آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » الشاعر مفيد أحمد.. عن الشعر و”جيسكا” والرسائل التي لا تأتي!!

الشاعر مفيد أحمد.. عن الشعر و”جيسكا” والرسائل التي لا تأتي!!

تتنوع شواغل الأديب السوري مفيد عيسى أحمد بين عدد من النتاجات الأدبية، وإن أخذته الرواية صوب فصولها أكثر، وكان له في سردها ثلاث روايات على الأقل، وكذلك مكث طويلاً في مناخات القصة القصيرة، فيما بقي مُقلّاً في النقد الأدبي، وفي كتابة القصيدة. ولأنه عُرف أكثر ما عُرف في الرواية والقصة، سنقرأ في هذا المقال مختارات من نصوصه الشعرية، التي يقدم من خلالها رؤية وجودية عميقة لمعنى الحياة والموت والحب والاغتراب في زمن لم يعد فيه شيء مؤكداً. هذه النصوص التي نختبر فيها الحالة بين العدمية والبحث عن الجمال، وبين هزيمة الذات أمام مرآة العمر..
“لا أدري كم عمري الآن
غير أني كلّ صباح تطالعني في المرآة عينان مهزومتان،
وُّيمتد خلفي فراغٌ لا نهاية له

لقد مرَّ زمنٌ..
أعرفُ هذا من ياقات قمصاني المتفصدة،
من الستائر المهلهلة،
من الدهان الحائل،
من وجوه الناس في الجنازات..
(…)
لا أدري كم عمري الآن
لكن جسدي صارَ يتشرى المطر تارةً،
ويستوطئُ الشمسَ أخرى،
وكأنني صرتُ مدى،
أو أني
صرتُ أقربَ إلى إيقاع التراب.”
في النص أعلاه، يطرحُ الشاعرُ سؤالَ الوجود من خلال علاقته بالزمن: “لا أدري كم عمري الآن، غير أني كلَّ صباحٍ تطالعني في المرآة عينان مهزومتان”. هنا تستحضر النصوص تصوراً وجودياً يقترب من فلسفة (هايدغر) حول الوجود والزمن، حيث يصبح الجسد نفسه شاهداً على الانهيار: “صار يتشرى المطر تارة ويستوطئ الشمس أخرى، وكأنني صرت مدى أو صرت أقرب إلى إيقاع التراب”.
” جيسيكا تنتظرُ أن تصل رسائلها
بتوقٍ غض،
بجسدٍ طيّع يموه ناراً مشبوبة

جيسيكا
امرأةٌ وحيدة؛
بابها مغلقٌ دائماً،
لم تقرأ رسائلها أبداً
لكنها كانت تنتظرها وتستلمها بلهفةٍ..”
تظهر المرأة في نصوص أحمد بأوجهٍ متعددة: فهي (جيسيكا) التي تنتظر رسائل لا تأتي، وهي (مريم) ذات الطابع المقدس، وهي المرأة المنهكة عاملة النظافة في المشفى التي “تلقى جسدها على حبل غسيل” كلّ مساء. حيث المرأة هنا ليست مجرد موضوع للرغبة، بل هي رمز للانتظار والأمل والخيبة في آنٍ واحد. كما في نص (يا مريم) حيث يكتب: “يا مريم… شممت رائحتك تماماً في جسد أمي”.
(…)
“السبّاك..
الذي أعياه صلب المعادن؛
يتمنى أن يكون جسدهً صلباً مثلها،
لو أنه على الأقل مصنوع من البكاليت..

المحاربُ الشرس..
في الاستراحة القصيرة؛
يتلمس ذخيرته الخارقة الحارقة
يجفل..
ثم يسترخي و يكاد يغفو،
المحارب،
يحلم بجسدٍ لا يخترقه الرصاص
أو بجسدٍ
كجسد (أرنولد شوارزنغر) في أفلامه الخيالية..”

يحضر الجسد – كما في النصوص السابقة – كموضوع مركزي في حين نرى أجساد المنهكين: المرأة المنهكة، السبّاك الذي يتمنى أن يكون جسده صلباً مثل المعادن، المحارب الذي يحلم بجسد لا تخترقه الرصاص،”لتعيد للأجساد أمجادها”.. فالجسد هنا أمسى سجن الهوية ومعبر الألم، ومن ثم كان اشتهاء أجسادٍ بديلة كمقصان لتهريب تعب الجسد والروح، التمنيات هنا تأتي كأداة مقاومة وحيدة في مواجهة العالم الذي ينتهك الأجساد ويتعبها ويجعلها في انهيار لا ينتهي.
“ثلاثون عاماً في دمشق،
و لم ينادني أحدٌ: أيها الغريب..
أنا من دمشق..
كنت أسمع من يصيح باسمي،
وأنا أعبرُ سوق(الأراماني)..
أصعد طلعة (الشهبندر)،
من يبادلني السلام.
أنا من دمشق،
و إلّا كيف لامرأةٍ أن توقظني كما كانت تفعل أمي..
أنا منها؛
أغمضوا عيني، ولن أضيع
بيقيني سوف أعرفُ الطريق.”
(…)
في النص السابق “ثلاثون عاماً في دمشق، ولم ينادني أحد: أيّها الغريب”. هنا يصل الاغتراب إلى ذروته، حيث تصبح المدينة فضاءً لا يعترف بسكانه، ولا يعترفون به. لكن الشاعر يؤكد: “أنا من دمشق.. أغلقوا عيني ولن أضيع بيقيني سوف أعرف الطريق”. الاغتراب هنا ليس مجرد اغتراب مكاني، بل هو اغتراب وجودي، كما تشير إليه النصوص، حيث الشك واللايقين في حقيقة ووهم الانتماء..
“والآن..
آن الغياب؛
أستثقل كلَّ شيءٍ:
جسدي،
الهواء،
وهذا الليل..”
(…)
يكتب الشاعر في هذا النص:”آن الغياب، أستثقل كل شيء: جسدي، الهواء، وهذا الليل”. هنا تتحول العدمية إلى موقف فلسفي تجاه الوجود، حيث يصبح الغياب قدراً محتوماً.. وفي نص آخر، يتحول الموت إلى موضوع للسخرية المريرة: “ضع (أحزنني) على صورتي التي أبتسم فيها.. ثم مرر إلى الأعلى، أو إلى الأسفل واستعرض صور النساء والمنشورات المختلفة”. هذه النصوص تعكسُ الكثير من حالات: العدم، الشك، وحتى اللامبالاة.. لكن دائماً ثمة أمل، أمل ورجاء ربما يأتي من جهة لم نكن نعيرها الكثير من الاهتمام كالفن مثلاً:
“أشتاق إلى دفاترك
إلى رسومك، وأنت تحاولين تفسير جسدك؛
فترسمين تارةً زهرةً غامضة،
وأخرى لطخةً طين،
تفاحةً وسنبلة..
ثمَّ
ساعة حائط خربة،
فغيمة..
رسمت بعدها طائراً مذبوحاً
ثم لم يكن إلّا البياض.”
(…)

هنا يحضر الفن كملاذ أخير من الانهيار: “أشتاق إلى دفاترك، إلى رسومك وأنت تحاولين تفسير جسدك”.. الرسم هنا يصبح محاولة لفهم الذات والعالم، كما أنّ الموسيقا تحضر في نصٍّ آخر كمنقذ من العدم: “ستبدأ الموسيقا بعد قليل.. ثم لتكن موسيقا وحشية”.. هذه الموضوعات تظهر تأثر الشاعر بالتيارات الحداثية وما بعد الحداثية التي تدمج الفنون في النص الأدبي. هي رجاء أخير رغم الخاتمة المواربة “ثم لم يكن إلّا البياض”، وكأن لا أمل بأي شيء، ولا جدوى من أي شيء.. حيث يكتبُ الشاعرُ في النص الأول: “من الأشجار التي كان لها أسماء كالبشر، واستحالت فحماً ثم رماداً”.. الذاكرة هنا تصبح مقبرة للأسماء والوجوه التي كانت ذات يوم دلالات، ولم تعد إلّا غياباً.. هذه الفكرة تعكس ما ورد عن أن “الحياة أصبحت في هذا العالم المتردي، وكأنها جاسوسية مطلقة، ترقبية، عيون ذئبية بمستطاعها نهشك دون أن تنتبه”.. تبدو الحياة هنا وكان لا مناص من الخراب الشامل، في زمن لا أمل لأنبياءٍ جدد، وإنما ثمة نمرود باقٍ ليحرق “روما”..
(…)
“نعرف هذا الحزن،
هذه الوحشة،
حزن شجرة وحيدة ناجية من محرقة..
ووحشة خلاء لا يحد
يتدرج في السواء..
وحشةُ رمادٍ في الرماد

و نعرف أنه لا برداً ولا سلاماً
فلا أنبياء هنا،
ونمرودُ مازال يقهقهُ، ويُلوح بشعلةٍ لا تخبو.”
(…)
تعتمدُ نصوص مفيد أحمد على التكثيف الشعري والانزياح عن المألوف، حيث يكتب: “الطريق لم يعد يفضي إليك فهذا وجهك.. وهاهو صوتك قيد رفة عين أو شهقة خاطفة لكنهما على مسافة مستحيلة أولها غياب.. آخرها غياب”.. يخلقُ هذا الانزياح شعوراً بعدم الاستقرار والغرابة الذي يعكس حالة الانهيار التي يتحدث عنها في مختلف تنويعات الشعرية.. كما تتنقل النصوص بين أصواتٍ متعددة وأمكنة مختلفة: من غرفة ضيقة قرب الدير إلى المدن المنتصرة التي يعبرها “كمهزومٍ أبدي”. يخلقُ هذا التعدد بانوراما واسعة للوجود الإنساني في زمن الأزمات.
كما يستخدمُ الشاعرُ المفارقة والسخرية السوداء كوسيلتين للتعبير عن المأساة، كما في نص (على شاشة الكومبيوتر)، حيث ينتظر حتى يتأكد الكمبيوتر من أنه إنسان، ليقول في النهاية: “سيأتي وقت لن تبارك فيه لأحد”.. تعكسُ هذه السخرية الانهيار القيمي الذي يعيشه العالم المعاصر. كما تُمثل النصوص الشعرية المختارة لمفيد عيسى أحمد صوتاً وجودياً يوثق لحظة الانهيار للكائن في العربي بمهارة فنية عالية. فيقدم الشاعرُ رؤيةً تتجاوز السرد السياسي المباشر إلى التأمل الفلسفي في مصير الإنسان في زمن الحرب والعدم. قصيدة مفيد أحمد تجد لها مطرحاً باذخاً في ديوان الشعر السوري، كما في مناخات قصيدة النثر العالية، وهذا واضحٌ في نصوصه التي تدمج بين اليومي والوجودي، الشخصي والعام، الواقعي والمتخيل.
“على شاشة الكومبيوتر رسالةٌ تقول:
“يُرجى الانتظار حتى نتأكد أنك إنسان”
أنتظر..
بعد دقيقة تبدأ تعليمات؛
تطلبُ مني أفعالاً صغيرة..
أدر هذا الشكل نحو اليمين،
ثم نحو الإشارة،
ثم باتجاه أصابع اليد
ثم..
وأنا أفعل ذلك كمن يلعب..
ثم تدور دوائر المعالجة،
و بعد ثوانٍ فقط؛
تظهر رسالة:
“مبروك.. لقد تأكدنا أنك إنسان..”
أعيد قراءتها بدهشةٍ.. وأقول:
سيأتي وقت….لن تبارك فيه لأحد.”
نصوص مفيد أحمد في معظمها؛ لا تقدمُ إجاباتٍ بقدر ما تطرح أسئلة وجودية عميقة: كيف نحب في زمن الموت؟ كيف نبحث عن الجمال في زمن القبح؟ كيف نوفق بين الانتماء والاغتراب؟ وكيف نقاوم الانهيار بالإبداع؟ هذه الأسئلة تجعلُ من شعر مفيد عيسى أحمد وثيقةً إنسانية ستظل تشهد على عصرنا – وربما – حتى بعد أنْ يصبحَ رماداً.

اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية
x

‎قد يُعجبك أيضاً

ديانا كرزون مرشحة محتملة لرئاسة نقابة الفنانين الأردنيين

تصدر اسم النجمة الأردنية ديانا كرزون مؤخرًا منصات التواصل الاجتماعي بعد تداول أنباء عن احتمال ترشحها للانتخابات المقبلة لنقابة الفنانين الأردنيين، ما أثار جدلاً واسعًا ...