سيف دعنا
قبل ثلاثة وعشرين عاماً تقريباً، في أيار 2000، اعتقلت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، بناء على اتفاق مع السلطات الاستعمارية الصهيونية، المقاوم المطارد محمد دياب إبراهيم المصري، المعروف بـ«محمد الضيف». لكن، بعدها بأشهر، تمكّن اللاجئ الثلاثيني المولود في غزة، من استغلال بعض «فوضى» انتفاضة الأقصى لتحرير نفسه والهرب من السجن. وفي قصة تشبه القصص الخرافية التي لا يمكن أن تصدقها إلّا إذا رأيتها بعينيك، استطاع أبو خالد، المطارَد المستضعَف والمظلوم، والمستهدَف بأكثر من خمس محاولات اغتيال قبلها بسنين قليلة فقط، من تحقيق الإنجاز العسكري العربي الأهم في الذاكرة الحية، وقيادة عملية عسكرية لا يمكن الجدل بأنها تمثّل فعلاً تحفةً مدهشة في التكتيك العسكري. ففي السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أصدر أبو خالد، القائد العسكري للمقاومة الفلسطينية، الأمر بالبدء بعملية «طوفان الأقصى»، فكان القائد العسكري العربي الأول في تاريخ الصراع العربي الصهيوني الذي يبادر بالهجوم الشامل على أحد أقوى الجيوش في العالم. وفي أقل من ست ساعات، أسقَطَ أبو خالد ورفاقه المقاومين فكرة «إسرائيل» إلى الأبد، ودخلوا التاريخ كأفضل الفلسطينيين إطلاقاً. هذه قراءة مختصرة جداً للحدث الذي لا يزال جارياً، وعلى وشك دخوله الشهر الثاني.
الخامس من حزيران/يونيو معكوساً: سقوط فكرة «إسرائيل»
حتى ليلة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بدا الكيان الصهيوني أحد أهم الاستثمارات الغربية الكبرى وأفضلها وأنجحها منذ الحرب العالمية الثانية، وبدت فكرة «إسرائيل»، فكرة إقامة كيان بوظيفة عسكرية وسياسية إقليمية في قلب الوطن العربي في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، كما رآها الغرب ونيابة عنه، فكرة عبقرية وحتى قابلة بالمزيد من الاستثمار لإعادة التأهيل، رغم الضربات الموجعة جداً التي تلقتها من قوى المقاومة العربية منذ أيار/مايو 2000. أكثر من ذلك، كان لحرب حزيران/ يونيو الكارثية تأثيرات أبعد حتى من تبعات القضاء على مشروع التحرر العربي ودخول الوطن العربي بعدها مرحلة مظلمة تمثّلت بتفكيك البنية الاجتماعية العربية وإعادة تركيبها، مترافقة بغزو أيديولوجي ساحق، بما يتوافق والمصلحة الإمبريالية والصهيونية. فنتائج حرب حزيران/يونيو التي بدت للمنظومة الغربية دليلاً قاطعاً على فاعلية الاستثمار الهائل وصوابيته، حتى ذلك الوقت بفكرة الكيان، وقادت فوق ذلك لمضاعفتها مراراً وفي كل المجالات، ارتقت بالكيان فعلياً إلى مكانة المشارك الفعلي في بنية السلطة الكونية. هكذا أصبح الكيان أكثر مناعة وقوة حين أصبح مجرّد التفكير بمقاومته أو التفكير بمشروع تحرر وطني فلسطيني، حتى لا نقول عربي، لا يعترضه الاصطدام بسلسلة من الاحتمالات الرهيبة ومصالح إقليمية (وعربية وحتى فلسطينية) وكونيّة هائلة فقط، بل أصبحت تعني بعد الخامس من حزيران/يونيو 1967 تحديداً الانقلاب والتمرّد على بنية السلطة الكونيّة. هكذا أصبح مشروع التحرّر الوطني الفلسطيني مشروع مواجهة تاريخي مع الترتيبات السياسية العالمية، وليس مجرّد حركة تحرّر وطني ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
ثم جاء يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. كانت اللحظة التاريخية فارقة جداً على نحو لا يُصدّق – ربما سيكتب بعض المؤرّخين في المستقبل عن عبقرية مُتغيرَي الزمان والمكان في رسم الحدث والمسارات التي ستنشأ حتماً عنه. سيكتبون أنّ ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر أو حتى ما بعده، بالمعنى التاريخي، لم يكن ليكون مناسباً للتمرّد على منظومة السلطة الكونيّة الغربيّة. كان السابع من تشرين الأول فقط هو اليوم المناسب، وبعدها بيوم واحد (الثامن من تشرين) بدا للعالم كلّه أن الكيان الصهيوني في أضعف حالاته منذ 1948، وكان توصيف السيد نصرالله «إسرائيل أوهن من البيت العنكبوت» هو التعبير الوحيد الذي يمكن استدعاؤه لتوصيف الحال. كان اختيار الزمان والمكان عبقرياً، وربما سيدرك معناهما حقاً وبشمولية مؤرخو المستقبل فقط حين يقرؤون بالتفصيل ومن بعيد حال العالم والإقليم والكيان وفلسطين بأثرٍ رجعيّ منذ يوم السابع من تشرين الأول، ووفقاً للنتائج الهائلة التي ستترتّب على الحدث. ففي حين وصل الصراع العالمي الحادّ الجاري في أوكرانيا (من ضمن صراعات كبرى أخرى) على إعادة الإنتاج لبنية منظومة القوّة الكونيّة إلى حالة من الجمود، حتى لا نقول غياب إمكانية الحسم السريع، كما كانت الحال أيضاً في شرق آسيا وتحديداً في الصراع حول تايوان ورمزيتها في الصراع مع الصين، جاء زلزال السابع من تشرين الأول/أكتوبر ليجعل، بالحدّ الأدنى، من مجرّد إمكان إعادة الإنتاج لبنية السلطة الكونيّة على ما هي عليه، وكما كانت قبلها بيوم واحد فقط، تقارب المستحيل. كان الحدث مدهشاً لهذه الدرجة.
ففي السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ضرب الإقليمَ، وبالتالي وبالضرورة العالمَ كلّه، كوحدة واحدة مترابطة، زلزالٌ هائلٌ بمعانيه وتبعاته ستتحدّد على أساسه وعلى أساس مفاعيله بعيدة المدى ووفقاً للمسارات التي أسّس لها، موازينُ قوى دول الإقليم منفردة وموازين قوى محاوره مجتمعة أساساً، وسيؤثر بالضرورة في آلية إعادة الإنتاج لبنية المنظومة الدولية نفسها. وبنية السلطة الكونيّة ليست مجرّد هرمية سياسية كونيّة وهرمية قوة وسلطة مجرّدة/نظرية فقط، بل هي المحدد الأساسي أيضاً ليس لتراكم رأس المال على المستوى العالمي فقط، بل وحتى لقدرة أدوات صناعة الأيديولوجيا الغربية (الإعلام، الفن، الجامعات، مراكز الأبحاث، السينما… إلخ) على إعادة إنتاج الأيديولوجيا المهيمنة التي لا يمكن للمنظومة أن تستمر من دونها. فالهرمية السياسية الكونية (والقوة الشاملة للمنظومة) هي التي تعمل باستمرار على ضمان تراكم رأس المال عالمياً – فبالقوة، وبالحروب أحياناً، يتمّ بصورة دورية إعادة جدولة قانون القيمة أو إعادة جدولة العلاقة بالقيمة (النهب) باستمرار عبر سحق قيمة الإنسان الجنوبي تحديداً، وإذلاله وسحق قيمة قوة عمله. هكذا، بدت خطوط الجغرافيا السياسية للاقتصاد العالمي سائلة بسبب الزلزال الهائل الذي ضرب بنية القوة الكونية وشكك بها وبإمكانية إعادة إنتاجها الدوري. أكثر من ذلك، هذه الهرميّة والتراتبيّة من القوة، كأي سلطة، وكأي علاقة اجتماعية، تتضمّن وتشمل أيضاً الدور والعلاقة بين مؤسسات المنظومة كلها، ومنها أدوات صناعة الأيديولوجيا المهيمنة ومؤسساتها وتُمكِّنُها (أي السلطة والقوة) من إعادة إنتاج الهيمنة وأيديولوجيا الهيمنة. هكذا أيضاً، ضرب طوفان الضيف الأُسس والافتراضات الأيديولوجية التي استندت إليها منظومة القوة والسلطة في العالم، فعرّاها وفضح مثقفي الغرب (الذين يدينون برفاهية العيش لحصتهم من النهب على الدور المناط بهم) وأدوات صناعة الأيديولوجيا الغربية الذين استشرسوا في الدفاع عن الكيان إلى درجة استعادة مفردات القرن التاسع عشر الأكثر عنصرية لتوصيف العرب والمقاومة.
في السابع من تشرين الأول لم يقلب محمد الضيف الطاولة في وجه كل المنظومة الغربية التي تحكم العالم، بل وشَلَّ (حرفياً) قدرتها على التفكير والتعامل مع الحدث الذي لم يكن ليخطر حتى على بال أكثر أجهزتها الاستخبارية حنكة واستشرافاً للممكن. هكذا، وقف الغرب عارياً إلا من قدرته الاستثنائية على إدارة الحفلات المجنونة من قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين، عسى أن تتمكّن تلك المجازر الرهيبة من ضرب روح الفلسطينيين وإخضاعهم بالترهيب الدموي وتحويلهم إلى عبرة لكل من يتجرّأ على التمرّد على السلطة الكونيّة. لهذا، وغيره، ليس في كل التاريخ الحديث (حرفياً) حدث واحد ووحيد قاد بذاته إلى هذا القدر من التغيير، أو احتمالات التغيير، إلا مرة واحدة تستحق وتوجب المقارنة.
التحوّل العظيم
في الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1803، أعطى جان – جاك ديسالين، قائد ثورة هايتي المدهش، الأمر لأشجع جنرالاته وقائد أحد أهم ألويته، فرانسوا كابوا، بالهجوم على الحصن الفرنسي الأخير في فيرتيير. كانت المهمة الأخيرة للثوار، كما الثورة نفسها منذ البداية، تبدو مستحيلة جداً لكلّ من عرف معنى انتصار الثوار في هايتي وتبعاتها على الجغرافيا السياسية للاقتصاد العالمي القائم على العبودية حينها (وليس على هايتي فقط)، أو لمن عرف دور مستعمرة هايتي في إنتاج السكر، السلعة الأهم حينها في التجارة الدولية، قبل القطن والبترول لاحقاً، أو لمن عرف قليلاً فقط عن موازين القوى المادية والأيديولوجية المختلّة بصورة صارخة لمصلحة الفرنسيين والأوروبيين، أو حتى لمن عرف القرار الأوروبي والأميركي الحاسم بضرورة تدمير التجربة الثورية (غير الأوروبية) السوداء الأولى، والعمل حتى على منع مجرّد تسرّب خبر ثورة المستعبَدين إلى المستعمرات الأخرى، بسبب إدراكهم خطورة تحولها إلى مثل ونموذج وحجة.
لكنَّ كابوا ورفاقه الذين تحلّوا بشجاعة مذهلة، استطاعوا الانتصار في النهاية بعد أربع جولات عنيفة ودامية جداً وخسائر بشرية هائلة في صفوفهم، بفعل الهجوم المتكرر والعنيد على الحصن الفرنسي الأخير، رغم تسليحهم المتواضع.
كانت الثورة في هايتي تبدو مستحيلة فعلاً بكل المقاييس، ووفقاً لأي قراءة حينها لحال العالم وحال الجزيرة. ولو كنت مؤرخاً يعيش في أي مكان في العالم حينها (وخصوصاً في هايتي)، أو لو كنت حتى مجرّد شاهد حي على الثورة، لبدت لك ضرباً من الجنون بفعل حال العالم وبنية اقتصاده وحال هايتي ونظامها الاجتماعي؛ فأن يتحدّى مستعبَد «أسود» فقير مختطَف من بلاده في جزيرة بعيدة جداً، وبسلاح أبيض في غالبية الأحوال، أقوى جيوش العالم وأغنى دول الأرض (فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، أميركا) مجتمعة، ويطالب بما ليس أقل من تغيير بنية اقتصاد العالم القائم على العبودية وإنهاء الاستعمار، بدا فعلاً ضرباً من الجنون.
لكن هذه الثورة ستكون حدثاً مفصلياً ومهماً في التاريخ الإنساني الحديث، إن كنت تنظر إليها اليوم بأثر رجعي، وخصوصاً إن كنت مهتماً بجدلية المحلي والعالمي (وأن العالم في النهاية هو وحدة تحليلية واحدة تؤثر أجزاؤه وتتأثر بعضها ببعض وبما يحدث فيها)، وإدراك ترابط حال العالم وحال الوطن الذي تنتمي إليه. ففي أي قراءة معمقة للتاريخ، أو أي قراءة بعين مؤرخ من موقعنا اليوم، ستستنتج أيضاً أن فهمنا لثورة هايتي، كحدث مفصلي في التاريخ الحديث، لا يساعدنا على فهم تاريخ العالم الحديث بأسره فقط، بل أيضاً فهم جوهر مشروع المقاومة العربية المتصاعدة للاستعمار الصهيوني لفلسطين، كامتداد نسيجي للمشروع الاستعماري الغربي بقيادة الولايات المتحدة واستشراف مستقبلها. فكما غيرت ثورة هايتي بنية الاقتصاد العالمي (القائم على العبودية حتى انتصار الثورة)، وبالتالي تغيير العالم، فإنّ تحرير فلسطين يحمل في طياته تحدّيات مشابهة ستغيّر الجغرافيا السياسية لمنظومة القوة الكونيّة. لكن عبقريّة طوفان محمد الضيف لم تكن فقط في إثبات أن تحرير فلسطين سيغيّر العالم فعلاً، بل وفي إطلاقه لشرارة هذا التغيير وتأكيد إمكانيته أيضاً.
بعد تلك المعركة في فيرتيير، تغيّر العالم جذرياً. ومن تلك الجزيرة الصغيرة بدأت إعادة تنظيم الجغرافيا السياسية للاقتصاد العالمي؛ فثورة هايتي نشرت الرعب في المستعمرات القائمة على تجارة الرقيق، وعَدّها المستعبدون رمزاً ومثالاً. وبعد ثلاث سنوات فقط من الاستقلال، في عام 1807، أُلغيَت التجارة الأوروبية بالمستعبَدين الأفارقة. وبعد ثلاثين عاماً، في عام 1834، انتهى استعباد الأفارقة في كل المستعمرات البريطانية. وبعد ستين عاماً أيضاً، وقعت الحرب الأهلية الأميركية التي كان إلغاء العبودية إحدى نتائجها كإحدى التبعات البعيدة المدى للثورة العظيمة. أبعد من ذلك، استمرّ تأثير هذه الثورة لعقود طويلة لاحقاً، لتصبح أحد العوامل المهمّة والملهمة في نشوء حركات التحرّر الوطني في كل أصقاع الأرض، وخصوصاً في أميركا اللاتينية.
بعد معركة فيرتيير بمئتين وعشرين عاماً بالضبط، بدا العالم على أعتاب تحوّل تاريخي عظيم، كما يمكن أن يسميه كارل بولاني. ففي السابع من تشرين الأول/أكتوبر أعطى القائد العسكري الفذ للمقاومة الفلسطينية، محمد الضيف (أبو خالد)، الأمر باقتحام معسكرات ما يسمّى «غلاف غزة» ومستوطناته براً وبحراً وجواً. كان اختيار اسم «الطوفان»، كما سيتّضح من اليوم الأوّل وما تلاه، عبقرياً فعلاً، ومن سمّاه كذلك، «الطوفان»، كان نبياً، كما يقول العرب. فـ«طوفان الأقصى» أصبح في ساعات قليلة طوفاناً شاملاً. فكما كان طوفاناً عسكرياً وجيو-سياسياً، كان أيضاً طوفاناً في السياسة، طوفاناً في الاقتصاد، طوفاناً في الوعي، وطوفاناً في الثقافة.
ففي الساعات الأولى من صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر تزامن إطلاق آلاف الصواريخ من غزة باتجاه العشرات من الأهداف من جنوب فلسطين التاريخية حتى وسطها، إضافة إلى مستوطنات «غلاف غزة» ومطاراته ومعسكراته مع اقتحام مئات المقاومين القادمين براً وبحراً وجواً (بالطائرات الشراعية). ومع شروق شمس صباح ذلك اليوم كان المقاومون قد ضربوا عشرات (وربما مئات) القواعد ونقاط المراقبة العسكرية والاستيطانية في أكثر من عشرين مستوطنة في أقل من ساعة. وفي مواجهة بطوليّة تمكّن المقاومون الفلسطينيون الذين قاتلوا بشجاعة وجرأة لن يصدقها حقاً إلا من رآها بأم عينه من القضاء كلياً على كل «فرقة غزة»، في ما يسمّى «القيادة الإقليمية الجنوبية» في الجيش الصهيوني كلياً، ولم يبقَ أي من كل عناصر ألويتها ووحداتها إلا من وقع في الأسر لدى المقاومة الفلسطينية (أبيد كلياً لواء «جفن» في شمال غزة، لواء «قطيف» في جنوب غزة، الوحدة 585 للاستطلاع، لواء «414 نيشر/نسر» للاستخبارات الميدانية، وحدة الإشارة في الفرقة، سريّة الهندسة الثقيلة في شمال غزة، وسريّة الهندسة الثقيلة في جنوب غزة).
لم يكن ما حدث يوم السابع من تشرين مجرّد حدث تاريخي آخر يشبه حتى الأحداث الكبرى التي عرفتها المنطقة. بل، كان الحدث هائلاً إلى درجة تشبه المعجزة. ففي ساعات قليلة فقط تحوّل الكيان الصهيوني، ذراع الإمبريالية الغربيّة الضاربة والمتقدّمة وأحد أركان منظومة السلطة الكونيّة التي عُهِدَ إليها بإخضاع أحد أهم الأقاليم في العالم إلى مجرّد هيكل كيان، بلا فكرة ولا وظيفة. وفي ساعات بدا الكيان الذي استثمر فيه الغرب مئات مليارات الدولارات، عدا عن الدعم العسكري والسياسي الهائل وغير المسبوق، هشاً وضعيفاً وعاجزاً عن استعادة توازنه حتى مؤقتاً إلى درجة أوجبت تدخلاً أميركياً وغربياً مباشراً وشاملاً للحدّ من الخسائر، وصل إلى حد حضور الرئيس الأميركي اجتماعَ الحكومة الصهيونية وإشرافه على قراراتها، ومشاركة وزير خارجيته في اجتماعات الحكومة ومجلس الحرب الصهيوني الذي استمر لأكثر من سبع ساعات. في ساعات قليلة فقط سقطت الفكرة التي استثمر فيها الغرب ربما أكثر مما استثمر في أي مشروع آخر، حتى الحرب الأوكرانية واضطراره لمواجهة روسيا والصين من خلفها. فوجود فكرة الكيان واستدامتها كانا ممكنَين فقط بسبب الدعم الاقتصادي الهائل وغير المسبوق (حتى لا نقول شيئاً عن الدعم السياسي والعسكري غير المسبوق أيضاً).
أصبح مشروع التحرّر الوطني الفلسطيني مشروع مواجهةٍ تاريخياً مع الترتيبات السياسية العالمية، وليس مجرّد حركة تحرّر وطني ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني
لكن، رغم الإنجازات الميدانية الهائلة للمقاومة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر التي ستحتاج بعض الوقت لتوثيقها، ورغم الإنجازات السياسية الكبرى التي ستحتاج كذلك إلى كثير من الوقت لتظهيرها، ورغم كل التبعات الإقليمية وحتى العالمية المتعددة التي ستتكشف أكثر في الأيام وحتى السنين القادمة، ورغم الاحتمالات الرهيبة التي واجهتها، ومن المتوقع أن تواجهها، المقاومة الفلسطينية في الأيام القادمة، ورغم ضخامة المصالح المحلية (ومنها الفلسطينية) والإقليمية (بما فيها العربية) والعالمية الكبرى التي واجهها، ومن المتوقع أن يواجهها، المقاومون في الأيام القادمة، إلا أنه يمكن الحسم أن الإنجاز الأهم والأعظم إطلاقاً، ربما، كان أساساً في التحوّل الهائل الذي حدث على المقاومين أنفسهم في زمن قياسي من مجرّد أفراد مستضعَفين ومظلومين ومطارَدين من جانب السلطات الاستعمارية الصهيونية وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية إلى جيش تحرير شعبي مسلّح ومنظّم في مدّة قياسيّة جدّاً، بالمعنى التاريخي قادر على المبادرة بالهجوم على أحد أقوى الجيوش في العالم وإفقاده توازنه في ساعات وضرب الفكرة التي قام عليها الكيان الصهيوني.
الإنجاز العسكري-السياسي الهائل للسابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 يعني أن قصة القائد محمد الضيف، الخرافية وغير القابلة للتصديق لولا معرفتنا بها، هي في الحقيقة قصة كل رفاقه المقاومين أيضاً وقصة المقاومة الفلسطينية التي استطاعت في مدة قياسية أن تتحوّل من قوة مستضعَفة ومطارَدة وقليلة التسليح إلى قوّة جبارة تُسقط أحد أركان منظومة السلطة الكونيّة عبر تحويل غزة الصغيرة إلى هانوي عربية داخل الأرض المحتلة. أكثر من ذلك، تجاوز نجاح هانوي محمد الضيف داخل الأرض المحتلة كل إمكانات نموذج هانوي العربية واحتمالاته التي حلم بها الجيل الأوّل من المقاومين عبر الحدود (الأردن).
حروب الطوفان
في عام 1789، أي قبل اندلاع ثورة هايتي بعامين فقط، «كانت مساهمة مستعمرة سان دومينغو الفرنسية (هايتي) تمثّل وحدها ثلثي (66 بالمئة) كل التجارة الخارجية لفرنسا، وكانت في الوقت نفسه أكبر سوق فردية لتجارة العبيد الأوروبية المربحة جداً، فضلاً عن أنها كانت أيضاً جزءاً لا يتجزأ من الحياة الاقتصادية لكل العصر، كما كانت أعظم مستعمرة في العالم، وفخر فرنسا، وحتى حسد كل دولة إمبريالية أخرى.
كانت هايتي حينها المستعمرة الأوروبية الأكثر ربحاً، لأنها كانت المنتج الأكبر للسكر في العالم؛ السلعة الأهم في التجارة الدولية، قبل القطن والبترول لاحقاً. لكن رغم ذلك كلّه (نعم، رغم ذلك كلّه)، لم تكن خسارة هذه المستعمرة حتى مصدر القلق الفرنسي والأوروبي والأميركي الأساسي من الثورة؛ فعشية المعركة النهائية في حصن فيرتيير في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1803، كتب نابليون بونابرت إلى جنوده: «إنّ قراري بتدمير سلطة هايتي لا يستند إلى اعتبارات التجارة أو المال بقدر ما يقوم على الحاجة إلى منع مسيرة السود وتقدّمهم في العالم إلى الأبد».
انكشف كل سياسي وإعلامي ومثقف في منظومة الهيمنة الغربية ومؤسساتها كمجرّد مجنّد آخر في منظومة قتل همجية لم تروِ عطشَها دماء آلاف الأطفال والمدنيين في غزة
تكشف لنا رسالة نابليون إلى جنوده عن جانب مهم لفهم السياسة الإمبريالية والاستعمارية الغربية المستمرة حتى اليوم، والقائمة على أولوية السياسة من أجل الهيمنة دائماً، وليس الأرباح أو التبعات الاقتصادية المباشرة التي تعتمد في المدى البعيد على الهيمنة الإمبريالية.
وعلى أعتاب دخول معركة «طوفان الأقصى» شهرها الثاني، ظهر جلياً أن المواجهة التي تخوضها المقاومة هي مواجهة شاملة ومتعددة الجبهات (عسكرية/ميدانية، سياسية، إعلامية، ثقافية، أيديولوجية، اقتصادية، ونفسية)، وتبدّى أكثر من أي وقت مضى أن الصراع العربي – الصهيوني هو صراع عربي – غربي بامتياز بقيادة أميركية، خصوصاً بعد أن انكشف عجز النخبة الصهيونية عن إدارة المعركة من جهة وكفاءة قيادة أبو خالد ورفاقه. على أعتاب الشهر الثاني من الطوفان تكشفت المواجهة الدائرة في فلسطين والوطن العربي الكبير عن حروب، لا حرب واحدة، يخوضها الغرب بشراسة من أجل تقليل الخسائر بعد إدراكه وإقرار الجميع أن العودة لما قبل الطوفان لن تكون. هكذا انكشف كل سياسي وإعلامي ومثقف في منظومة الهيمنة الغربية ومؤسساتها كمجرّد مجنّد آخر في منظومة قتل همجية لم يروِ عطشها دماء آلاف الأطفال والمدنيين في غزة.
وعلى أعتاب الشهر الثاني للطوفان، يتضح أن هدف القيادة الأميركية والغربية للحروب على الشعب الفلسطيني وعلى غزة يتجاوز القيمة التقليدية لكل المنطقة العربية المتمثلة باقتصاد النفط والسلاح والجغرافيا السياسية، ويتجاوز المصالح المباشرة رغم ضخامتها، بل هو أقرب إلى هدف نابليون باستعادة السيطرة وإعادة إخضاع منطقة لا يزال تمرّدها وانتصارها يمثّل تهديداً حقيقياً لمنظومة القوّة الكونيّة وحتى لإمكانية إعادة إنتاجها لذاتها وفقاً لشروط ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ومن دماء أبطال غزة، بدأ مسار تحرّري تاريخي يمكنه لو أحسن العرب توظيفه أن يغيّر وجه المنطقة إلى الأبد، حتى لا نقول وجه العالم. في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ومن دماء أبطال غزة بدأ مسار تاريخي يمكنه لو أحسن العرب مناصرته فقط كما يجب أن يؤسّس لكل العرب مكاناً ومكانة في عالم المستقبل لم يكن لنا حتى أن نحلم بإمكانيته حتى في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر. ففي ذلك اليوم، أعطت المقاومة في غزة الفرصة لكل عربي أن يستعيد ليس فقط كرامته المستباحة منذ قرون، بل والفرصة لأن يكون له ولأبنائه وأحفاده مكان في مستقبل عالم يصنعه الآن أبطال المقاومة بدمائهم وبشجاعة لن تصدقها إلا إذا رأيتها بعينيك. هذا هو الامتحان الكبير اليوم لكل عربي في هذا العالم: كيف سينظر في عيون أبنائه وأحفاده في المستقبل، وماذا سيقول لهم؟ أين كان، وماذا فعل، في هذه الأيام.
خاتمة: إحدى الحسنَيَيْن
حتى مساء السادس من تشرين الأول 2023، كانت كل حركات المقاومة في المنطقة ودولها في حالة دفاع عن النفس في مواجهة حملة أميركية/غربية-صهيونية شرسة جداً تميّزت أكثر من أي وقت مضى في تصعيد غير مسبوق للحروب المالية والعقوبات الاقتصادية الخانقة جداً حد القتل الجماعي بالتجويع (سوريا، لبنان، العراق، اليمن، فلسطين، إيران). كانت المواجهة تبدو صعبة، والأزمة المتصاعدة مستعصية على الحل باستخدام أدوات الصراع والمواجهة التقليدية التي امتلكها محور المقاومة.
ثم جاء السابع من تشرين، فانقلبت الموازين والمقاييس والأدوات، وانتقلت المقاومة بين ليلة وضحاها إلى موقع الهجوم، فيما العدو انتقل في الأيام الأولى إلى موقع استعادة التوازن أولاً، ثم العمل على تقليل الخسائر الكبرى الناتجة عن الطوفان الهائل الذي جرف كثيراً من افتراضات الصراع ومسلماته التي نام العدو ليلته مطمئناً أنها ثابتة وباقية.
قبل أيام فقط، كانت أوسلو وترتيباتها تبدو لدى كثيرين وكأنها نهاية التاريخ الفلسطيني. نسي كثيرون، كما كتبت هنا في «الأخبار» سابقاً، عدد المرات التي أذهلنا فيها التاريخ بالانهيارات (المفاجئة أحياناً) للإمبراطوريات والأنظمة والأفكار الكبرى التي كانت تبدو قبلها بزمن قليل وكأنها لا تُقهر. لهذا بالضبط، نعرف اليوم أكثر من أي وقت مضى أن التاريخ الإنساني ليس تاريخاً للقسوة والاستكبار والقوة والظلم فقط، بل أيضاً تاريخاً للتضحية والشجاعة والبطولة. وفي صباح السابع من تشرين الأول 2023، اختار الشعب الفلسطيني العظيم والجميل والمدهش وبدماء أبطاله وأطفاله أن يطلق شرارة تغيير العالم، ويصنع ببطولة مقاوميه المدهشين مساراً عظيماً للعرب ليكون لهم مكان كريم في عالم المستقبل.
في السابع من تشرين الأول 2023، برز الخير كله لقتال الشر كله، وبرز الحق كله لقتال الباطل كله. برز أكثر المستضعَفين والمظلومين على وجه الأرض لقتال كل الظالمين والمستكبرين على وجه الأرض. برز الأشجع والأنبل والأشرف على وجه الأرض لقتال الأجبن والأنذل والأسفل على وجه الأرض. ولا يزال القتال جارٍ، ولا تزال الحرب مستمرة، ولا تزال فلسطين مدهشة وعظيمة وجميلة، كما لم تكن في أي زمن مضى، ولا يزال شعبها الجميل والعظيم والشجاع والنبيل يزداد جمالاً وعظمة وشجاعة ونبلاً كل يوم.
ولهذا، وغيره كثير، ليس على هذه الأرض ما هو أشرف من أن تكون فلسطينياً هذه الأيام، إلّا أن تموت من أجلها. أمّا أهل غزة المدهشين جداً، فلسان حالهم يقول: «سنثبت للعدو وللعالم أن “قدرتنا على الصبر والتحمّل والمقاومة تتجاوز بكثير قدرتهم على القتل والإجرام”»، فيما دعاؤهم كل يوم: «اللهم يا رب المجاهدين إحدى الحسنَيَيْن، إمّا النصر أو التشرف بلقائك مخضبين بدمائنا». اللهم، يا رب غزة، إحدى الحسنيَين.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية