د. عبد الحميد فجر سلوم
**
الجريمة النكراء التي ارتُكِبت في الكلية الحربية في حمص وسط سورية، يوم الخامس من تشرين أول/أوكتوبر، 2023 ، لا يمكن أن يشمتَ بضحاياها إنسانٌ لديه ذرة من ضمير ودِين ووجدان وأخلاق وإنسانية، تحت ذريعة أن هؤلاء كلهم ينتمون إلى مكوِّن سوري واحد..
ولو افترضنا جدلا أن هذا الافتراء صحيح، فهل هذا يعني أنّ إبادة هذا المُكوِّن مشروعة، ومبُرّرة، مهما كانت الإتجاهات الثقافية والفكرية والسياسية، لدى أبنائه مختلفة؟.
لا ألومُ الإنسان الظلامي الحاقد الذي يملءُ القيحَ رأسهُ المستطيل ويعشعش في خلايا دماغهِ الحقدُ الموروثُ عن فتاوى عمرها حوالي ثمانمائة عام، ولكن أشعرُ بالقرف حينما أسمع أو أقرأ، لأشخاص يدّعون العَلمانية، زيفا ونفاقا، بينما يتحدثون بذات لغة أولئك الظلاميون الرُعاع ويُحرِّضون على الطائفية، وإبادة أبناء مكِّون من مكونات الوطن، من الشيخ الكبير إلى الطفل الصغير، فجميعهم مسؤولون بِحسبِ آرائهم المتعفِّنة والحاقدة..
نعم نريدُ وطنا لجميع أبنائهِ، يسودهُ حُكم القانون والعدالَة وتكافؤ الفُرص والمساواة، ولا أحدا يقولُ غير ذلك.. وهذا لا خِلافا عليه، ولكن أيُّ مستقبلٍ لوطنٍ يتحكّم فيه أولئك الحاقدون الذين اصدروا أحكامهم من اليوم؟.
**
هذا الكلام ليس مُبالَغة.. وليس افتراء.. إنهُ حقيقة..
من سمِع الكلام الذي قيلَ في إحدى حلقات أحد البرامج التلفزيونية الخليجية، وتحديدا يوم الثلاثاء 22 نيسان/ إبريل 2014، وعلى لسان شخصين يدّعيان العَلمانية والتحضُّر، ومن إحدى الأقليات، وما ينطوي عليه من تحريض وحقد طائفي على أحد مكونات الشعب السوري، بالجملة، وتلفيقٍ وكذِبٍ وتدليس يخجل منهُ أي صهيوني، إنما يشعرُ بالغثيان والقرف من هذه العقول الطائفية اللئيمة الحاقدة، التي تدّعي العلمانية والوطنية والتحضُّر..
لماذا أزلتُم يوتيوب تلك الحلقة عن الشبكة العنكبوتية؟.
أتحدّاكم، للمرة الثانية، أن تُعيدوه؟.
إنهُ وصمةُ عار في تاريخكم، ستبقى تلاحقكم، كما لاحقت فتاوى القتل والتكفير، أصحابها على مرِّ التاريخ..
**
نعم أنا شخصٌ علمانيٌ، بقناعةٍ كاملة، ألتقي مع كل عَلماني على أسُس العَلمانية، وهكذا كان أغلبية أصدقائي وأقربهم زمن الجامعة في دمشق، من أبناء سهل حوران وأبناء جبل العرب.. وما زالت صداقتي مع البعض قائمة.. ولكن أزدري كل من يدّعي العَلمانية، ويقولُ، ويُمارسُ، ويفعلُ عكسها تماما.. فهذا منافق..
كيف لك أن تكون علمانيا، وبذات الوقت تُحرِّض على الطائفية؟.
بماذا تختلف عن مفتي جبهة النصرة (عبد الله المحيسني) الذي ظهرَ ذات مرّة في شريط فيديو وهو يقفُ في وسطِ سهل الغاب من جهةِ الشمال، ويقول: هذا هو الحدُّ الذي يفصلُ بين قُرى المسلمين وقُرى الكُفّار؟. وكان يتوعّدهم أنهُ قبل حلول عيد الأضحى ذاك العام، سوف يجتاحُ قُراهُم، ويُصبِح العيدُ عِيدان، بعد أن يقتُل من يقتُل، ويغتصب من يغتصب، ويسبي من يسبي..
**
بماذا تختلفون، دُعاة العلمانية المزيّفة والتحضُّر الكاذب، عن أي إسلاموي تكفيري حاقد؟.
بماذا تختلفون عن أولئك الطائفيون الحاقدون الذين اختطفوا ابن أخي، والِد الأطفال الأربعة، عن الطريق العام في سهل الغاب غرب مدينة السقيلبية، منذ أواخر 2011 على هويتهِ المذهبية، ومنذئذٍ لا نعرف عنه شيئا، ولا علاقة له بكل الدولة، وكان في طريقهِ إلى القرية لقراءة الفاتحةِ على روح أبيه الشهيد العميد الطيار، الذي كان هدفُ تحرير الجولان وفلسطين يسري في دمهِ، واستُشهد قريبا من الجولان في مهمّةٍ ليليةٍ، وعيناهُ ترنو إليه؟.
بماذا تختلفون عن أولئك الذين خطفوا صهرنا المحامي، مع أصدقائه، عن الطريق العام شمالي دمشق عام 2014، وهم لا علاقة لهُم بكل الدولة، وإنما على هويتهم المذهبية؟.
بماذا تختلفون عن أولئك الطائفيون الحاقدون الذين فجّروا في الصباح الباكر، في حزيران 2014، شاحنة تحمل ثلاثة آلاف كيلو غرام من المتفجرات، في وسطِ قرية الحُرّة في سهل الغاب، إلى الشرق 2 كم من قريتنا، والناس نيامُ وذهب ضحيتها العشرات من الأطفال والنساء؟
مع العلم أن الكثير من شباب الحرّة كانوا يهرِّبون لهم الخبز والمازوت..
أنتم وأولئك التكفيريون سواء، أيها العلمانيون المنافقون المُزيّفون..
**
ضحايا جريمة الكلية الحربية في حمص، لم يكونوا من لونٍ واحدٍ كما يدّعي بعض الطائفيين الحاقدين الشامتين..
كانوا من كل الطوائف السورية.. وكان بين الضحايا، الأطفال والصبايا والنساء والرجال، والآباء والأمهات.. منظرٌ يُبكي أحجار الصوّان، ولكنهٌ يُثيرُ شماتة وفرحةَ الطائفيين الحاقدين..
من قرية (تومين) لوحدها قضى اربعة شهداء من أخوتنا المسيحيين: الملازم أول إيفان عساف، ووالدهِ نورس عساف، وأخويهِ إيلي وستيفان..
فماذا تقولون عن ذلك؟.
ماذا تقولون عن تلك الأُم التي قضَت وهي تعانق ابنها المتخرِّج أحمد خضور، فرَحَل الإثنان مع بعض؟.
ماذا تقولون عن الطفلة زينة شلهوب التي لم تتجاوز الأربع سنوات، التي حضرت الحفل لتفرح بشقيقها، فكانت آخر فرحة في حياتها؟.
ماذا تقولون عن الصبية شذا الحايك، وآية الحايك.. والصبية آية شاهين، الذين حضروا ليفرحوا بأشقّائهم في عُرٍسِ تخرُّجهم، ولكن رحلوا وإياهُم إلى علياء السماء، ليحتفلوا هناك، بعيدا عن حقدكم ولؤمكم، وطائفيتكم؟.
ماذا تقولون عن الأب المُسِن رامز ديوب الذي جاء ليرى ابنهِ في آخرِ يومٍ بالكلية الحربية، فكان آخرُ يومٍ في حياتهِ هو؟.
ماذا تقولون عن العشرات غيرهم من المدنيين، نساء ورجالا، كبارا وصغارا، الذين كان ذنهبم الوحيد أنهم تواجدوا في ذاك الحفل؟. وربما غالبيتهم استدانوا أجرة الطريق، كي يُشاركوا في عرس تخرُّجِ أبنائهم، كما أي أهل؟.
لم يكُن أولئك في الخنادق.. ولا على الجبهات.. ولا يخوضون معارك.. ولا يحملون سلاحا.. كانوا جميعا في حفلٍ ذي طابعٍ عسكريٍ ــ مدني، ولكن المدنيين فيه كانوا أكثر من العسكر..
يا للعار.. يا للخزي.. لكل طائفي حاقد.. لكل تكفيري ظلامي مُتقيِّح.. لكل عَلماني منافق ومُضلِّل.. ولكل شامت بضحايا هذه الجريمة النكراء..
الرحمةُ لأرواحهم جميعا.. وليجعل الله مثواهم الجنة.. والشفاء للمصابين..
ومتى نتعلم أن نكون معارضين وطنيين، وليس معارضين طائفيين حاقدين..
فالوطنية والطائفية لا يلتقيان..
والطائفية والعَلمانية لا يلتقيان..
هذه الجرييمة هي الحدُّ الفاصل بين الوطني وبين العميل..
وكل معارض يعتبر نفسهُ وطنيا يجب عليه إدانة هذه الجريمة.. ومن يؤيدها ويشمت بضحاياها إنما هو من يُلصِق بنفسهِ تهمة عميل.. ومن يلتزم الصمت، إنما هو ضمنيا يؤيدها..
كاتب سوري وزير مفوض دبلوماسي سابق
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم