| بلال اللقيس
حين تؤكّد الوقائع وتثبت أنّ خطوة روسيا حيال أوكرانيا كانت فعلاً استباقاً ضرورياً لحماية مجالها الحيوي، وخلخلة التوازن الذي عمل له الغرب على حدودها منذ عقدين، وإيقاف الزحف الأورو-أميركي لاحتوائها وإسقاط نظامها وربما تفكيكها، وما كان بالإمكان الانتظار أكثر،
وحين نجد أنّ أنظمة الليبرالية اجتمعت على اعتبار المعركة تهديداً وجودياً لها، وتستميت في الدفاع عن زيلينسكي على حساب شعوبها ومصالح مجتمعاتها البيّنة، وتذهب إلى حد الإعلان عن تمارين نووية لرفع جاهزية «الناتو»، ندرك أنّ بقاء هذه الأنظمة رهن بقاء هيمنتها واستدامة بنية شبكة مصالح عالمية وعابرة معقّدة المجالات والطبقات، وأنّها عدو الحرية وسالبتها من الشعوب بدعوى التحرير والتحرر، وهذا مكمن خطرها.
وحينما نراقب تطوّر وتحوّر الصراع في أوكرانيا، وموقف مختلف القوى منه، نتيقّن أنّ ما يحدث بالعمق هو صراع على هوية وطبيعة النظام الدولي وقيمه، وما نشاهده يكاد يكون المسمار الأخير في نعش نظام الآحادية الأميركية. العقلانية والتأمّل العميق، وتحديد المسؤوليات في هذه اللحظة الاستثنائية، هو ما يفترض أن يحكم المواقف والأفعال. فأن تكون إزاء تولّد لاتجاهات دولية جديدة تنتهي معها مفاعيل القديم لهو تمفصل في حركة التاريخ.
حتى اليوم، إنّ مسار الصراع في العقدين الأخيرين وصولاً إلى الحرب في أوكرانيا يدعو للأمل والتفاؤل رغم حدّته وشراسته:
بدأ مسار الصراع «المنتج» حينما حقّقت إيران الثورة وقوى المقاومة الشعبية نتائج غير مسبوقة بمواجهة أميركا وربيبتها إسرائيل. كان عام 2000 بوابتها ومدخلها وما تلاه على امتداد الإقليم. تركت هذه الانتصارات، ووهم القوة عند الأميركي، نتائج بالغة الأثر على نموذج الولايات المتحدة وصورتها أمام الرأي العالمي، وعلى مكانتها الدولية وقوتها، وشرعية قيادتها ومدى مقبوليّتها. تدرّج مسار الصراع بمواجهة الهيمنة الأميركية الغربية، حين احتاج النجاح في الحرب الكونية على سوريا إلى تعاون إيراني روسي عملي وفيتو صيني بجانب جهد محور المقاومة المحوري، فكان أبرز صراع تلاقت فيه الدائرة الإقليمية بالدولية، وكان من نتائجه أنّه سيكون له الإسهام الكبير في تحديد طبيعة النظام الدولي القادم – وهو ما نعيشه اليوم.
اليوم، ومع احتدام الصراع في أوروبا الشرقية وسخونته على جبهة الشرق الآسيوي، يمكن الادعاء أنّنا نسير إلى شمول المواجهة واللاعبين. إنّ هذا الطريق الصراعي قسري تضيق فيه الخيارات ولا تراجع فيه. لذلك، مهما تعالت مطالبات الخصوصيات (خصوصيات الدول) فلا يجب أن تكون بمنأى عن، أو في عرض، الصراع الكبير واللحظة التاريخية لكسر الهيمنة الأورو-أميركية. فالظرف أكثر من سانح لخوض المواجهة والتقدم الشامل في الصراع بإتقان وتكامل وعقل فذ جسور وحكيم في آن:
– حكومات الغرب تترقب بحذر ما ستؤول إليه الأوضاع في أوروبا على وقع الاحتجاجات، وتترقب أيضاً ما سيؤول إليه الوضع الاستراتيجي العام فيما لو تراجع الديموقراطيون في الانتخابات النصفية الأميركية كما هو متوقع، وكيف ستكون آثاره على الملفات الكبرى خارجياً وداخلياً في أوروبا التي تتحول مجتمعاتها. هل ستكون إدارة بايدن أكثر قلقاً وأكثر انفعالاً وأقّل التزاماً بالضوابط والمحددات التي أعلنتها ساعة توليها الحكم وأكثر رغبة على المقامرة والمراهنة؟ هو يعيش ضغط أن يذكره التاريخ أنّه «غورباتشوف أميركا».
أي تقاعس وتردد من قبل المناوئين لأميركا سيؤدي إلى استعادة الأميركي زعامته وتأبيد هيمنته
– إذا راقبنا: يقظة أفريقيا العارمة وقيام بعض دولها أخيراً بطرد الفرنسي، وسعي دولها لزيادة وزنها في ظل تنافس القوى الكبرى على ساحتهم. استعادة الجزائر بعض بريق دورها العربي الأفريقي. تركيا لم تَعد عملياً في «الناتو»، حتى لو ادعت أنّها فيه نظرياً. ومصر التي تخطط لفك ارتباط عملتها بالدولار عشية عودة تأزم علاقتها بالغرب الأميركي. عودة عمران خان لصناعة المشهد في باكستان من جديد. ناهيك عن الهند التي تصر على تمايز موقفها ربطاً بمصالحها على غير ما أملت الإدارات الأميركية من تعويل على دور جيوستراتيجي للهند بمواجهة الصين. وليس انتهاء بكوريا الشمالية والمناورات النووية والاحتكاك النصف خشن بينها وبين اليابان وكوريا الجنوبية. والتغيّرات العميقة التي تحدث في أميركا اللاتينية وانتخابات البرازيل إحدى أبرز ترجماتها.
– وإذا راقبنا ما يجري على الساحة الفلسطينية من مشهدية انتفاضة، أو بالأحرى تباشير ثورة مسلحة تلوح في الضفة والـ 48، وانتظارنا للمعادلة البحرية–النفطية–الغازية التي ستفرضها المقاومة الفلسطينية على امتداد شاطئ فلسطين المحتلة. في المقابل، لا يخفى على أحد ما يُعانيه الكيان الصهيوني من التخبّط والاستقطاب والعجز عن إدارة الصراع، فضلاً عن حسمه، وإدراكه بالملموس والمحسوس أن أوروبا أهم لأميركا منه وأنه هو الذي يمكن أن يضحي بمصالحه في لعبة الشطرنج الكبرى، وأنّ مدياته الاستراتيجية تتقلص كل يوم.
– وإذا لاحظنا اتساع التباينات في العلاقة بين روسيا والكيان الصهيوني وما يمكن أن تصل إليه بنية هذه العلاقة من اتساع الشقة والاختلاف وتصب نتائجها في صالح المقاومات والشعوب العربية والإسلامية. نتائج ستكون لصالحنا على البيئة الإقليمية وعلى البيئة الأوسع، أي الدولية، حيث ستبدأ إسرائيل بخسارة مظلتها الدولية التاريخية الجامعة لقوى الشرق فضلاً عن الغرب.
كل التحليلات والمعطيات الآنفة والتغيرات الموضوعية منها والإرادوية (النابعة عن تصميم) تؤكد اقتراب نهاية مرحلة دولية عمّرت لعقود ومخاض مرحلة أخرى عنوانها بروز اتجاهات جديدة في السياسة الدولية. ولا شك أنّ الأشهر المقبلة مرشّحة لتحمل تطورات حاسمة. فالصراع بين القوى الكبرى اليوم لا يحتمل استراتيجية الاستنزاف الطويل على غرار ما سبق من حروب عالمية لأسباب كثيرة.
وعليه، وإذا كنا أمام لحظة تاريخية فارقة وصفحة جديدة من التاريخ العالمي، فإنّ الكسر التام والنهائي للقطبية الآحادية الذي نقترب منه سيتسم بخطورة بالغة، وهو بالتالي لن يكون، ولا يمكن، ولا تستطيع أي قوة أن تقوم به منفردة مهما كبرت. هو يحتاج إلى تضافر جهود الجميع وتكاملها ويحتاج إلى دفع روح التاريخ كما تقول الفلسفة. هو مسار بدأناه وأحرزنا فيه نقاطاً عظيمة وراكمنا فيه بالكيف والكم ونستمر بزخم أكبر. لكن يبقى للخطوات الأخيرة صعوباتها المحتملة.
نعم، إنّ هذه المعركة بالنسبة للأميركي ومنظومة الهيمنة الدولية معركة زعامة دولية ومستقبل، وبالتالي لن يوفر وسيلة ليستخدمها في هذا الصراع إلّا وسيلجأ إليها. وإنّ أي تقاعس وتردد من قبل المناوئين لأميركا سيؤدي إلى استعادة الأميركي زعامته وتأبيد هيمنته في هذا الوقت المستقطع من الزمن.
وعليه، فإنّ أي فعل لقوى ناهضة مهما صغرت أو كبرت يجب أن يرتبط فعلها بما هو أبعد، يجب أن يرتبط بكسر الهيمنة ويصب فيها. فلا يفترض أن ننظر إلى حقوقنا من منظورها الضيق في عالم يتعقّد ويتداخل، إنّما من الزاوية الأوسع. ويبادر إلى تقديم معالم خطاب مقنع لمرحلة «ما بعد»، «ما بعد الديموقراطية الليبرالية»، لملاقاة حاجة البشرية على أنقاض فشل تجربة «نهاية التاريخ».
عوداً إلى محور المقاومة وروسيا الاتحادية والصين؛ نظن أنّ ما أنجزته المقاومة الإسلامية على طول الطريق وصولاً إلى «الاستخراج مقابل الاستخراج»، وأدّى إلى إطار الترسيم، هو جولة في صراع وجودي مع العدو الصهيوني وخطوة في مسار كسر الآحادية الأميركية من بوابة إسرائيل كأبرز أداة هيمنة أورو-أميركية، ونقطة قوة للبنان، وتعزيز لسيادته، وترجيح لموقعه ودوره في الميزان الاستراتيجي، ومكسب يضاعف من شرعية المقاومة ومكانتها في البيئتين الداخلية والإقليمية ويقوي نموذجها.