لجين سليمان
-الصين يقول الروائي الصيني “مو يان” في أحد أعماله: “من شدّة الجوع كان زملائي في المدرسة الابتدائية يتوقون إلى أكل حتى الفحم، وأما أنا فكان من أكبر أحلامي أن أحصل على قطعة من الخبز، فما زال هناك حتى اليوم من يتذكّر هذه المجاعة وما سبّبته من معاناة و من جوع. أما اليوم وبعد 70 عاما، فقد حقّقت بلادي قفزة كبيرة في حلّ مشكلة نقص الغذاء، وها قد كُتب فصل جديد للزراعة والمناطق الريفية” لم يكن المسار الذي سلكته الزراعة في الصين سهلا ويسيرا، إذ مرّت البلاد بسلسلة من الصعوبات حتى وصلت إلى برّ الأمان الغذائي. ويشهد معظم أبناء الجيل القديم في الصين ممن عاشوا ظروف المجاعات وآثارها، بأنّ الاقتصاد الزراعي هو الحل الوحيد لضمان الأمن الغذائي للدول. وقد كان من المثير للانتباه ذاك الحزن الذي ظهر على وجوه طلاب المدارس والجامعات بعد وفاة المهندس الزراعي والعالم الصيني “يوان لونج بينج” والملقّب بأبي “الأرز الهجين” العام الماضي، إذ بدا الامتنان في كلّ كلمة قالوها لرثائه، وهذا وإن دلّ على شيء فإنما يدلّ على مكانة الزراعة في حياتهم وخاصة زراعة “الأرز”، فالأرز بالنسبة لهم هو بمثابة “القمح” لنا في عالمنا العربي. تاريخيا كانت البداية من مقاطعة “خبي” عندما عقد الحزب الشيوعي الصيني عام 1947 أي قبل عامين من تأسيس جمهورية الصين الشعبية مؤتمرا وطنيا حول الأراضي الواقعة في إحدى مدن تلك المقاطعة، إذ تمّت حينها صياغة وإقرار “مخطط قانون الأراضي الصيني” الذي ألغى الاستغلال الإقطاعي وشبه الإقطاعي للأرض. بعد سنوات من الصراع وانعدام الأمن وتحديدا في عام 1950 بدأ العمل على زيادة الإنتاج من خلال إصلاح الأراضي الزراعية. إذ تمّت مصادرة الأراضي من المالكين ووُزّعت على الفلاحين، وهو ما كان خطوة ألغت النظام الإقطاعي القديم في الريف، مما شكّل بداية لخطوات لاحقة من أجل تحسين الإنتاج الزراعي. فمثلا: في عام 1951 ، عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعا تمت فيه مناقشة وإقرار “المساعدة والتعاون المتبادلين في الإنتاج الزراعي” ، وتم إرسال القرار إلى لجان الحزب المحلية، وذلك لتنفيذ هذا التعاون بشكل تجريبي. بين عامي 1953 و 1956 تحوّل الاقتصاد الزراعي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلى اقتصاد تعاوني قائم على الملكية العامة. إذ كان الهدف الرئيسي من هذا التحوّل هو تغيير علاقات الإنتاج بما يجعلها تقوم على التعاون الفعلي بين الفلاحين والذين شجّعتهم هذه الحركة التعاونية على زيادة إنتاجهم، وحرّرت وطوّرت القوى الإنتاجية الريفية ، وعززت زيادة إنتاج مختلف المنتجات ولا سيما الحبوب.ووفقًا للبيانات ، فإنّه بين عامي 1952 إلى 1978 ، زاد إجمالي إنتاج الحبوب بنسبة 86 ٪ ، وكان متوسط معدل النمو السنوي 2.5 ٪. ظهر بعدها ما يُسمّى بـ “مجتمع الشعب” الذي يدير جميع الأنشطة الزراعية نيابة عن الدولة، إذ تمّ تقسيم المزارعين إلى فرق إنتاجية صغيرة، وقد حصلوا على “نقاط عمل” مقابل ما يقومون به من إنتاج وجهد يومي. ومن ثغرات هذا النظام أنه ومع مرور الزمن لم يعد يوجد أي نوع من التفكير الإبداعي نتيجة عدم وجود حوافز كبيرة للعمل، وقد أدرك القائمون على مرحلة الإصلاح والانفتاح هذا الأمر مما دفعهم إلى تقديم شكل جديد من الإنتاج عام 1978 يتمثّل في نظام “التعاقد”. إذ أنه ووفقا لنظام التعاقد، يتمّ تأجير الأراضي للمزارعين من خلال عقد خاص، وقد أثبت هذا النظام نجاحا سريعا، كما أنه حسّن جودة وكمية المنتجات الزراعية. يمثّل ما سبق تقديمه من إجراءات فكرة التحوّل نحو الاشتراكية تدريجيا عبر خطوتين رئيسيتين: الخطوة الأولى هي تحويل الرأسمالية إلى رأسمالية الدولة. الخطوة الثانية هي تحويل رأسمالية الدولة إلى اشتراكية. ومن أجل تلبية الطلب المتزايد على الغذاء، أطلقت الصين عام 1988 حملة تحت اسم “مشروع سلة الخضراوات” بهدف زيادة إنتاج الخضروات، وتعزيز استقرار أسعار المواد الغذائية، ولهذه الغاية تمّ إنشاء مراكز لبيع وشراء الخضار والفواكه من المنتج إلى المستهلك في جميع أنحاء البلاد، مما أدى إلى الاكتفاء من المنتجات الزراعية. منذ أواخر التسعينيات ، تحولت التنمية الزراعية في الصين من تنمية زراعية تقليدية تركّز على زيادة الإنتاج إلى التحديث التكنولوجي والاقتصادي الموجه الذي يحسّن جودة المنتجات الزراعية ، ويعزز القدرة التنافسية الدولية للمنتجات الزراعية ، ويزيد من دخل المزارعين. تم إلغاء الضريبة الزراعية في عام 2000 ، وقُدّمت إعانات مباشرة لمزارعي الحبوب، بهدف تعزيز زيادة دخل المزارعين ، وزيادة القدرة الزراعية الشاملة ، وبناء ريف جديد ، وتطوير الزراعة الحديثة ، وتوجيه القرويين لتطوير الزراعة المميزة ، وبناء زراعة العلامات التجارية. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه منذ الإصلاح والانفتاح ، بدأت الدولة تعتمد على تحسين تطوير العلوم والتكنولوجيا الزراعية بطرق مختلفة والتي كان منها بدء البحث العلمي الزراعي بشكل تدريجي. واليوم تعد الصين أكبر منتج زراعي في العالم، إذ تنتج ما يكفي لخُمس سكان العالم من نحو 10% من أراضيها الصالحة للزراعة. وعلى الرغم من تطور الصين على مدى العقود الماضية، وإمكانية الاعتماد على مصادر متعددة للتنمية الاقتصادية إلا أنّ الزراعة لا تزل تلعب دورا رئيسيا في الاقتصاد. زراعة متطورة بريف حديث بالإضافة إلى زيادة الإنتاج الزراعي والتركيز على الكم والنوع، شملت عملية تطوير الريف الصيني تهيئة المزارع فكريا، خاصة وأن الثقافة الصينية القديمة تؤمن بأهمية بناء الإنسان، إنسان قادر على إنشاء حضارة زراعية في أبعد نقطة ريفية. في المؤتمر الخامس لأعضاء الحزب الشيوعي عام 2004 جاء ما يلي: “يجب دفع عملية التحديث في أشكال الحياة الريفية، فبسبب تأثير البيئة المحلية والتقاليد المتوارثة، مازال هناك العديد من الإشكاليات في حياة الريفيين التي لا تتوافق مع المجتمعات الاقتصادية المتطورة والمزدهرة ، حيث يظهر في المجتمع الريفي الكثير من المشكلات التي تعيق عملية التنمية مثل فكرة الإنتاج البسيط وبعض التأثيرات كرواسب الفكر والمجتمع الإقطاعي، ولذلك يجب تحديث شكل الحياة الريفية من أجل دفع عملية التنمية الشاملة للنشاط المجتمع الريفي الزراعي حيث يتطلب ذلك دفع عمليةالتحديث في مجال التعليم في الريف ورفع الوعي الثقافي والعلمي والقانوني لأبناء القرى كما يجب دفع عملية التحديث في أسلوب الحياة الريفية وتطبيق الاساليب المتحضرة والصحية ودفع عملية التحديث في أنماط الاستهلاك وزيادة المخزون وتحسين عوامل الإنتاج والحياة”. وبذلك فإنّ العمل على تطوير الريف ذهب باتجاهين أساسيين، الأول هو العمل على زيادة الإنتاج، والثاني يتعلق ببناء ذهنية الفلاح. وهنا لا بدّ أيضا من استذكار ما كتبه المفكر الاقتصادي المصري الراحل ” سمير أمين” من فقرات من مذكراته عن الصين في الستينات والثمانينات من القرن الماضي “شذرات من بلد فريد” إذ جاء ما يلي: “في الصين، وهي دولة فقيرة بالموارد (نجحت في إطعام 22% من سكان العالم بـ6% فقط من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم)، لا يمكنك أن ترى الكثير من الفقراء. إنها على النقيض تمامًا من البرازيل، الدولة الغنية التي لا يُرى فيها سوى الفقراء. إنني أختار كلماتي بعناية. فقد قطعت بالسيارة آلاف الكيلومترات عبر مقاطعات الصين الغنية والفقيرة؛ لم يكن هناك ما يمكن مقارنته بالفقر المروّع الذي رأيته في كل خطوة في الهند أو مصر أو المكسيك أو البرازيل أو جنوب إفريقيا. كانت هناك قرى صينية غنية، تشابه تلك الموجودة في اليابان، وكانت هناك قرى فقيرة، مثلما كانت موجودة قبل 50 عامًا تقريبًا في بعض مناطق أوروبا، لكن لم يكن هناك ملايين الأشخاص الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة، كما هو الحال في كل مكان آخر تقريبًا”. وتابع: “إنّ مبدأ الأرض كملكية مشتركة، ودعم الإنتاج الزراعي الصغير للعائلات التي لا تملك الأرض، بل حقوق استخدامها، هو مصدر هذه النتائج غير المسبوقة، فقد سمح هذا بالسيطرة النسبية على الهجرة من الريف إلى الحضر. فلنقارن ذلك بالنهج الرأسمالي، كما هو الحال في البرازيل مثلًا، حيث أفرغت الملكية الخاصة للأراضي الزراعية الريفَ البرازيلي. اليوم يعيش 11% من السكان في المناطق الريفية، ولكن ما لا يقل عن 50% من سكان الحضر يعيشون في العشوائيات (الفاڤيلا)، ويبقون على قيد الحياة فقط بفضل (الاقتصاد غير الرسمي بما فيه الجريمة المنظمة). لا يوجد شيء من هذا القبيل في الصين، حيث يعمل ويعيش سكان الحضر، ككل بشكل لائق”.
(سيرياهوم نيوز6-لعبة الامم24-9-2022)