم جلياً في امتناع دول إسلامية عن تغيير مواقعها العالمية بصورة جذرية ردّاً على إحراق المصحف، لتبقى ملحقة بالغرب، باعتبار أنه هو صانعها وراعيها، وهي لا تعدو أن تكون أدوات في يده، مهما حاولت الظهور بمظهر من يدين الأفعال المرتكبة في السويد، في سيناريو تكرّر قبل سنوات عند إحراق المصاحف، أو نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة التي انطلقت من الدانمارك، ثمّ امتدّت إلى السويد وفرنسا، وصولاً إلى الولايات المتحدة نفسها. في المقابل، ها هي الدانمارك تنضمّ اليوم إلى السويد في تكرار للاصطفاف السابق.
ليس غريباً ولا جديداً على القوى التي تهيمن اقتصادياً على العالم، أن تستخدم الدين في تعزيز تلك الهيمنة
سيظلّ الغرب يقدّم نفسه كموئل لـ«حرية غير محدودة»، في اعتناق الأديان أو رفضها، كما حصل في السويد نفسها، حين تظاهر مسلمون في مدينة مالمو التي يقيم فيها الكثير من المهاجرين، قبل أيام، وقاموا بتلاوة جماعية للقرآن، لكن الصورة الحقيقية للأحداث تختلف. فعلى رغم التقارير التي أفادت بأن مسلماً سويدياً طلب تصريحاً للتظاهر أمام السفارة الإسرائيلية في استوكهولم وإحراق التوراة، ووافقت له السلطات المعنية على ذلك، لكنه تراجع من تلقاء نفسه في اللحظة الأخيرة، إلا أن النتيجة أنه لم يحصل أيّ إحراق للتوراة لا حالياً ولا خلال الاستفزازات السابقة. وحتى إن حصل، فإنه لن يتحوّل إلى ممارسة متكرّرة، كما يحصل مع المصحف، لأن محاربة «معاداة السامية» لا تزال أحد العناوين التي قام عليها تحالف ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، ردّة الفعل التي تجري في كثير من أنحاء العالم الإسلامي حالياً، أعنف مما كان يحصل في الماضي، حيث يبدو كأن الأمور على وشك أن تفلت من يد سلطات الدول التي كانت سابقاً تضبط ردّة الفعل حتى لا تصل إلى المسّ بتحالف الأنظمة القائمة مع الغرب، وبالتالي بوجود تلك الأنظمة، وهذا مؤشّر إلى أن المعركة ستكون أصعب على القوى الغربية هذه المرّة. فالعالم تغيّر كثيراً منذ الموجة الأخيرة التي شهدت استفزازات مشابهة سابقة لاندلاع حرب أوكرانيا، والتغيّر محسوس في التعامل مع الغرب من قبل دول كانت تدور في فلكه، كالسعودية على سبيل المثال لا الحصر.
وإذا كان ما يحصل على مستوى الأنظمة، سواء كانت من تلك التي تضبط ردات فعلها، أو من التي يمكن أن تذهب بعيداً في إجراءاتها، كالعراق مثلاً، إلا أن الأكثر تأثيراً يبقى ردة فعل الشارع التي لا يمكن أن تكون منضبطة، ولا يمكن إلا أن تكون رداً دينياً معاكساً للفعل الأصلي، وبالتالي تصبّ عن قصد أو غير قصد في تأجيج الصراع الديني، أي تساهم في تحقيق الهدف المرجو، من قِبل من يقفون خلف الفعل الأول. ليس غريباً ولا جديداً على القوى التي تهيمن اقتصادياً على العالم، أن تستخدم الدين في تعزيز تلك الهيمنة، وخاصة حينما تشعر بتهديد لها، كما هي الحال الآن. ونتيجة المعركة سيحدّدها السلوك الغربي: فهل سيتمكن المعترضون على إحراق المصحف من أن يفرضوا على الدول الغربية، وبالتحديد السويد في الحالة الراهنة، سنّ قوانين تمنع تلك الممارسة؟ إن حدث ذلك، فسيكون إنجازاً آخر في الصراع مع الغرب، وإلا فهي الحرب، التي يمكن اعتبار انتقال السويد من الحياد إلى الاصطفاف، مؤشراً كبيراً إليها. فهذه الدولة التي سعت دائماً إلى تقديم نفسها بوصفها جنّة للاجئين الهاربين من الاضطهاد، لم تكن فعلياً على الحياد أبداً، بل إنها كانت على الدوام من كبار بائعي السلاح في العالم.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار