محمد نادر العمري
كان جلياً أثناء زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الأخيرة إلى الشرق الأوسط، تركيزه على مبادئ أساسية ضمن الإستراتيجية التي اعتادت الإدارات الأميركية المتعاقبة على تبنيها بشكل كلاسيكي منذ أربعينيات القرن الماضي، أول هذه المبادئ يتجلى في الحفاظ على مصالح ما يسمى الأمن القومي الإسرائيلي والسعي لتعزيز كل عناصر تفوقه السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة، وهو ما بات من بدهيات السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، أما المبدأ الثاني يبرز في التحكم والتأثير على مراكز صنع القرار والموارد النفطية وطرق مواصلاتها بما يسمح للمؤسسات الليبرالية ذات التوجه الرأسمالي بأن تساهم في الحفاظ على الهيمنة الأميركية في النسق الدولي، في حين يتمثل المبدأ الثالث في تكريس الوجود الأميركي في منطقة الشرق الأوسط ولاسيما الخليج العربي، وهو ما ظهر بشكل واضح أثناء زيارة بايدن عندما قطع وعداً حازماً بقوله: «بلاده لا تخطط لمغادرة الشرق الأوسط والخليج، ولن نسمح بحصول فراغ إستراتيجي بالمنطقة تملؤه الصين أو أي دولة أخرى».
الصين الشبح الكبير الذي بات يقلق مراكز صنع القرار داخل المؤسسات الأميركية، حتى أمست كل التصريحات على مختلف مستوياتها تتوجس من مخاطر نموها السريع ونفوذها المتنامي وتأثيرها الدولي على كل الصعد، فإن كان الجانب الاقتصادي الذي حوّل العلاقات الثنائية الأميركية- الصينية من تعاون إلى مواجهة، هو البارز في هذه التهديدات والمخاطر التي تروج لها واشنطن، إلا أن الجوانب الأمنية والعسكرية وحتى العلمية والتكنولوجية، هي تهديدات بدأت تطفو على سطح التنافس بين الدولتين بشكل ظاهر وملموس، وهو ما دفع الإدارة الأميركية السابقة في عهد دونالد ترامب لفرض عقوبات على شركات الاتصالات والتكنولوجيا الصينية، نتيجة لامتلاكها الجيل الخامس من الاتصالات، الأمر الذي يجعلها ذات قدرة وتأثير أكبر في الفضاء الأمني والتجسسي وخاصة في أوروبا، رقعة تحرك الأطلسي ومركزه، لذلك حرصت واشنطن على تأزيم الملف التايواني وحاولت دك إسفين الخلاف بين موسكو وبكين، ولوحت بالقوة العسكرية ووضع الصين على قمة المخاطر والتهديدات ضمن إستراتيجيتها القومية لعامي 2022-2023، فضلاً عن ذلك مارست الولايات المتحدة الأميركية ضغوطاً على الدول الأوروبية لعدم التعاون مع الصين وخاصة في مجال التكنولوجيا والاتصالات.
زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية وعقده ثلاث قمم متتالية على المستوى الثنائي مع الدولة المستضيفة، وجماعي على المستوى الخليجي والعربي، لم تكن بهدف مسعى الصين بعرض استبدال نفوذها بالنفوذ الأميركي، حتى إن الصين لم تزعم أو تدعي ذلك، ولكن هذه الزيارة من دون أدنى شك ستمهد لتعدد الفاعلين الدوليين المؤثرين في هذا العمق الحيوي من العالم، وما يؤكد هذا وجود جملة من المؤشرات على ذلك:
1. تسود حالة من الفتور العلاقات الخليجية- الأميركية منذ تولي بايدن للحكم، باستثناء قطر التي تربطها بالديمقراطيين علاقات مميزة، وهذا الفتور تمثل في الاستقبال الوضيع للرئيس الأميركي جو بايدن أثناء زيارته إلى السعودية في منتصف العام الجاري، على عكس الحفاوة التي استقبل بها الرئيس الصيني مؤخراً، سبق ذلك تأخر سعودي في تهنئة الرئيس بايدن بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، ولكن فجوة الفتور اتسعت مع رفض «أوبك» وأعضائها الطلب الأميركي بزيادة إنتاجها من النفط.
هذا لا يمكن اعتباره تغييراً في الإستراتيجيات بقدر ما يمكن تصنيفه انزعاجاً خليجياً وخاصة سعودياً من موقف الديمقراطيين المقرب من قطر والمستثمر في ملف حقوق الإنسان للضغط على السعودية في ملفات كثيرة بما فيها العدوان على اليمن.
2. هناك اهتمام أميركي شبه كامل بالصراع مع روسيا على الجغرافيا الأوكرانية، وتسعى واشنطن لتوسيع رقعته ليصل إلى دول الخليج العربي في محاولة منها لاستنزاف روسيا وزيادة عزلتها وإحكام الحصار عليها، وهو ما قد يحول الخليج إلى ساحة كر وفر ترفضه هذه الدول وتخشى من تداعياته التي بدأت تعيشها شعوب وأنظمة أوروبية.
3. هناك شكوى خليجية على مدى أعوام ماضية من تجاهل أميركي مسألة «الأمن القومي الخليجي»، وتزايدت هذه الشكوى بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران، إذ تدعي دول الخليج أن واشنطن فضلت مصالحها ومصالح إيران على مصالح ومخاوف حلفائها الأمنية، عبر ما ينتهجه بايدن اليوم من سياسات وكذلك سلفه الديمقراطي باراك أوباما، وهو ما عدّ لدى دول الخليج بأنه منطق لا ينسجم مع التحالفات والأحلاف التي تصنف ضمن الإطار الإستراتيجي.
4. تعرض الاقتصاد الخليجي على مدى عقدين وخاصة منذ أزمة الرهن العقاري 2008، لخسائر تجاوزت 4 تريليونات دولار، لذلك باتت هذه الدول تتبنى تنويع شركائها الاقتصاديين لتفادي المزيد من الخسائر، إذ إن الصين تمتلك نموذجاً يحتذى به فضلاً عن توجه الرياض لإيجاد نقاط تلاق بين مشروع «نيوم» ومشروع «الحزام والطريق» والمشروع الأوراسي الذي تتبناه روسيا.
هذه المؤشرات وغيرها تؤكد أن الصين لا تريد أن تقدم نفسها بديلاً عن الولايات المتحدة الأميركية، ولكنها تؤكد سعياً صينياً لتوسيع مصالحها، وهذا حق طبيعي، وتمتلك الإمكانات لذلك وهو ما يؤرق الإدارة الأميركية، في المقابل يبدو واضحاً أن السعودية والإمارات وغيرهما من الدول الخليجية حرصت على إرسال رسائل تطمينية لواشنطن قبل زيارة الرئيس الصيني إلى الخليج بيوم واحد، مفادها التأكيد على تاريخية العلاقة مع واشنطن والتمسك بها، وهو ما يؤكد أن هذه الدول وإن ملكت أدوات العبث بالعلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية إلا أنها غير قادرة على تغيير مسارها بالكامل خشية من تحرك أميركي خلف الكواليس المظلمة يطيح بأنظمة الحكم فيها أو يصيبها بشلل اقتصادي.
سيرياهوم نيوز1-الوطن