شاهر أحمد نصر
أحبُّ النّاسِ إلى الإنسانِ هم أهلُه وأصدقاؤه، وأقرب مكانٍ إلى نفسه وروحه، هو مسقط رأسه ومهد طفولته وصباه، ومصدر حنينه… كم يتمنى أن يرىأهله وأصدقاءه أعزّ النّاس، ويفخر بموطنه كأهم وأرفع مكان في الدنيا… وأزعم أنّ التطور العلمي، وتطور وسائل التواصل الإلكتروني العالمي يساعد في تحويل هذه الرغبات إلى واقع… هذا ما أتمناه: أن تغدو الصفصافة، وكلّ بلدة، ومدينة في وطننا واحة معرفة، تبلغ مستوى العالمية، ويغمر إشعاعها أقاصي الأرض…
في هذه الأيام العصيبة ثمّة مشكلات كثيرة يعانيها وطننا تنعكس على مواطنيه، ومدنه، وبلداته،وقراه تحتاج إلى معالجة، وإلى حلّ سياسي شامل للمأساة الكبرى لمعالجتها، إنّما، ستبقى هناك مشكلات تواجهها، كما كثير من مدن وبلدات العالم؛ أهمها ضعف التنمية، وهجرة سكانها، ولا سيّما الشبّان منهم… ولقد عالجت إدارات عدد من مدن العالم تلك المشكلات بتحويل مدنها إلى مدينة معرفة…
إنّ الحماسة لتنفيذ مثل هذه المشاريع لا تنفي وجود أصوات قوية مناوئة لها، تقول: “فكروا في إيجاد فرص عمل للشبّان، قبل أن تفكروا في المنشآت المعرفية والمتاحف الفنية والسياحة”… الخ.
كما أنني أدرك أنّ هذا المشروع لن يتحقق في المدى المنظور بالنسبة إلى جيلنا… وعزائي أنّ أحفادنا، أو أبناءهم سيحققون هذا الحلم، لهذا السبب أضفت كلمة (الوصية) إلى عنوان المقال… وأود أن أنوّه إلى سروري لإمكان الاستفادة من الأنموذج الذي أقترحه لتحويل منطقة الصفصافة إلى واحة معرفة، ليُصبح أنموذجاً لإنشاء مدن وواحات معرفة في مختلف بلدات ومدن القطر…
قبل التعرف إلى المقترحات الملموسة في تحويل منطقة الصفصافة والأحياء والقرى القريبة منها، إلى واحة معرفة، أبيّن مغزى واحة أو مدينة المعرفة، مِنْ ثّم أستعرض بإيجاز أهم إمكانات هذه المنطقة لكي تصبح واحة معرفة.
مدن المعرفة
مدينة المعرفة هي مدينة تنمية مستدامة مبنية على استثمار ثرواتها على النحو الأمثل، وتسويق تلك الثروات عالمياً باستخدام أحدث وسائل المعرفة، ويتحقق ذلك بفعل تشارك مواطني المدينة مختلف صنوف المعلومات، وتفاعلهم المستمر فيما بينهم، وبينهم وبين مواطني مدن المعرفة العالمية الأخرى عبر موقع مدينة المعرفة الإلكتروني…
إنّ تكامل الإرادة السياسية للحكومة مع إرادة مواطني وسكان المدينة (المنطقة) شرط أساسي لإنشاء مدينة (واحة) المعرفة، إذ تُبنى على هذه الإرادة رؤية إستراتيجية للعمل المعرفي والتنظيمي المطلوب، ولتوفير المتطلبات المالية، وكل ما يلزم من دعم معرفي، وكادر بشري لتخطيط وتنظيم المكان،وحُسن استثماره، لتنمية المنطقة اقتصادياً، واجتماعياً وثقافياً؛ فمدينة المعرفة مصدر فوائد جمّة لأهلها والوطن، من أهمها:
– استثمار ثروات المواطنين وسكان المنطقة الذهنية، فضلاً عن ثرواتها الطبيعية والتراثية.
– الإسهام في خلق بيئة اجتماعية ديمقراطية رحبة تتسع لمختلف ألوان وأطياف المجتمع، وتفعّل مشاركة جميع المواطنين الحيّة في النشاط المعرفي.
– تنمية المجتمع، وتعزيز عملية البحث العلمي والابتكارات باستثمار نتائجها في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية.
سمات منطقة الصفصافة التي تؤهلهاللتحول إلى واحة معرفة
الصفصافة، أو “ريحانة سهل عكار”، و”صفصافة الغدير”؛ أخذت اسمها من شجر الصفصاف الذي ينمو على جدول ماء يجري وسطها متدفقاً من عين الصفصافة ذات الفضل في وجود العمران والسكن في ربوعها.
تقع على بعد 27 كم جنوب شرق مدينة طرطوس، و13 كم عن الحدود اللبنانية… بلغ تعداد سكان البلدة والأحياء التابعة 23,416 نسمة حسب التعداد السكاني لعام 2004. بُنيت مساكنها في سهول ووديان وعلى سفوح جبال وهضاب على ارتفاع نحو 150م عن سطح البحر.
تتميز البلدة بطبيعتها الجميلة، وموقعها المهم،ومجموعة القلاع والمعالم الأثرية والدينية والسياحية،منها:
– قلعة العريمة، وجامع أثري مبني من الحجارة البازلتية، وعدد من المساجد المزارات الدينية التي تحيط بها محميات طبيعية من أشجار البلوط والسنديان المعمرة، ومجموعة من التلال الترابية الأثرية ذات الصالات والمستودعات الحجرية الاصطناعية منها تل صفرون، وتل كزل…
– دير مار الياس الريح، الذي بني في القرن الخامس الميلادي… وفي الدير كنيسة دير مار الياس الريح… وهناك كنيستان واحدة في عين الزبدة، والثانية في الريحانية…
– سد نهر الأبرش: يحاذي نهر الأبرش قلعة العريمة شمالاً وغرباً، ويخترق سهل عكار وصولاً إلى البحر عند قرية عرب الشاطئ، شُيّدت على مجراه طواحين مائية، وسدود، أو “سدات نهرية”، أو ما يسميه المزارعون “سكراً نهرياً”، بأساليب يدوية لرفع منسوب المياه من مستوى 1 إلى 4م… وفي تسعينيات القرن الماضي شُيّد سدّ على نهر الأبرش إلى جوار بلدة الصفصافة؛ يعدّ من أهم السدود في محافظة طرطوس…
ثمّة أماكن حيوية ينبغي ذكرها، أيضاً، إذ يخترق بلدة الصفصافة مسيل مائي أشيدت فوقه أربعة جسور، واشتهرت سهولها بالينابيع والعيون والآبار تحمل عمارة بعضها بصمات أثرية، وتحيي مياهها خضرة الطبيعة وتزيدها جمالاً…
التعليم
تفخر الصفصافة والقرى المجاورة بحبّ أبنائها للعلم، وبنسبة تعليم جيدة، وفيها عدد لا باس به من الأطباء، والمهندسين، ومن تخرجوا في المعاهد والجامعات من مختلف التخصصات…
مقدمات تأسيس مدينة المعرفة
لتحويل أي حاضرة عمرانية إلى واحة معرفة ينبغي توافر الإرادة السياسية، كما ذكرنا آنفاً، فأي خطة لتأسيس هذه الواحة لن تنجح من دون دعم صادق من أعلى المستويات الحكومية والمحلية، وتتجلى هذه الإرادة في المساعدة على تأسيس مركز معلوماتي يتبع لمجلس البلدة أو المدينة تديره نخبة من الخبراء في مجال المعلوماتية من أبناء المنطقةالمتحمسين لتأسيس مدينة المعرفة، سنُطلق عليه اسممركز “المعلومات والمعرفة”…
يسعى مجلس البلدة (المدينة) مع مركز “المعلومات والمعرفة” إلى العمل لتحويلها إلى مدينة معرفة، وذلك بتعزيز شبكات الاتصال بين مختلف المؤسسات المحلية العامة والخاصة، والمعاهد،والجامعات، ومراكز البحوث… ويمكن دعم مركز “المعرفة والمعلومات” مالياً من موارد مجلس البلدة، وعبر خطط استثمارية تجذب التمويل من القطاعين العام والخاص، لتنفيذ مشروع واحة المعرفة باستثمار نقاط القوة والثروة في المنطقة…
خطوات تنفيذ واحة المعرفة:
يحدّد مجلس البلدة رؤيته في مسألة ضرورة تحويل المنطقة إلى حاضرة زراعية نامية، ومنطقة سياحية، وواحة معرفة ذات مظهر حضاري وبيئة جميلة وفريدة… كما يضع خطة ويحدد الهدف منتنفيذ مشروع واحة المعرفة؛ ألا وهو: دخول حقبة جديدة مهمة في تاريخ المنطقة، والإسهام في تنميتها اجتماعياً، واقتصادياً، وثقافياً، وتعزيز مكانتها المحلية والعالمية، عبر تنشيط مختلف الفعاليات فيها… ويجدر التنويه إلى أنّ أساس نجاح واحة المعرفة ليس في حسن استثمار الثروات التي تمتلكها، فحسب، بل في الثروات المعرفية والمادية التي تنتجها، أيضاً، بفضل تنفيذ خطة للتفاعل والتكامل التنموي بين ثقافة المكان وروحه، من جهة، والتقدم التقني والمعرفي والثقافي من جهة ثانية…ولتحقيق هذه الخطة تُعتمد الإجراءات التالية:
– يشكّل مجلس البلدة بالتنسيق مع الجهات المعنية في المحافظة “مركز المعلومات والمعرفة”، مهمته وضع الأسس الفنية والقانونية اللازمة لإعلان مسابقة لتقديم دراسة متكاملة للتخطيط العمراني والمعرفي لتحويل المنطقة إلى واحة معرفة، تتضمن المخططات الطبوغرافية والتنظيمية والمعمارية اللازمة لجميع المعالم الأثرية والدينية القائمة،وترقيتها لتصبح فضاء معرفياً غنياً، وتقديم مخططات للمنشآت العمرانية التي ستُشاد لتحويل المنطقة إلى واحة معرفة تتكون من: متحف فني وتاريخي، ومركز المعلومات والمعرفة، الذي يتكون من غرف إدارة وصالة انترنت، ومكتبة، ومسرح وقاعة محاضرات، كمؤسسات لخلق المعرفة، فضلاً عن مخططات مجمع فندقي ومطاعم وكافيتيريا، وتلفريك يصل دير مار الياس الريح بقلعة العريمة وبسدّ مريزة، وبنية تحتية متكاملة تعالج مشكلات التلوث،وتدهور النظم البيئية المائية للأنهار والبحيرات والمياه الجوفية…
بعد تنفيذ تلك الأعمال، يُحدث موقع إلكتروني للمنطقة في شابكة الاتصالات الدولية، يمكنتسميته: “الصفصافة واحة معرفة”، ويتضمن مواقع فرعية لمؤسسات وشركات تجارية، ومراكز بحوث علمية، وأفراد من جنسيات محلية وطنية، وعالمية للتعريف بمكونات واحة المعرفة، وصفحات تحتوي مخططات وصور الأماكن، والمعالم الأثرية والدينية والسياحية والعمرانية، ونبذة تعريف بها، ومسارات زيارة هذه الأماكن، ويدير الموقع “مركز المعلومات والمعرفة” وفق برنامج غني يتضمن تغطية النشاطاتالثقافية، والسياحية، والمعرفية، التي تُنفذ في المواقع الأثرية والسياحية والمركز الثقافي، فضلاً عن برامج المناقشات والمسابقات العلمية والمعرفية،وتسويق منتجات المنطقة، لتحفيز التفاعل الاستثماري، والاقتصادي وجذب السائحين من مختلف بقاع العالم.
وينبغي أن يتصف هذا الموقع بالسمات التالية:
– تشاركية مختلف الصفحات الإلكترونية الفعّالة في المنطقة في هذا الموقع، وإسهامه في تقديم مختلف الخدمات الإلكترونية، وتحفيز عمليات الإبداع والابتكار، وتشجيع المبادرات الفردية والجماعية للنهوض بالمنطقة…
– يُسهم الموقع في تشجيع تسويق منتجات وثروات المنطقة، وتحفيز النقاش المعرفي والعلمي، وبحوث فكرية، وفلسفية وعلمية وأدبية وتاريخية…
– يعمل المركز والموقع على تفعيل الحوار،والتعاون بين الثقافات المعاصرة والتاريخية المحلية والعالمية لصون القيم العريقة التي رافقت تطور الفنون المحلية، وأهمية تلاقي روح الزراعة الريفية، مع ثقافة المدينة؛ وأنّ أهم عوامل نجاح ذلك: توافر فضاء الحرية، والثقة بالنفس واحترام الذات، والطموح إلى التميز، واحترام الإرث التاريخي عميق الجذور كجزء من الهوية الثقافية…
– تمتلك واحة المعرفة مستويين للعلاقات الافتراضية والملموسة: محلي وعالمي، يسهمان فيتشجيع الإبداع، والثقافة، والرياضة، والسياحة، وتوافر خدمات متطورة فضلاً عن الاهتمام بقطاعات الإنتاج المختلفة فيها، في فضاء من التعددية والتنوع والتسامح والانفتاح.
وتسهم إدارة واحة المعرفة في تنفيذ خطة تنموية اقتصادية اجتماعية وثقافية ومعرفية للمدينة والمنطقة المعنية، والارتقاء بها إلى المستوى العالمي عبر عملية توأمة مع مدن عالمية تتلاقى معها في الصفات والأهداف، ما يخلق شرطاً ملائماً لجذب الاستثمارات الضرورية لتنفيذ خططها التنمويةورقيها الشامل.
النشاطات المعرفية اليومية في مدينة المعرفة
تتميز الحياة في واحة المعرفة بابتكار لحظة معرفية يخلقها تفاعل النّاس فيما بينهم، وبينهم وبين سكان مدن المعرفة العالمية، وتفاعلهم مع المكان،وإعادة الروح إلى النّاس والمكان، والمساهمة في التنمية والرقي الحضاري والمعرفي، وفق برنامج تفصيلي يومي يحدّده “مركز المعلومات والمعرفة”،يتضمن مسارات زيارات الأماكن التراثية والسياحية والطبيعية، ومسارات طالبي المعرفة، والبنود الرئيسة لموضوعات الحوار، التي تبرز تاريخ المنطقة وجذورها وتقاليدها، وتوجهها إلى المستقبل، وتبيان هويتها: الإنتاجية الزراعية الحضارية السياحيةالمعرفية المتميزة.
يجدر التنويه إلى أنّ ما جاء في هذا المقال عبارة عن أفكار عامة، كلّ بند فيها في حاجة إلىتفصيل، وتطوير، وتصويب؛ نقدّمها إلى كلّ مهتمبهذا الشأن، وبمسألة التنمية الحضارية، والرقي بمكانة الإنسان والسمو بإنسانيته…
(سيرياهوم نيوز ٣-الكاتب)