شاعر الشاهر
يبدو أن المساعي الأميركية لاحتواء الصين لم تعد مجدية، وأن نظرية “التهديد الصيني”، التي وظفتها الولايات المتحدة لـ “شيطنة الصين”، باتت من الماضي، بعد أن استطاعت بكين كشفها وتعريتها أمام العالم أجمع.
انتقادات كبيرة وجّهتها بكين إلى حلف الناتو ومبررات بقائه وتوسعه، يبدو أنها نابعة من مخاوف من أن يكون الناتو طرفاً في المواجهة القادمة بين الصين والولايات المتحدة.
حلف الناتو، الذي بات من الناحية المنطقية أحد مخلّفات الحرب الباردة، كان يجب أن ينتهي مع سقوط الاتحاد السوفياتي.
كان من التعهدات، التي قدّمتها واشنطن إلى الاتحاد السوفياتي حينها، ألّا يجري أي توسع للناتو مستقبلاً، لكن الذي حدث أن الناتو تم توسيعه شرقاً خمس مرات.
نتيجة لذلك، بات حلف الناتو مصدراً للقلاقل والاضطرابات، بدلاً من أن يكون عاملاً من عوامل التهدئة والاستقرار في العالم أجمع.
تاريخ الناتو كله يشير إلى أن الحلف لم يكن إلا أداة في يد الولايات المتحدة، استخدمتها خدمة لمصالحها وتوجهاتها الاستعمارية.
كانت المرحلة الأخطر في تاريخ الناتو عندما أعلنت أوكرانيا رغبتها في الانضمام إلى الحلف، أو بالأصح رغبة الحلف في التوسع شرقاً ليضم أوكرانيا.
ضم أوكرانيا، الهدف منه تهديد الأمن القومي لروسيا، وهو ما لم تقبله موسكو، وبالتالي نجحت الولايات المتحدة في جر روسيا إلى حرب مفتوحة، يراد منها استنزاف روسيا على غرار الحرب في أفغانستان، التي استنزفت الاتحاد السوفياتي سابقاً.
الحروب بالوكالة أسلوب أتقنته الإدارة الأميركية وتفننت في تنفيذه، معتمدة في ذلك على تنظيمات إرهابية (“القاعدة”؛ “داعش”)، أو دول كما يجري الآن في أوكرانيا.
بكين، من جهتها، ما زالت حتى اليوم تنجح في تفادي أيّ مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية، عبر خطابها الهادئ وسعيها لعدم الانجرار إلى أيّ مستجدات تستهدف عرقلة نموها وحرفها عن تنفيذ مشروعها الاقتصادي الأهم (“الحزام والطريق”)، مستفيدة في ذلك من درس المواجهة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، والتي أدت في النهاية إلى تفكك الاتحاد نتيجة أسباب اقتصادية على رغم امتلاكه كل مقومات القوة العسكرية.
لذا، نجد أن بكين تركز، بصورة كبيرة، على الاقتصاد، وترى فيه المصدر الأهم لقوتها، تطبيقاً لمقولة نابليون بونارت، ومفادها أن “مقومات الحرب ثلاثة: المال، والمال والمال”، وهو ما يجعل الصين اليوم الأقوى والأقدر على خوض الحروب إذا فُرضت عليها.
كما استفادت بكين من الدرس الأوكراني، فأوصلت رسالتها إلى واشنطن، ومفادها أنها لن تسمح باستنساخ النموذج الأوكراني في منطقة بحر الصين الجنوبي؛ أيْ أن أيّ مواجهة في المنطقة ستكون مواجهة مباشرة مع القوات الأميركية الموجودة فيها.
تلك الرسالة استوعبتها واشنطن جيداً، وعدّت قطع الاتصالات العسكرية المباشرة بين قوات البلدين في منطقة بحر الصين الجنوبي مؤشراً كبيراً على ذلك.
من هنا، كان السعي الأميركي لعودة الاتصالات مع بكين، على الصعيد العسكري، في أقل تقدير، لكن ذلك لم يتحقق حتى الآن، على رغم زيارة بلينكن ومسعاه، الذي تركز على هذا الجانب.
كما كان الرفض الصيني لعقد اجتماع بين وزيري دفاعَي البلدين، بحيث اشترطت بكين رفع اسم وزير دفاعها عن لائحة العقوبات الأميركية من أجل تحقيق ذلك.
الولايات المتحدة، في سعيها لاحتواء الصين، عملت على خلق مزيد من التوترات، عبر إثارة المخاوف لدى الدول المجاورة للصين، وخصوصاً في منطقة بحر الصين الجنوبي.
الهدف في ذلك كله تشجيع تلك الدول على أداء دور الوكيل في أي حرب مقبلة في المنطقة، وهو ما لقي قبولاً لدى عدد من الدول، وخصوصاً اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، والجماعات الانفصالية في تايوان.
ومن أجل ذلك كله، نسجت الولايات المتحدة الأميركية طوقاً من التحالفات والاتفاقيات الأمنية في محيط الصين، ردت عليها بكين بمزيد من الانفتاح السياسي والتعاون، اقتصادياً وعسكرياً، مع عدد من دول العالم.
دخلت الصين المناطق التي كانت تاريخياً مناطقَ للنفوذ الأميركي، بدءاً بالشرق الأوسط، مروراً بدول آسيا الوسطى، وباكستان وأفغانستان، وصولاً إلى طهران، التي تربطها بها شركة استراتيجية كبيرة.
كما عزّزت علاقاتها بالقارة الأفريقية التي بات النموذج الصيني في التعاطي معها يحظى بقبول كبير من الناحيتين الرسمية والشعبية.
الصين والناتو.. عداء أم تضارب في المصالح
ترى الصين في الناتو أداة في يد الولايات المتحدة الأميركية، وأن له أطماعاً استعمارية، وخصوصاً أن أكثر دول الناتو هي دول استعمارية، وهو ما يثير مخاوف بكين، التي لم يعرف تاريخها أي سلوك استعماري، وخصوصاً أن عدد الدول الأعضاء في الناتو آخذ في الازدياد. فعند تأسيس الحلف في عام 1949 كان عدد أعضائه 12 دولة. أمّا اليوم، بعد زوال أسباب وجوده، بلغ عدد أعضائه 30 دولة.
لقي الموقف الصيني بشأن الحرب في أوكرانيا انتقاداً كبيراً من جانب الناتو، الذي طالب بكين باتخاذ موقف أكثر وضوحاً وإدانة “الغزو الروسي لأوكرانيا”.
بكين، من جهتها، أمسكت العصا من المنتصف، فكان موقفها منسجماً مع مبادئها وتوجهاتها، فدانت الهجوم على دولة ذات سيادة، وعضو في الأمم المتحدة.
لكنها، في الوقت نفسه، أعلنت تفهمها المخاوف الروسية، وعدّت محاولات ضم أوكرانيا إلى الناتو تهديداً للأمن القومي الروسي.
هذا الموقف لقي تفهماً من روسيا، التي سعت لتطوير علاقاتها ببكين، لكنه، في الوقت نفسه، لقي رفضاً وإدانة من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
بكين، من خلال موقفها هذا، كرست نفسها دولة عظمى (بمعنى أنها أكبر من أن تكون مع أو ضد).
وكان مستغرباً جداً في حينه تصريح رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي ربط بين ما يحدث في أوكرانيا وما سيحدث في تايوان.
وهي المقارنة التي رفضتها بكين تماماً، كون أوكرانيا دولة مستقلة وذات سيادة، في حين أن تايوان جزء من الصين، ولا تعترف بها سوى بعض الدول الصغيرة في العالم.
تصريح جونسون أثار حفيظة بكين انطلاقاً من أن بريطانيا لطالما كانت العقل المدبر للسياسات الغربية، وسياسة حلف الناتو على وجه التحديد، في حين أدّت الولايات المتحدة دور المنفذ لتلك السياسات.
جونسون، الذي كان مرشحاً لرئاسة حلف الناتو، يبدو أنه أراد أن يرسل رسائل متشددة إلى بكين، آملاً الحصول على دعم واشنطن له، وهو ما لم يتحقق.
بكين، من جهتها، عملت على خلق عدة مواقف داخل الناتو، تفادياً لأي مواجهة مع الحلف، فكانت زيارة الرئيس الفرنسي ورئيسة المفوضية الأوروبية للصين، والتي سبقتها زيارة المستشار الألماني.
وخلال الفترة الماضية، عملت الولايات المتحدة على تشجيع طوكيو وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزلندا على المشاركة في القمم التي يعقدها الحلف.
وخلال القمة الأخيرة للناتو، والتي عُقدت في لتوانيا، شاركت فيها تلك الدول للمرة الثانية، وجرى مناقشة موضوع افتتاح مكتب للناتو في طوكيو، لكن ذلك لم يتحقق بسبب الرفض الفرنسي له.
لكن هذا الرفض قد يبدو موقتاً، وهو ما يزيد في مخاوف بكين، وخصوصاً بعد العقيدة العسكرية اليابانية الجديدة، وإصدار كتاب أبيض من جانب الحكومة اليابانية، يتحدث عن كيفية التعامل مع بكين بصفتها تهديداً حقيقياً لطوكيو.
من هنا، جاءت التصريحات الأخيرة للسفير الصيني في موسكو، والتي اتهم فيها الناتو بأنه كان السبب في اندلاع الحرب في أوكرانيا وتطورها إلى حرب شاملة.
ورأى أن الناتو هو السبب الرئيس في حرب أوكرانيا بعد توسعه 5 مرات شرقاً بطريقة خطيرة أثّرت في النظام الدولي، الذي جاء بعد نهاية الحرب الباردة.
واتهم الحلف بأنه يزعزع الأمن والاستقرار في العالم، ويشجع الانفصالية، كما حدث في كوسوفو وليبيا وأفغانستان.
وأضاف: إن الناتو، طوال أكثر من ثلاثين عاماً، عمل على تغذية التوترات في كل مكان في العالم.
الموقف الصيني بشأن الناتو يرى أنه لم يعد هناك مبرر لبقاء هذا الحلف، الذي تأسس لمواجهة الاتحاد السوفياتي في مرحلة الحرب الباردة.
لذا، دأبت بكين على التعامل مع الحلف على أنه من مخلفات الحرب الباردة، وكان عليه أن يختفي بمجرد نهاية تلك الحرب، لكنه استمر في الازدهار، متغذياً على إشعال الحروب وإذكاء الصراعات.
موقف الحلف تجاه الصين
لطالما حرص قادة الناتو على رسم حدود الخلاف مع الصين بعناية ودقة فائقتين، ولم يضعوا الصين وروسيا في كفة واحدة. فالصين بالنسبة إليهم خصمٌ، وليست عدواً.
وفي الوقت الذي يؤكد الحلف أن الصين ليست عدواً، فإنه يرى أن سلوكها ينطوي على عدائية متزايدة، وهو ما يزيد في مخاوف الحلف.
يبدو أن بكين تثير مخاوفَ كبيرة لدى الناتو نتيجة عدة أسباب، منها:
– استمرار الصين في بناء نفسها وتعزيز قدراتها العسكرية، التي تثير مخاوف الناتو، في حين ترى بكين أن ذلك انعكاس طبيعي لتطور الصين وتقدمها، وخصوصاً أن قوتها العسكرية ليست موجَّهة ضد أحد.
– الموقف الصيني تجاه الحرب في أوكرانيا، الذي تَعُدّه دول الناتو انحيازاً إلى موسكو، وخصوصاً أن الصين رفضت إدانة العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
– التهديدات الصينية المستمرة لتايوان، وإصرار بكين المعلن على استعادة الجزيرة عبر كل الوسائل، بما فيها الوسائل العسكرية. وهو ما يثير المخاوف لدى عدد من دول المنطقة.
– سعي بكين المعلن لتغيير النظام الدولي القائم، بالتعاون مع روسيا، والسعي لإيجاد نظام دولي أكثر عدلاً.
– استمرار الصين في تقوية البريكس وتوسيعها، بحيث بلغ الناتج القومي لدول البريكس 38 تريليون دولار، في مقابل 35 تريليون دولار للدول السبع الكبار 7G، والتي تقودها الولايات المتحدة الأميركية.
على الرغم من ذلك كله، فإنه لا بد من الإشارة إلى وجود نوع من الخلافات داخل الناتو. فالولايات المتحدة تريد إقامة تحالفات بين الناتو ودول منطقة بحر الصين الجنوبي من أجل مواجهة بكين.
في حين أن مجموعة من دول الناتو (وخصوصاً فرنسا وألمانيا)، تريد بناء نوع من الشراكات فقط مع دول المنطقة، والكفّ عن استفزاز بكين، التي تربطها بها علاقات اقتصادية قوية.
ختاماً:
يبدو أن المساعي الأميركية لاحتواء الصين لم تعد مجدية، وأن نظرية “التهديد الصيني”، التي وظفتها الولايات المتحدة لـ “شيطنة الصين”، باتت من الماضي، بعد أن استطاعت بكين كشفها وتعريتها أمام العالم أجمع.
“التحدث بهدوء والتفكير بسرعة”، لم تكن مجرد حكمة صينية، بل باتت نهجاً استراتيجياً ميز السلوك السياسي الصيني في تعاطيه مع أخطر المشكلات الدولية وأكثرها استفزازاً لبكين.
سيرياهوم نيوز1-الميادين