سلطان الكنج
مع سقوط النظام السوري، وبزوغ فجر الحرية، باتت سوريا الجديدة بحاجة إلى صحافة وإعلام حر يقفان إلى جانب المواطن، ويعوضانه عبر ممارسة دورهما الحقيقي عن كل سنوات “التوجيه المعنوي” الذي كانت تمارسه وسائل إعلام النظام.
ليس المطلوب أن تكون الصحافة السورية اليوم حرّة بشكل مطلق، لكن عليها “على الأقل” أن تبدأ استعادة وظيفتها الطبيعية: أن تسأل، وأن تدقق، وأن تحقق، وأن توازن بين الحرية والمسؤولية، وأن تضع مصلحة المجتمع فوق مصلحة أي سلطة أو جهة نافذة.
فالصحافة التي تُحقّق في كل ما يجب أن يعرفه الناس، وتكشف الفساد بدل تجميله، وتشارك في صناعة القرار وتشكيل الوعي من دون خوف ولا تزييف، ومن دون تقديس ولا تدنيس، هي صحافة منهجية تحتاجها الدولة، لأن المساحة الحرة التي توفرها تساعد صانع القرار على تصويب الأخطاء ومعالجة الخلل.
لقد تغيّر العالم، لم نعد في زمن الثمانينيات والتسعينيات حين كانت الصحافة الحكومية هي المصدر الوحيد للمعلومة، ومع ثورة الإعلام الرقمي وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، فإن هذا الفضاء المفتوح يسحق الصحافة الخشبية الرتيبة التي لا تواكب وعي الناس وإيقاع زمنهم.
كانت الصحافة في سوريا البعث سلطة لا تقل في همجيتها وأحادية عقلها عن أجهزة النظام الأمنية والسياسية، عاجزة حتى عن كشف فساد مقاول صغير في مشروع ريفي، فضلاً عن تتبّع فساد الوزارات أو الهياكل الإدارية.
ولم تستطع يوماً الاقتراب من الأجهزة الأمنية أو رصد بطشها، وكان من المستحيل الحديث عن ضابط فاسد أو مساءلة مسؤول سياسي. كان همّها التمجيد والتلميع، حتى صار السوريون يجدون في صفحة الأبراج مصداقية أعلى من الأخبار.
لكن السوريين اليوم أمام فرصة تاريخية لبناء بيئة إعلامية حرة، تحاكي تطلعات مجتمع أنهكته الحروب ويبحث عن الحقيقة بلا وسطاء أيديولوجيين أو تعليمات أمنية، من دون أن يتصل “أبو علي جوية” بالصحفي مهدّداً: “سأخفيك تحت سابع أرض”.
سوريا الجديدة بحاجة إلى صحافة نزيهة تلاحق وتحقق وتكشف وتسأل، تمارس دورها، وإلا تجاوزها الزمن كما تجاوز الصحافة الرسمية الميتة في بلدان كثيرة.
تحرير الكلمة هو مدخل لتحرير المجتمع من الخوف؛ مجتمع يعرف أخباره من صحافته، لا من صحف الدول الأخرى. فالمساءلة والكشف يقويان الدولة الجديدة، وبدونهما لا يمكن لسوريا أن تنهض من الإرث الاستبدادي الذي تركه النظام.
إن أول مهمة أمام الصحافة السورية الآن هي حماية الفضاء العام من أي محاولة لإعادة إنتاج عقلية شمولية تحت أي ذريعة.
في مجتمع خرج لتوّه من حكم أمني، يصبح للصحافة دور رقابي لا يقل عن دور البرلمان أو القضاء؛ فهي من يسلّط الضوء على الأخطاء، ويكشف الفساد، ويُوصل صوت المواطن إلى صناع القرار، بحيث يصبح المواطن والمسؤول شريكين في بناء الدولة، وتصحيح الأخطاء، ومنع الكوارث الاقتصادية والأمنية.
بعد سقوط النظام، تبدو الحاجة ملحّة لإعلام يساهم في إنتاج وعي وطني مشترك، لا يقوم على التخوين ولا على الشعارات الأيديولوجية، بل على الحقائق والبحث المهني.
فالصحافة القوية تساعد السوريين على فهم المرحلة: من بناء المؤسسات، وإعادة تشكيل البنية الفوقية، إلى إدارة العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار الاقتصادي. وكل ذلك يحتاج إلى تغطيات ميدانية موثوقة، وتحليلات موضوعية تحترم عقل الجمهور.
واليوم تظهر في الإعلام السوري الوليد وجهات نظر متعددة، وهذه ظاهرة صحية، بعكس ما يروّج له البعض تحت قاعدة “سدّ الذرائع”. هذا الفهم يجعل الإعلام جامدا، بينما حتى المدافعون عن هذه القاعدة سيبحثون عن وسيلة إعلامية تسمح بطرح كل الآراء.
ولأن المجتمع يعاني آثار حرب طويلة، تستطيع الصحافة أن تلعب دورا علاجيا أيضا، من خلال إبراز قصص الناجين، وإعطاء مساحة لضحايا الانتهاكات، وبناء الروابط بين المكوّنات الاجتماعية بخطاب إنساني لا يُقصي أحدا ولا يخوّن المختلف ما دام تحت سقف الوطن.
رغم الآمال الكبيرة، تواجه الصحافة الوليدة في سوريا الجديدة جملة من التحديات. فالبلاد خرجت من حرب مدمّرة، ما زال السلاح فيها يسمع صوته خارج إطار الدولة، وقد تحاول قوى مختلفة فرض رواياتها أو الضغط على المؤسسات الإعلامية.
كما تواجه الصحافة تحديات اقتصادية وتقنية؛ فالكثير من المؤسسات الإعلامية تفتقر إلى التمويل المستدام، ما يجعل بعضها عرضة لتأثير الممولين أو الجهات السياسية. ويحتاج الصحفيون إلى تدريب واسع على المعايير المهنية وأخلاقيات العمل. كما يحتاج القطاع إلى قوانين جديدة تضمن الحرية وتحمي الصحفيين من الاعتقال أو التهديد، وتُؤسس لنقابات قوية تدافع عن استقلال المهنة.
لا يمكن لسوريا الجديدة أن تُبنى دون إعلام قوي يصنع الحقيقة، لا يكرر خطاب الحكومة فقط. فالصحافة ليست مهنة، بل ضمير المجتمع ومرآته. وإذا استطاع السوريون تحويل معاناتهم الطويلة إلى تجربة ناضجة ناجحة، فإن الصحافة الحرة ستكون حجر الزاوية في هذا التحول.
أخبار سوريا الوطن١-الثورة
syriahomenews أخبار سورية الوطن
