يحارُ الإنسانُ من أين يبدأ حديثه عن الأطعمة، أَمِن الرائحة التي تتعشّقُ في الخلايا؟ أم مِنْ المذاقات الباذخة التي تجعلنا نتلمّظ مرّةً مستعذبين حلاوتها، ومرّة ممتعضين من مرارتها، أو ضاحكين “مُكشّرين” مع حكّةٍ في الأنف وفرقعةٍ في اللسان من طعمها الحامض اللاذع، أو شاكرين الطبيعة الأمّ على وجود الملح فيها؛ المِلحُ الذي لولاه لفسَدَ وتعفّن كلُّ شيء.
تنوّعٌ مذهل للمأكولات، كلُّ طبقٍ هو سيمفونية ألوان، وكلُّ رغيفٍ هو تجلٍّ لعظمة الربّ، وكلّ تشكيلة خضار هي لوحة فنية تتجاور فيها الأرواحُ والذكريات والبراعة والمتعة… وألمُ الحنين أيضاً.
لكنْ هل يندرج الطعام ضمن مفهوم الثقافة بالعموم؟ وهل يُشكّل مكوّناً أساسياً من مكونات هوية مجتمع ما أو شعب من الشعوب بحيث يمكن لكل بلدٍ أن يتغنّى بـ”وجبته الوطنية” كما أسماها الشاعر محمد عضيمة المقيم في اليابان والذي خبِرَ عن قرب ولمدة عقدين من إقامته هناك كيف أن اليابان مثلاً استدمجت كل أطباق العالم ضمنَ قائمة مأكولاتها، لكن دائماً وأبداً، مع إضافة تلك اللمسة اليابانية الخاصة التي تعني أنّ كل ثقافات العالم مرحّبٌ بها في المطبخ الياباني إنما بنكهة اليابانيين المتفرّدة في كل شيء دون وهم الخصوصية الثقافية التي لا تُمَسّ، ولكن أيضاً دون الاندلاق في وهم الحداثة والانفتاح اللامحدود بما يجعل اليابان تخسر فرادتها.
“تشرين” التقت عدداً من الأدباء والباحثين ليخبرنا كلٌّ منهم حكايته مع الطعام.
يحدّثنا الكاتب يحيى زيدو كيف أنّ “الإنسان هو الكائن الحيّ الوحيد الذي يطهو طعامه، وربما كان هو نفسُه الوجبة الغذائية الأولى في التاريخ حيث كان كل شيء مباحاً للأكل. لكنه ما إنْ اكتشف النارَ وتعلّم الزراعة أدركَ أن الاستمرار في تناول نفسه كغذاء سيؤدي إلى انقراضه! وهكذا منذ أن تعلم الإنسان طهي الطعام قبل مليون ونصف المليون سنة لم يعد الطعام مجرد محاولة لإطفاء غريزة الجوع بل اكتسبَ سماتٍ جعلته جزءاً من ثقافته وهويته”.
هذه السماتُ وهذا الاهتمام بالطعام والموائد – يُضيفُ زيدو- دفعَ مفكراً مثل “جورج سيميل” إلى المطالبة بضرورة تأسيس “علم اجتماع المائدة” أمّا “كلود ليفي شتراوس” فقد اعتبر المطبخ نسقاً مثل أي نسق لغوي يستطيع المجتمع من خلاله التعبير عن قواعده والبنية التي تحكمه، وهنا تصحُّ الإحالة إلى الراحل “نجيب محفوظ” الذي استخدم الطعام بطريقة خلاقة في ثلاثيته الشهيرة لتأريخ الواقع اليومي في مصر، وإلى “أفلاطون” في محاورته المعنونة بـ”المأدبة”، وإلى الفرنسي “جان ريلات” الذي قال: (قلْ لي ماذا تأكل؛ أقل لكَ مَنْ تكون) بمعنى إن شخصية الإنسان وثقافته تظهر في اختياره لنوع الطعام، وفي طريقة إعداده وطهوه له، وفي آداب المائدة”.
القوّة الناعمة
ويشترك الفنان طلال معلّا مع الباحث زيدو في فهمه لموضوعة الطعام كـ”أحد المكونات المستبعدة فيما سبق من التعريفات المعاصرة للثقافة والتي تشتمل على الطعام وممارسات الطبخ كأحد وجوه القوة الثقافية الناعمة التي تركز عليها الدول لإيجاد مجتمعات أكثر تكاملاً وشمولية، وخاصة بالإشارة إلى جدوى هذا العنصر في التكامل الاجتماعي، وصياغة الهوية باعتباره يجمع التراثَ اللامادي إلى التراث المادي الملموس، وهذه جُزئيةٌ في غاية الأهمية كون التراث في حقيقته هو التفاعل بين الأشياء الملموسة والممارسات غير الملموسة وصِلتهما بالثقافة لاقتراحِ معانِ وقيمِ مختلفة للتراث الثقافي الوطني والوظائف التي يلعبها في تحديد ومعرفة السلوكيات المرنة للمجتمع”.
ويشير معلّا إلى أنّ “خيارات الطعام لدى أي مجتمع – والمجتمع السوري بالتأكيد- تعكس التفضيلات الاجتماعية والرموز التي تبنى على أساسها وصفاتهم الغذائية، ولعل هذا التنوع الذي يحظى به مجتمعنا إنما يزيد من أهمية الطعام كمنتج وكممارسة ثقافية يمكن من خلالها مخاطبة الآخرين لتزيد من فرص التقارب بين الناس على أرضية صلبة من القيم الإيجابية والمعاني الثقافية والقواسم المشتركة التي تسمح لنا بالتشارك في إنشاء شبكات اجتماعية بغض النظر عن الخلفيات، كما تتيح لنا تبادل الأفكار حول هذا الموضوع الهام والفنون أو الطقوس المرتبطة به: من عادات الكرم والضيافة العائلية، والاحتفالات والأعياد، وتقاليد وطقوس الموت وسواها مما يشكل سلوكياتٍ على صلةٍ بالطعام وممارساته في الأرياف والمدن السورية”.
قوس قزح من بهجة الأطعمة
ويحيلنا زيدو من جديد إلى أن الاهتمام بالمطبخ والطعام أمرٌ تشترك فيه ثقافات الشعوب، وكل ثقافة تحاول أن تعكس خصائصها في طعامها يقول:
“ثمة أطعمة قد تحيل إلى مجتمعات أو ثقافات بعينها، مثل البيتزا التي تذكّر بإيطاليا، والماكدونالدز الذي يُذكّر بأمريكا، والبيرة بألمانيا، والجبنة بفرنسا، والزبذة بهولندا… وفي منطقتنا فإن المجدرة أو الكباب أو التبولة ستحيل إلى بلاد الشام، كما يحيل الكُسكُسي إلى المغرب والكُشَري إلى مصر. وهنا في سورية يوجدُ تنوعٌ وتمايزٌ مُبهجٌ في ثرائه، فـ”الثريد” في المنطقة الشرقية و”المليحي” في الجنوب، فيما تجد في الساحل السمك والمجدرة وأنواع السلطات، كما نجدُ دمشقَ وحلبَ والمنطقة الوسطى تهتم بالأطعمة المصنوعة من اللحمة الحمراء في الغالب، وإنْ كانت المشاوي والتبولة من أكثر الأطعمة التي يتشارك بها السوريون عموماً”.
الطعام مقياسٌ للمحبّة!
ولعلّ كلُّ طبقٍ من تلك الأطباق له مطرحٌ حميمٌ في ذاكرة كلِّ واحد فينا يجعله ليس فقط جزءاً من ثقافتنا وهويتنا بالمعنى العام بل منمنمةً عاطفيةً وجدانيةً تجعلُ مِلح الدموع عالقاً على أهدابنا فيما رائحة مأكولاتنا الأشهى تُنشِبُ مخالبَ الحنين في ضلوعنا.
يقول الصحفي فراس القاضي: “من الطبيعي جداً، أن يكونَ للطعام ذاكرة خاصة وحيّز مهم، بل ومبالغٌ به، في بلاد ومجتمعات، الطعامُ ونوعُه وفخامته هو أحدُ أهم مقاييس المحبة والاحتفاء بالنفس وبالآخر! لكنني شخصياً أربط الموضوع بشيء مختلف، فأنا من الذين يعتقدون بأن الرائحة هي أسرع ناقل للذكريات في العالم، كل نوع من الطعام يعيدك إلى مكان معين، أو سِنٍّ معيّن، أو شخص معين، أو حالة معينة، لذا فإن الارتباط مع أنواع معينة من الطعام هو حالة وجدانية أكثر منها ثقافية. فمثلاً أنا كابن مدينة دير الزور، أذكر حلوى (الكليجة) أكثر من كل أنواع (الثرود) الذي تشتهر به المنطقة أو الذي علق في عقول الناس عن مأكولات تلك المنطقة، مثل (ثرود البامية) الشهير، أو (ثرود اللحم)، لأن (الكليجة) تُذكرني بالطقوس أكثر مما تذكرني بنوع طعام أو حلوى محددة. (الكليجة) تعني العيد، وتعني تَذكّر طريقة تحضيرها، وتجمّعِ الأسرة لصناعتها، وتذكّر رائحة الأسواق التي تفوح منها (حوائج الكليجة) التي تستخدم في صناعتها في مواسمها المعروفة قبل عيدي الفطر والأضحى، (الكليجة) بنوعيها المحشو بالتمر وغير المحشو تعني الصحون المليئة التي تطوف بين الحارات لتتوزع على الجميع، (الكليجة) تعني أن تصحو على تكبيرات العيد فترى مدينة بأكملها تمشي في الشوارع لزيارة المقابر صباح اليوم الأول من العيد”.
القاضي يلفتُ إلى جرعةِ الحنينِ الزائدة في كل ما يتعلق بهذه المأكولات لأنها بحسب قوله “صارتْ ضمن النوستالجيا السورية، وهذا يؤكد أن الموضوع ليس متعلقاً بالطَّعم، بل بالمكان! فما الذي يمنع اليومَ أهالي ديرالزور مثلاً من إعدادِ (الثرود) أو صناعةِ (الكليجة)؟ لا شيء! فموادُها متوفرة في المحافظات السورية كلّها، لكنْ حين تسألهم ستشعرُ حتماً بحسرتهم وهم يتحدثون عنها، وستتأكد بأنهم يَحنّون إلى المكان الذي كانوا يأكلونها فيه وإلى الطقوس التي عاشوها مع هذه المأكولات”.
تيلِسكوبٌ مكبِّرٌ وصحونٌ طائرة!
الروائية هلا أحمد علي تُضيفُ إلى رأيها نكهةَ القصِّ الروائيِّ ولمسة الأنثى وتقول: “طبقُ الطعام طبقٌ سِحريٌّ طائر، قادرٌ على حملك إلى زمانٍ ومكان مختلفين بآليةٍ لن تخطر على بالك. فحين يكون الطبق قاسماً مشتركاً، لا بينك وبين إخوتك في العائلة الصغيرة أو الوطن بأكمله فحسب، بل بين الحزن والفرح، الوطن والغربة، بين العرس والعزاء، وحين تلجأ إلى مصالحة أحدهم بدعوته الى وجبة عشاء مثلاً، وحين تقيمُ شركةٌ ما غداءَ أو عشاء عمل، وحين يتحول طبقٌ صغير إلى مخزن للعادات والتقاليد والأعراف، وحين يشير إلى انتماء وهويّة، وحين يمتلك القدرة على منافسة الكيمياء التي لا يمكنها تركيب رائحة الانتماء، ويمتلك القدرة على قهر الفيزياء التي تعجز عن طيّ المسافات… حينها لن يكون الحدثُ عادياً؛ إنما هو لغزُ السَّهلِ الممتنعِ، البسيطُ والمركّبُ جداً. لغزٌ لا يَفكُّه إلا مَنْ عَرِفَ معنى الهويّة والذكرى”.
لغزُ الطعامِ المُسكِر ذاك جعلَ الروائيةَ علي صاحبة رواية “إيميسّا” تستحضر قولَ أدونيس: “الذكرى نارٌ ولو كانتْ سلاماً”، وتشرحُ لنا تأويلها الخاص فيما تُكمل سردَ حكايتها حين كانت تمشي في شوارع مدينة إيرلانغن الألمانية: “لم أدرك مقصد أدونيس تماماً حتى جاء ذاك اليوم الذي حملتني فيه رائحةُ حساء العدس إلى زمان ومكانٍ عتيقين في البال، إلى حدٍّ أدركتُ معه أنّ ما يمر في يومياتنا بشكل بسيط وروتينيّ يتحوّل بفعل الغربة إلى قضية من القضايا الكبرى. فالحنينُ أشبه بعدسة تِليسكوب تُضخّمُ ما أمامها… هكذا عبرتُ في الزمن إلى وطني الكبير عِبرَ طبقٍ صغيرٍ رائحتُه لا تعمل على إثارة العصارة الهاضمة في معدتي فحسب، بل تُسيلُ دموعي وتعود بي إلى مطبخ أمي”.