يوسف فارس
في الطريق إلى مدينة غزة، يزدحم شارع الرشيد بالآلاف من العائدين سيراً على الأقدام. عائلات بأكملها لم تمض على نزوحها بضعة أيام أو أسابيع، حتى شدّت الرحال مجدّداً إلى المدينة. يقول رجل أربعيني، وهو يعتلي شاحنة تنقل أثاث منزله وأغراضه: «لا نستطيع الابتعاد. لا يوجد أفضل من المنزل حتى لو كان مدمّراً ومحطّماً». وبالنسبة إلى محمود التركماني، فإن العودة إلى المدينة، تعني إغلاق فصل النزوح، وهو بنظره الفصل الأكثر قسوة من الحرب. يقول محمود لـ»الأخبار»: «رجعت سيراً لمسافة 20 كيلومتراً من دير البلح إلى غزة. الطريق مُهلِك، لكنّ البقاء بعيداً عن البيت أو ركام البيت هو الموت البطيء». ويضيف: «ربما كانت دير البلح أصلح للسكن والحياة، لأنها لم تُدمّر.
لكنني لا أرتاح إلا في غزة. نحن نسير وسط الخراب ونرى البيوت والشوارع مُدمّرة، وبملء إرادتنا نعود ونشتري الحياة القاسية، حيث سنعيش وسط الركام ونجلب المياه من مسافات بعيدة، حيث تنعدم البنية التحتية. كل شيء صعب في المدينة، لكنّ القلب هنا. الراحة هنا».
في الطريق على متن عربة تجرّها سيارة أجرة عبر شارع الرشيد إلى شارع الجلاء، كانت الحفر التي خلّفتها الجرافات الإسرائيلية تملأ الشوارع، وتحرم الركاب من أي فرصة للتأمل في ما كان عليه الحال وما صار إليه. وشارع الرشيد، هو واجهة قطاع غزة الحضارية والسياحية، والتي يملك كل غزي ذكرى شخصية معها: سهرة مساء في استراحة ساحلية، أو عرس أقيم في أحد فنادق الشاطئ التي غدت ركاماً. على أن كل ذلك طُمس تماماً، ولم تبقَ إلا الخيام والخراب.
على جانبَي الطريق، تصطفّ بعض المباني التي نجت من التدمير الكلي، والتي عاد إليها سكانها وبدأوا بورشة إصلاحها. أما الطريق إلى ساحة الجندي المجهول فيقطعه ركام برج «الغفري» ذي الطوابق الـ18، وهو واحد من عشرات الأبراج المرتفعة التي طاولها القصف الجوي، في بداية العملية البرية في مدينة غزة، وأفضى إلى تهجير آلاف العائلات القاطنة فيها إلى الشارع.
ورشة إصلاح كبيرة انطلقت سريعاً في الأحياء المُهدّمة في المدينة
يقول جمعة الجرجاوي الذي يسكن عمارة الرؤيا إن «قصف برج واحد يعادل تدمير 100 منزل أفقي في ضربة واحدة. في المبنى الذي نسكنه، كانت هناك 80 شقة سكنية، تؤوي أكثر من 150 عائلة. كل الناس كانوا يستضيفون أقاربهم». وفي الطريق إلى شارع الجلاء، تظهر بقايا المؤسسات الحكومية، وأحبال غسيل، ونور خافت من مقر المجلس التشريعي المُدمّر جزئياً، وإلى جانبه مسرح رشاد الشوا الثقافي.
ويؤكد أحمد الصفدي، بدوره، وهو يشير فرحاً إلى أن شارع حي الرمال نجا من الخراب الكلي، أن «الناس أسرعوا بالعودة لكي يحجزوا مكاناً تحت سقف من الأَسمنت. الشتاء قادم والمنازل المتبقّية قليلة. والعيش في الخيمة قاس جداً»، مضيفاً: «الحمد لله لم تصل الدبابات إلى هنا، وإلّا لما بقي مبنى واحد واقفاً نفرح به. لكنني خائف من رؤية شارع الجلاء، على الرغم من أنني أفترض الأسوأ سلفاً، وأنا متأكد من أنه لم يبق شارع ولا بيوت، غير أن الصدمة التي تثيرها الرؤية للمرة الأولى تكون دائمة كبيرة».
ومن مفترق الغفري في شارع الجلاء، تتبدّى على مدّ البصر غابة كبرى من الركام، حيث تظهر المباني المُدمّرة أكواماً على جانبَي الطريق، ويبدو الأهالي العائدون كالأشباح في وسط الغبار، وتظهر أجسامهم كلما هزمت أشعة الشمس غيمة الغبار الكثيفة، ثم يختفون مجدّداً. هنا، آلاف المنازل دُمّرت على نحو كلي، فيما تلك التي صمدت جرّدتها موجات الانفجارات العنيفة من جميع جدرانها، أي إنها «شلحت تماماً»، وفق الوصف الشعبي السائد، وتبقّت منها فقط الأعمدة والسقوف.
ومن يعد إلى بيته ويجده على هذه الشاكلة، يتلقَّ التهاني من الجيران. يقول رامي لبدة، لـ»الأخبار»، إن «الناس حين يريدون أن يطمئنوا على بيوتهم، يسألون سؤالاً واحداً: هل البيت واقف؟ فإذا كان البيت واقفاً على الأعمدة، حتى لو كانت كل جدرانه مُدمّرة، فهذا يستحق التهنئة، لأن صاحب ذلك البيت سينجو من العيش في خيمة».
لا يهدر الناس الوقت. ورشة كبيرة انطلقت سريعاً في الأحياء المُهدّمة، فيما المئات من العائلات بدأت مهمة تنظيف المنازل من الركام، منذ ساعات الصباح الباكر، وحتى غروب الشمس. ويقول أبو حمزة رضوان: «باق من المنزل غرفتان فيهما بقية سقف. ومن الفجر وحتى الغروب، نزيل أنا وأولادي الركام حتى نهيّئ مكاناً للحياة.
نحن لدينا زاوية في البيت. ولذا لا نريد مزاحمة الناس في مراكز الإيواء». وإلى جوار أبي حمزة، التقت «الأخبار» الشيخ طلال الغفري، الذي بدا حائراً، وهو يقف على ركام منزله. يقول الغفري: «لا شيء يمكن أن يقال. عجنوا البيوت بعضها ببعض، ولا نعرف منزلنا من منزل جارنا. هذا المنزل كان يؤوي 15 عائلة. أولادي كلهم وإخواني كلهم بلا بيوت. محالّنا وأرزاقنا كلها دُمّرت. عدنا إلى الصفر. هذا استثمار 50 عاماً». قال قوله هذا، وترك للدموع أن تكمل الحكاية.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار