| وائل العدس
نستقبل هذه الأيام أجمل فصول السنة وأحرّها، هو فصل الصيف صاحب الظلال والجمال، يُلون لنا الكون بأقلامه السحرية فتطرب لألحانه الأشجار، وتتراقص مع نسيمه العليل الأزهار.
فصل السعادة وأعذب الفصول الذي فيه تبسط الأرض بساطها الأخضر، وتغرد الطيور فيه بهجة وسروراً، فهو فصل تكاثر وتزاوج للكثير من الأنواع الحية، وفيه تكتسي الأشجار بلون الطبيعة.
هو فصل تشكّل الندى، ذاك المنظر الخلاّب الذي يسحر الألباب في حلته تلك في كل صباح.
هو درة الفصول التي في ضوئها أحسسنا بقيمة الحياة، ومن شذى رحيقه تنفسنا عطر الوجود، هو مركب يأخذنا لشطآن بعيدة ويعيدنا إلى أنفسنا بذهول لا ندرك ماهيته حتى ننسى أنفسنا، ونغرق حيارى في فضاء رونقه وجماله وروعته، كأننا لسنا نحن وكأنه يُعانق جراح الروح فيشفيها ويُحيي كل أمل فيها غاب، وينثر عنها رماد الحزن، فتغتسل بنداه.
كتب بسحره الشعراء قصائد عشقٍ لا تنتهي فهو بالنسبة لهم فصل العشّاق، حيث الورود ورياح الصبا التي تنعش القلب السقيم في وقت الأصيل، ومنظر الغروب الخلاّب؛ كعروس في حنائها تزف إلى عريسها البحر في موكب مهيب من الروعة والدهشة، يلقي سحره على النفوس التي طالما انتظرته لتصفق لهما بما يختلج الصدر من الشعور بالنقاء والصفاء والراحة.
دلالة ورمز
يأخذنا الشاعر السوري نزار قباني في قصائد الحب والغزل في رحلة عبر الفصول، فلكل فصلٍ لديه دلالة ورمز، لكن للخريف عند قباني ميزة لا يأخذها غيره من الفصول، لذلك نراه يستعجل الصيف بالرحيل، فالصيف جفاء وفتور؛ فيقول في قصيدة «عاد المطر يا حبيبة المطر»:
المطر يعني عودةَ الضباب، والقراميد المبلّلة، والمواعيد المبلّلة..
يعني عودتَكِ وعودةَ الشعر
أيلول يعني عودة يديْنا إلى الالتصاقْ
فطوال أشهر الصيف كانت يدُكِ مسافرة!
أيلول يعني عودةَ فمكِ، وشَعْركِ ومعاطفكِ وقفّازاتكِ
وعطركِ الهنديّ الذي يخترقني كالسيفْ
ثم يناجي قباني البحر صيفاً فيقول في قصيدة «بيني وبينك»:
بيني وبينك اثنتان وعشرون سنةً من العُمْرْ..
وبين فمي وفمك حين يلتصقان تنسحق السَنَوات، وينكسر زجاجُ العمرْ..
في أيام الصيف أَتمدّد على رمال الشاطئ وأمارس هوايةَ التفكير بكِ..
لو أنني أقول للبحر ما أشعر به نحوكِ لترك شواطئَه، أصدافَه، وأسماكَه، وتبعني
لا تتكرري مثل الصيف
لكن يبدو أن لكل فصل من الفصول خصوصيته عند نزار قباني إلا الصيف، فهو يراه ذاته كل عام لا يغير من نفسه شيء، فيعلن كرهه للصيف في واحدة من أكثر قصائده شهرة «أحبيني بلا عقد» الذي يقول فيها:
وكوني البحر والميناء، كوني الأرض والمنفى
وكوني الصحو والإعصار، كوني اللين والعنفا
أحبيني بألف وألف أسلوب ولا تتكرري كالصيف..
إني أكره الصيفا..
في قصيدة «لن تهربي» يعقد نزار قباني صلحاً مع فصل الصيف ليؤكد أنه حبيبٌ في كل الفصول، فيقول:
لن تهربي مني؛ فإني رجلٌ مقدرٌ عليكِ
لن تخلُصي مني؛ فإنَّ الله قد أرسلني إليك
فمرةً أطلعُ من أرنبتي أذنيك..
ومرة أطلعُ من أساورِ الفيروزِ في يديكِ
وحينَ يأتي الصيف يا حبيبتي
أسبحُ كالأسماكِ في بحيرةِ عينيكِ..
بلا مرفأ
وتصف الأديبة السورية غادة السمان صيفها الساحر بإحدى قصائدها فتقول:
حين التقينا كنتُ غجرية بلا مرفأ، وقلبك شاعر جوّال.
في الصيف أحببتك، حين كانت النجوم تهبط إلى البحر لتستحمّ
وحين كانت النزهة على سطح القمر أمراً مألوفاً
وخطوة واحدة تفصل بين الروشة البيروتية والأفلاك
ما أسهل أن نخطوها حين تكون يدي في يدك
عاد الصيف
يصف الشاعر اللبناني سعيد عقل صيف الشام في قصيدته «يا شام عاد الصيف» فيقول:
يا شَـامُ عَادَ الصّـيفُ متّئِدَاً وَعَادَ بِيَ الجَنَاحُ
صَـرَخَ الحَنينُ إليكِ بِي: أقلِعْ، وَنَادَتْني الرّياحُ
أصـواتُ أصحابي وعَينَاها ووعـدُ غـدٍ يُتَاحُ
كلُّ الذينَ أحبِّهُـمْ نَهَبُـوا رُقَادِيَ وَاسـتَرَاحوا
فأنا هُنَا جُرحُ الهَوَى، وَهُنَاكَ في وَطَني جراحُ
وعليكِ عَينِي يا دِمَشـقُ، فمِنكِ ينهَمِرُ الصّبَاحُ
يا حُـبُّ تَمْنَعُني وتَسـألُني متى الزمَنُ المُباحُ
وأنا إليكَ الدربُ والطيـرُ المُشَـرَّدُ والأقَـاحُ
في الشَّامِ أنتَ هَوَىً وفي بَيْرُوتَ أغنيةٌ ورَاحُ
أهـلي وأهلُكَ وَالحَضَارَةُ وَحَّـدَتْنا وَالسَّـمَاحُ
وَصُمُودُنَا وَقَوَافِلُ الأبطَالِ، مَنْ ضَحّوا وَرَاحوا
يا شَـامُ، يا بَوّابَةَ التّارِيخِ، تَحرُسُـكِ الرِّمَاحُ
ليلة صيف
يترك الشاعر السوري عبد السلام العجيلي رموز الصيف في الحياة ويصف ليلةً صيفية وسماءً صافيةً، فيقول في قصيدته «ليلة صيف»:
يا بدر في هدأةِ الليلِ العريضِ هتكتَ سرَّ الحندسِ
وطردتَ قطعانَ النجومِ عن الطريق الأقدس
لم تُبقِ منها في السماءِ سوى عيونٍ نعَّس
قد رصَّعتْ كبدَ السماءِ كأعينٍ من نرجسِ
أو طاقةِ الزهرِ النضيرِ على بساطِ السندسِ
يا بدرُ، يا كوناً تقلَّبَ في الجمالِ الأنفسِ
نامَ الرعاةُ عنِ القطيعِ ومقلتي لم تنعسِ
وغفتْ مياهُ النهرِ في حضنِ الرمالِ الأملسِ
واستسلمَ السهلُ الفسيحُ إلى السكونِ المعرسِ
وأنا على ظهرِ الفراش كزهرةٍ في المغرسِ
الفكرُ يسري كالشذا والروحُ رهنُ المحبسِ
نامَ الندامى ليلهمْ وانفضَّ رهطُ المجلسِ
والديكُ قد ملَّ الصياحَ وبُحَّ صوتُ الهجرسِ
والقريةُ البيضاءُ ترْقد في الضياءِ الأخرسِ
فقمِ اسكبِ النورَ النديَّ أغبُّهُ أو أحتسي
في الصيف
وفي الصيف يقول الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي كأنَّه يصف فصلاً من الحياة لا يعود ثانية إذا انقضى في قصيدة «الصيف» فيقول:
أيُّها المعرِض عن أزهارها لكَ لو تعلم يا هذا شذاها
أيُّها النائم عن أنجمها خلق الله لعينيكَ سناها
أيُّها الكابح عن لذّاتها نفسه هيهات لن تُعطى سواها
لا تؤجِّل لغدٍ، ليس غد غير يوم كالّذي ضاع وتاها
وإذا لم تبصر النفس المنى في الضحى كيف تراها في مساها؟
هذه الجنّة فاسرح في رباها واشهد السّحر زهوراً ومياها
واستمع للشِّعر من بلبلها فهو الشِعر الذي ليس يضاهى
ما أحيلى الصيف ما أكرمه ملأ الدنيا رخاء ورفاها
عندما ردّ إلى الأرض الصّبا ردّ أحلامي التي الدهر طواها
كنت أشكو مثلما تشكو الضّنى
فشفى آلام نفسي وشفاها.
سيرياهوم نيوز1-الوطن