إعلان التاسع والعشرين من أيلول/سبتمبر في البيت الأبيض، الذي جمع بين الولايات المتحدة والإمارات، سيشكّل مرحلة جديدة في الدور الذي تؤدّيه الإمارات في شرق أفريقيا.
لم يكن اللقاء بين الرئيس بايدن ورئيس دولة الإمارات محمد بن زايد في البيت الأبيض لقاءً عادياً، إذ جاء تتويجاً لسلسلة من الحوارات الاستراتيجية بين واشنطن وأبو ظبي منذ عام 2022. كما جاء هذا اللقاء في أعقاب إعلان بايدن عدم ترشّحه لفترة رئاسية ثانية وترشّح كامالا هاريس بدلاً منه في حملة الحزب الديمقراطي، ما جعل توقيته استراتيجياً. فقد ضمنت الإمارات دعم الديمقراطيين للاتفاقية من خلال توقيعها مع رئيس ديمقراطي، وهو أمر كان سيكون شبه مستحيل مع رئيس جمهوري.
الشراكة الاستراتيجية التي أعلن عنها بين الولايات المتحدة والإمارات تتجاوز كونها اتفاقية دفاعية، فهي تشمل جميع عناصر القوة الوطنية من اقتصاد ودفاع ودبلوماسية. الأهم من ذلك، أن هذه الشراكة لا تقتصر على الاتفاقيات الثنائية بين البلدين فقط، بل تشمل أيضاً أوجه التعاون الإقليمي بين الولايات المتحدة كقوة عالمية والإمارات كقوة إقليمية ناشئة. تضمن الإعلان عن التعاون في مجالات الذكاء الاصطناعي وصناعة البيانات والبنية التحتية السحابية والطاقة البديلة والبنى التحتية والموانئ وحتى استكشاف الفضاء.
كان التخلي الإماراتي عن شراكتها مع الصين في مجال الذكاء الاصطناعي بمثابة النقطة المحورية في هذا الإعلان، حيث تعدّ الولايات المتحدة هذا المجال قضية أمن قومي في ظلّ التنافس المتصاعد مع الصين. أدّى الضغط الأميركي على الإمارات إلى تسريع وتيرة هذه الشراكة الاستراتيجية. وضمن هذا الإطار، أعلنت مايكروسوفت عن استثمار قدره 1.5 مليار دولار في شركة G42 الإماراتية، مما يعكس تنامي العلاقات بين واشنطن وأبو ظبي في سياق سعي الولايات المتحدة للتفوّق على الصين في سباق الذكاء الاصطناعي.
تُعدّ G42 شركة قابضة في مجال التكنولوجيا وتمثّل جزءاً حيوياً من خطط الإمارات لتصبح رائدة عالمياً في الذكاء الاصطناعي، حيث تعمل في مجالات مثل التكنولوجيا الحيوية والمراقبة والرعاية الصحية ومراكز البيانات. للشركة علاقات قوية في المنطقة، ويرأسها الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني وأحد أبرز أعضاء العائلة الحاكمة في أبو ظبي، كما تحظى بدعم من صناديق الثروة السيادية الإماراتية مثل “مبادلة”.
منذ تأسيسها في عام 2018، أقامت G42 شراكات مع شركات كبرى مثل OpenAI وDell وIBM وMicrosoft وغيرها. في الأشهر الأخيرة، قطعت الشركة علاقاتها مع الصين بعد تدقيق أميركي بسبب مخاوف أمنية، حيث يشمل الاتفاق الأخير مع مايكروسوفت ضمانات لحماية المنتجات المشتركة وإزالة المعدّات الصينية، بما في ذلك معدّات هواوي.
ما يلفت الانتباه في الاتفاق الأميركي الإماراتي هو التركيز على التعاون الأمني والاقتصادي في منطقة لم تكن ضمن اهتمامات الإمارات قبل سنوات قليلة، وهي منطقة شرق أفريقيا، حيث أُشير إليها في الإعلان إلى جانب منطقة الشرق الأوسط والمحيط الهندي كمناطق للتعاون المشترك بين البلدين. وقد تناول الإعلان بالتفصيل خطط الإمارات لتعزيز الاستثمارات الاستراتيجية في البنية التحتية الصلبة وسلاسل توريد المعادن الحيوية في أفريقيا والأسواق الناشئة على مستوى العالم.
وتهدف هذه الاستثمارات إلى تنويع مصادر المعادن الحيوية، وهي مكوّنات أساسية في مجالات مثل الطاقة النظيفة والتقنيات المتقدّمة، بما يشمل البطاريات وتوربينات الرياح وأشباه الموصلات والمركبات الكهربائية. كما أشاد الرئيس بايدن بدور الإمارات في قيادة الاستثمارات الاستراتيجية على مستوى العالم لضمان الوصول الموثوق إلى البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك الموانئ والمناجم ومراكز الخدمات اللوجستية، وذلك من خلال هيئات مثل هيئة أبو ظبي للاستثمار، وشركة أبو ظبي التنموية القابضة، وموانئ أبو ظبي، وموانئ دبي العالمية.
ورحّب القادة بالتحوّل الرقمي المستمرّ لشركة مايكروسوفت ومجموعة 42 في كينيا، والذي سيستفيد من 1 جيغاوات من الطاقة الحرارية الأرضية لتشغيل مراكز البيانات، وذلك لتمكين نشر البنية الأساسية السحابية وخدمات الذكاء الاصطناعي للقطاع العام والصناعات المنظّمة وكذلك الشركات. وعلاوة على ذلك، ستدعم الشراكة تطوير نماذج اللغة الكبيرة المحلية وإنشاء مختبر ابتكار في شرق أفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، تأمل الشراكة في تشجيع الاستثمارات الدولية والمحلية في الاتصال والتعاون مع حكومة كينيا لتمكين برامج التحوّل الرقمي في جميع أنحاء شرق أفريقيا.
وأكد الإعلان أيضاً التزام الولايات المتحدة والإمارات بالاستثمار المشترك في أفريقيا والعمل على إنهاء فقر الطاقة في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وأصبحت شركتا Averi Finance وAMEA Power الإماراتيتان شريكتين في القطاع الخاص ضمن إطار مبادرة Power Africa التي تقودها الولايات المتحدة، حيث تعاونتا مع شركة Phanes الإماراتية. وكشركاء من القطاع الخاص، ستحصل هذه الشركات على دعم استشاريين للمعاملات وخبراء فنيّين، بالإضافة إلى الاستفادة من الخدمات التي تقدّمها الهيئات والوكالات الحكومية الأميركية المشاركة.
لدعم مبادرة Power Africa، تهدف شركة Averi Finance إلى تسهيل استثمارات بقيمة 5 مليارات دولار، وبناء مشاريع توليد طاقة بقدرة 3 جيغاوات، ومدّ أكثر من 3 آلاف كيلومتر من خطوط النقل أو التوزيع، وإنشاء أكثر من 500 ألف اتصال جديد للمنازل والأعمال، بهدف خفض أو تجنّب ما يعادل 90 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون. كما تسعى AMEA Power بالتعاون مع Power Africa إلى تسريع مشاريع الطاقة المتجدّدة في أفريقيا، مستهدفة الوصول إلى 5 جيغاوات من الطاقة المتجدّدة بحلول عام 2030، مع استثمار 5 مليارات دولار من رأس المال لتحقيق هذا الهدف.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ شركة Averi Finance تعدّ شركة مقرّبة من حكّام أبو ظبي. كما قامت أبو ظبي بتأسيس المركز الأفريقي للتنمية والاستثمار برئاسة رئيس الوزراء السوداني الأسبق عبد الله حمدوك وعضوية كلّ من السفير الإماراتي السابق د. سعيد الشامسي، و د. مونيكا جوما مستشارة الأمن القومي للرئيس الكيني.
استثمرت الإمارات بشكل كبير في تشاد على مدى السنوات الأخيرة، مستغلّة موقع البلاد الاستراتيجي في قلب أفريقيا والساحل. شملت الاستثمارات الإماراتية مجالات البنية التحتية، وقطاع الطاقة، والتعدين، وهو ما عزّز العلاقات الاقتصادية بين البلدين. ومع ذلك، برزت تقارير تشير إلى أن هذه الاستثمارات ساهمت بشكل غير مباشر في تعزيز دعم قوات “الدعم السريع” السودانية، حيث يُعتقد أن الإمارات استخدمت تشاد كمنفذ لتزويد هذه القوات بالأسلحة والتمويل.
نحن أمام شراكة تجعل من الإمارات الوكيل الرسمي للولايات المتحدة في شرق أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، خاصة مع تراجع النفوذ الأميركي المباشر في المنطقة. ولفهم هذه الظاهرة، برزت عدة نظريات في العلاقات الدولية، من أبرزها “نظرية الدولة العميلة”Client State Theory . تشرح هذه النظرية العلاقات بين الدول القوية والدول الأضعف، حيث تدعم الدولة القوية دولة “عميلة” لضمان حماية مصالحها في منطقة معيّنة.
تقوم الدولة العميلة بإدارة الاستقرار الإقليمي نيابةً عن الدولة القوية، مثل التعامل مع التهديدات الأمنية أو التأثير على السياسة الإقليمية، وذلك من خلال دعم اقتصادي أو عسكري تقدّمه الدولة القوية لضمان ولائها وتنفيذ سياساتها. على سبيل المثال، خلال الحرب الباردة، دعمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي دولاً عميلة لتعزيز نفوذهما في مناطق مختلفة، بهدف التأكّد من ولاء هذه الدول وضمان استقرار المنطقة بما يخدم مصالح الدول العظمى، مثل دعم الولايات المتحدة لحلفائها في جنوب شرق آسيا للحد من انتشار الشيوعية.
هناك أيضاً مفهوم “الاستعمار الجديد” (Neocolonialism) الذي يشير إلى استمرار القوى العالمية في التأثير والسيطرة على الدول المستعمَرة سابقاً من خلال وسائل غير مباشرة، مثل التعاون الاقتصادي والدعم السياسي، باستخدام حلفاء إقليميين كوكلاء لتنفيذ سياساتها. تعمل الدول الكبرى على الحفاظ على هيمنتها باستخدام هذه الدول الحليفة لضمان استمرار النظام الاقتصادي والسياسي الذي يخدم مصالحها. مثال على ذلك هو دور فرنسا في أفريقيا بعد الاستقلال، حيث اعتمدت على حلفائها الإقليميين للحفاظ على نفوذها السياسي والاقتصادي.
وأخيراً، تأتي “نظرية مجمع الأمن الإقليمي” (Regional Security Complex Theory) التي طوّرها باري بوزان وأولي ويفر، وتركّز على كيفية تشكّل الديناميات الأمنية داخل الأقاليم وتأثّرها بالقوى الإقليمية. وفقاً لهذه النظرية، تؤدي القوى الإقليمية دوراً رئيسياً في تحقيق التوازن الأمني داخل مناطقها، وغالباً ما تشجّع القوى العالمية هذه الأدوار لتحقيق الاستقرار الإقليمي. يُعتبر هذا التعاون مفيداً للقوى العالمية لأنه يسمح لها بالتركيز على مناطق أخرى، بينما تترك للقوى الإقليمية مهمة إدارة القضايا المحلية. على سبيل المثال، دعمت الولايات المتحدة قوى إقليمية مثل السعودية و”إسرائيل” في الشرق الأوسط خلال فترة الحرب الباردة لضمان استقرار المنطقة بما يتماشى مع مصالحها، من دون الحاجة إلى تدخّل مباشر في كل قضية إقليمية.
في الختام، يبدو أن إعلان التاسع والعشرين من أيلول/سبتمبر في البيت الأبيض، الذي جمع بين الولايات المتحدة والإمارات، سيشكّل مرحلة جديدة في الدور الذي تؤدّيه الإمارات في شرق أفريقيا وعمق القارة الأفريقية. فقد نصبت الولايات المتحدة الإمارات كوكيل إقليمي للمصالح الأميركية، رغم الانتقادات الدولية للدور الإماراتي في حرب السودان واليمن والأزمة الليبية.
سيرياهوم نيوز 2_الميادين