حيان نيوف
عندما سُئل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن موقع روسيا في العالم، وهل هي دولة شرقية أو غربية كان جوابه “العالم هو شرق روسيا وغرب روسيا”.
أراد بوتين القول إن روسيا الاتحادية العظمى هي مركز العالم وقلبه، وأن الشرق والغرب من حولها ويجتمعان فيها من غير أن يؤدي ذلك لالغاء الخصوصية الروسية، بل على العكس فإن هذه الخصوصية الروسية إذا ما أضيفت إلى الجغرافيا السياسية الروسية فإنها تؤهل روسيا لقيادة العالم عبر تحالف أورو ـ اسيوي.
ليست الاوراسية وليدة اليوم فمنذ وصول بوتين للحكم أطلق مصطلح الاوراسية متأثرا بأحد أهم المنظرين الروس “الكسندر دوغين” الذي قيل فيه إنه “دماغ بوتين” وإنه أبو الاوراسية الجديدة.
يرى “دوغين” أن المفهوم الأوراسي يمكن أن يشكل إطارا واسعا يمتد من أوروبا الى المحيط الهادى مرورا بآسيا الوسطى ووصولا إلى الجنوب باتجاه الصين ودول جنوب شرق آسيا، والى الشرق الأوسط ، ويبحث دوغين في الإطار الجامع الاقتصادي والامني والإنساني وصولا إلى البحث عن إطار هوياتي اجتماعي جامع لمواجهة الليبرالية الغربية.
أنشأت روسيا الاتحاد الاوراسي بدايةً من ثلاث دول (روسيا و بيلاروسيا وكازاخستان) ثم انضمت إليه لاحقا دولتان هما (أرمينيا وقرغيزستان)، وكان من أهم مقرراته إلغاء الرسوم الجمركية بين أعضائه.
في السنوات الأخيرة حرص بوتين على طرح مفهوم الشراكة الأوراسية الكبرى أو ما بات يعرف بالأوراسية الجديدة من خلال الربط مع الجوار الأوراسي، بداية ما بين اوراسيا ومبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وثم ما بين أوراسيا والهند عبر اتفاقية تجارة حرة، وما بين الاتحاد الأوراسي ومنظمة شنغهاي التي انضمت لها إيران مؤخرا والتي يرى فيها كل من بوتين و”دوغين”، بأنها دولة حليفة لروسيا.
ولا يخفي “دوغين” إعجابه بنظام الحكم الإسلامي في إيران، ويبدي ضرورة لتغيير التحالف القائم ما بين الدول الإسلامية في الشرق الأوسط وبين الأطلسيين الليبراليين ويتحدث عن حتمية انتصار روسيا في الشرق الأوسط لضمان استقرار الفضاء الأوراسي.
بالمقابل يرى المفكر الإستراتيجي الأميركي وأحد أهم منظري السياسات الغربية “زبغينو بريجنسكي” في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” الصادر في العام 1997 أن تفجير اوراسيا والتدخل بها لاحقا، هو شرط لضمان استمرار التفرد والهيمنة الغربية لقيادة العالم، هذه المنطقة الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى أوروبا غربا مرورا بدول وسط آسيا ومنطقة القوقاز وإيران وهضبة الأناضول، ويدعو بريجنسكي لبلقنة دول منطقة القوقاز وأوراسيا التي تضم أكثر من 400 مليون نسمة، وأن ذلك يجب ان يشكل هدفاً للولايات المتحدة عبر تدخلها في الصراعات التي ستحدث داخل دول هذه المنطقة، ويضع بريجنسكي في رأس القائمة ثلاثة دول هي (إيران – كازخستان – تركيا).
وفي المقابل يرى دوغين أن الأوراسية بالإضافة إلى حاجتها الحتمية لإيران ذات الجغرافيا المترامية والممتدة من وسط آسيا إلى غربها وجنوبا بإشرافها على الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي، لا معنى لها إن لم تضمن لنفسها امتدادا في كل من أوكرانيا وسورية منطلقا من أن هزيمة المحور الشرقي وتفكك الاتحاد السوفيتي في القرن الماضي كان انتصارا لحلف البحر الأطلسي على حلف البر السوفياتي، وهو بذلك يولي الجغرافيا أهميتها في السياسة والصراع، بل إنه يرى أن لا قيامة للأوراسية بلا جغرافيا البحار، وبالتالي بلا اوكرانيا التي تضمن للأوراسية بوابة كبيرة على البحر الأسود، وبلا سورية التي تضمن لها بوابة ثانية رئيسية على البحر المتوسط، كما إيران التي تضمن بوابة ثالثة على مياه الجنوب.
في نظر “دوغين” فإن كلا الدولتين “اوكرانيا وسورية” هما خطا الدفاع الأول والثاني عن الأوراسية التي لا يمكن قيامها بدونهما حتى لا يتكرر انتصار حلف البحر على حلف البر، فالانتصار في أوكرانيا بالنسبة للأوراسية هو عامل الضرورة الذي لا يقبل خيارا اخر، والانتصار في سورية هو البديهة الجيوسياسية التي لا تحتمل غباء استراتيجيا.
ولذلك يقول “دوغين” حول أوكرانيا “لست ضد أوكرانيا السيادية، إذا كانت ستكون حليفنا أو شريكنا، أو على الأقل، أن تبقى في الفضاء المحايد. لكن ما لا ينبغي السماح به هو الاحتلال الأطلسي لأوكرانيا. إن أعداءنا يفهمون تماماً أن روسيا لا يمكن أن تصبح عظيمة مرة أخرى إلا مع أوكرانيا، لا طريقة أخرى، والربيع الروسي يستحيل بدون محور أوراسي في أوكرانيا، بغض النظر عن الشكل، سلميا كان أم لا”.
وحول سورية يقول “دوغين”: “سورية هي الهدف الأبعد، ولكنه ليس أقل أهمية من أوكرانيا، سورية هي خطنا الخارجي للدفاع”.
بلا شك فإن كلًّا من الرئيس بوتين، ودماغه “دوغين” قد قرأ رقعة الشطرنج الكبرى لبريجنسكي، واتخذ قرارات ووضع خططا لمواجهتها لضمان تحقيق الحلم الاوراسي. هذا بدا واضحا في التدخل العسكري والدبلوماسي الروسي والحاسم في كل من جورجيا والقرم وكازاخستان، وفي الشيشان وقره باغ وسوريا، وفي الملف النووي الإيراني، وفي إقليم الدونباس شرق أوكرانيا وفي غيرها.
إن الصراع ما بين الأطلسيين والأوراسيين كما يفضل دوغين وصفه وتعريفه، يتنقل من ساحة إلى أخرى ومن ميدان الى آخر، فالأطلسيون في كل مرة يخلقون أو يحاولون اختلاق بؤر للتوتر في قلب وعلى أطراف اوراسيا، ليبادر الأوراسيون إلى مواجهتهم وافشالهم، وفي ذات الوقت يجري العمل على التشبيك الأوراسي وفقا للظروف الخاصة بكل بلد مؤهل لدخوله.
وإذا كان الأوراسيون قد ضمنوا سقوط المشروع الأطلسي في إيران وكازاخستان، فإنه ومع اقتراب وصول الصراع في كل من سورية وأوكرانيا إلى مراحل الحسم النهائي سواء بالدبلوماسية أو بالميدان، لم يعد أمام الأطلسيين من ميادين قابلة للتفجير سوى الميدان التركي خاصة أن تركيا على أبواب أهم انتخابات رئاسية وبرلمانية في تاريخها منذ تأسيس الجمهورية التركية في القرن الماضي على يد “كمال أتاتورك”، ونظرا لما تمثله الجغرافيا التركية من عامل ربط حتمي بين البوابات البحرية الثلاث لأوراسيا، الاوكرانية والسورية والإيرانية، حيث البحر الاسود والبحر المتوسط ومياه الجنوب “الخليج والمحيط الهندي”، وأن المحور الأوراسي يسعى جاهدا لاحتواء تركيا وإبعادها عن المحور الأطلسي، وتجلى ذلك في صيغة آستانة وتطور لاحقا في قمة طهران التي جمعت رؤساء “روسيا وتركيا و إيران”، قبل ان تنطلق اللقاءات الرباعية بين مسؤولي هذه الدول الى جانب سوريا.
(سيرياهوم نيوز1-العهد )