آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » العاطفة في شعر الأديب الشاعر عبد اللطيف محرز

العاطفة في شعر الأديب الشاعر عبد اللطيف محرز

بقلم – الأديب الأستاذ محمد علي يونس
الأستاذ عبد اللطيف محرز واحد من شعرائنا البارزين، الذين عرفتهم محافل الأدب والشعر في أكثر من بلد عربي، في العديد من المناسبات. وهو ذو نتاج شعري غزير طبع منه حتى الآن خمسة دواوين، كادت أبياتها أن تبلغ ستة آلاف… ونفَسُه في هذا الشعر مديد كأنفاس محبيه، وما أكثرهم! وقد تجاوزت قصائده في ديوانيه الثاني (أناشيد البحر) والثالث (أناشيد الحق في رحاب علي) مئات الأبيات… وإذا عرفنا أن أربعة من دواوينه صدرت في بعض سنوات تبين لنا أنه شاعر موهوب، وأنه لو أراد أن يجعل كل كلامه شعراً لفعل، كما يقول أبو العتاهية عن نفسه!
وفي مقدمة ديوانه الأول (العصفور الأخضر) ما يدل على شيء من التهيب في الإقدام على نشر شعره، لأنه، كما يقول، ليس شاعراً محترفاً، وأنه أهمل قصائده حيناً من الدهر في زوايا مكتبته!
أجل يا أبا نزار! إن حرفتك عند الذين يعرفونك من قرب هي تدريس مادة التاريخ، وليست الأدب ولا الشعر… ولكن متى كانت الحرفة تخلق الموهبة الخاصة بها؟ ومن المعلوم أن الاختصاص في أي فرع من فروع الأدب والعلم يصقل الاستعداد لهذا الفرع من فروع الأدب والعلم إن كان هذا الاستعداد موجوداً، ولكنه لا يخلقه خلقاً،… ولو كان الأمر غير ما ذكرناه لما وجدنا شاعراً ولا أديباً بين الأطباء والمهندسين، ولأصبح الشعر، مثلاً، محصوراً فيمن تخرجوا في قسم اللغة العربية من كلية الآداب، وهيهات!
الشعر موهبة قبل كل شيء، ثم تأتي المطالعة والدراسة والتجربة فتشحذ هذه الموهبة، عن طريق الإكثار من حفظ الشعر، والتمرس بصياغته… وهذا ما قاله الجرجاني في وساطته قبل ألف عام: “إن الشعر علم من علوم العرب، يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان”([1]).
والشعر، كما عرفه قدامة بن جعفر (توفي عام 337هـ) في كتابه نقد الشعر قول موزون مقفّى، يدل على معنى، ولكن هل الشعر الحقيقي هو ذلك الذي اقتصر على العناصر الأربعة السالفة الذكر؟
إن العناصر الأربعة التي جاءت في تعريف قدامة للشعر عناصر أساسية في هذا الكلام الذي يتميز عن النثر، ولكن لا بد من توافر عنصرين آخرين إلى جانب العناصر الأربعة المذكورة، وهما عنصر العاطفة والخيال… وإلا كان الكلام الموزون المقفى الدال على المعنى نظماً بارداً جامداً لا حس فيه ولا حياة، كألفية ابن مالك وغيرها من الأشعار التعليمية… ورحم الله أحمد شوقي حيث يقول:
والشّعر ما لم يكن ذكرى وعاطفةً
أو حكمةً، فهو تقطيع وأوزانُ
فالعاطفة هي التي تمنح الشعر حيويته وتأثيره في النفوس، وهو تأثير نابع من صدق الشاعر، وقوة انفعالاته، وقدرته على نقل هذه الانفعالات من نفسه إلى نفوس الآخرين، وحملهم على مشاركته فيما يحب أو يكره، أو فيما يريد أو ما لا يريد، بأسلوب شعري جميل، لأن الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان كما قال الإمام علي (ع).
ولقد تناول الشاعر عبد اللطيف محرز معظم فنون الشعر، فنظم في التأمل والتاريخ، وفي الغزل والوصف، وفي الموضوعات الوطنية والقومية، وفي الموضوعات الوجدانية والإنسانية، وفي المعارضات الشعرية، وفي القضايا الاجتماعية وغيرها.. وكان في شعره صادق العاطفة، نبيل الإحساس، سامي الشعور… ذلك أن الشعر في نظر شاعرنا ليس حرفة تدر على صاحبها المكاسب، وتغدق عليه المواهب، وتجر إليه المناصب، كما شأن الكثير من الشعراء القدامى والمعاصرين، وإنما هو رسالة فنية ووطنية وقومية واجتماعية وإنسانية… وليس مدحاً زائفاً، أو هجاء لاذعاً يخدش الحياء، أو يهتك الأعراض…
فالتأمل عنده يحتل مساحة كبيرة من شعره، وتأملاته واسعة تشمل الكون والطبيعة والمجتمع… عرض فيها أفكاره وقناعاته، فعرفنا أنه عصامي يحب العمل الجاد المخلص، وأنه محب لوطنه وأمته العربية المجيدة… وأنه قبل ذلك محب لوالديه ولزوجته وأطفاله، ولأقاربه وجيرانه، ولكل إنسان خير في دنيا الله الواسعة…
وقد شملت تأملاته قسماً كبيراً من ديوانه الأول (العصفور الأخضر) ومن ديوانيه: الرابع (أناشيد الحياة) والخامس (شجرات الدماء)، أما ديوانه الثاني (أناشيد البحر) والثالث (أناشيد الحق في رحاب علي) فكانا كلاهما تأملاً في مسيرة البشرية وفي الحضارة العربية الإسلامية..
والناظر في تلك التأملات يجد أن صاحبها ذو ثقافة عالية، وأنه واسع الاطلاع على التاريخ العالمي والعربي، ملم بأحداثه ووقائعه إلماماً لا يقتصر على الحفظ والاستيعاب، بل يتعداهما إلى الفهم العميق، والتحليل الدقيق، والغوص على الحقائق الكامنة وراء الأحداث دون الوقوف عند مظاهرها الخارجية.
فالإنسانية في نظره أسرة واحدة، لا فرق فيها بين جنس وجنس، ولا بين دين ودين، والحضارة البشرية إرث شاركت في إيجاده كل الأمم والشعوب، على تفاوت فيما بينها بسبب تفاوت الظروف والأحوال، والحقيقة ليست ملكاً لقوم دون قوم، ولا لشعب دون آخر…
ويبدو الشاعر في تأملاته شديد الإيمان بأمته العربية، وواعياً لدورها في بناء الحضارة، كما يبدو إدراكه لفضل الإسلام على العرب، ولدور اللغة العربية في تكوين القومية العربية، وبناء الوحدة العربية المنشودة.
ولكنه على إيمانه بالله، وبفضل الإسلام على العرب، وتمسكه بالوحدة العربية أداة فذة في الحفاظ على الحق العربي، والكرامة العربية… فإنه بعيد كل البعد عن التعصب المذهبي والعرقي كل البعد…
وحسبنا أن نقف عند مطولته (رحلة مع الشمس) التي جاءت في 187 بيتاً من ديوانه الأول (العصفور الأخضر) لنعرف شيئاً عن مواضيع هذه التأملات، وعن طريقته في تناولها… فالمطوّلة المذكورة تبدأ بهذا المطلع اللطيف على بحر الخفيف، ملتزمة حرف الراء في جميع أبياتها:
كُلَّ يومٍ عند الصباحِ أسيرُ
ماشياً حول قريتي وأدورُ
أُوقِظُ الشمس كي تسير ورائي
وعلى الوجنتين منها حُبور
جمعتنا صداقةٌ من قديمٍ
واحتوانا مع الحياة سريرُ
واتّفقنا ألا يشوبَ هوانا
فرقةٌ أو تخاصمٌ أو نُفورُ
عاهدتني على الحياة نضالاً
ليزولَ الظلام والديجورُ
ويسود النفوسَ أمنُ سلام
وتُصفّى من الصدور الشرورُ
فالشمس صديقة للشاعر تغفو كما يغفو، وتستيقظ كما يستيقظ، ولكنه يسبقها في الاستيقاظ فيوقظها، فتحمرُّ وجنتاها خجلاً، ولا شك في أن هذا الكلام من عمل الخيال لا من عمل المنطق، ولأمرٍ ما قال البحتري من قبل: “والشعر يغني عن صدقه كذبه!” وأجمل بهذا الكذب الذي لا يصدم العقيدة الصحيحة ولا الذوق السليم! وتظل الصداقة بين الشمس والشاعر قائمة على الحب والوئام، لا على النفور والخصام، بدليل أنها عاهدته على النضال في الحياة، ليزول الظلام والديجور. ويمضي الشاعر في حديثه عن الشمس والكون بهذا الأسلوب الشاعري الأخاذ، فيجعل من حمرة الشفق التي تنشرها أشعة الشمس إشارة إلى الناس بالمضي قدماً في طريق الكفاح والثورة، إن أرادوا لأنفسهم حياة الحرية والكرامة:
إن للفجر لونه الأحمر الهادي
وهذا إشارةٌ ونذيرُ
لبني الناس إن أرادوا حياةً
حُرّةً كي يكافحوا ويثوروا
ثم يتابع رحلته مع الشمس وئيد الخطا، والكون من حولهما سحر وأطياف نشوة وعبير… ويرسم لوحة رائعة الجمال لعدة أماكن من قريته كربوة المراح، والوادي..:
هذه ربوة المراح، مراح الشّعب، ينأى عن حسنها التعبير
ويليها وادٍ، شريط من الوحي على جفن شاعرٍ محفورُ
هو وادٍ كوادي عبقر بالجنّ، وبالوحي، والمنى، معمورُ
ويمشي غرباً فيسمع أصوات ترجّ الأرض، فتئنُّ منها الصخور، وإذا بهذا الصوت صوت مِعول ابن قريته الفلاح الذي يسبق الشمس في الاستيقاظ من أجل أرضه التي لا تبور:
إنه ابن حيّنا سبق الشمس
لأرضٍ كريمة لا تبورُ
يعصر العمر، عمره، تعباً مُرّاً
ونسغ الحياة ذاك العصير
عدَّة العيش والكفاح لديه
معول صامدٌ وعمرٌ صبورُ
ويظل هذا الفلاح في أرضه (المشاع) سحابة نهاره ينقي هذه الأرض من الأعشاب الطفيلية الضارة، ولا يعود إلى منزله حتى غروب الشمس.
وإلى جانب وصف حياة الفلاح وما يبذله من عرق وجهد في خدمة أرضه، نجده يقف عند ما يتعرض له هذا الفلاح المسكين من شقاء واستغلال إذا تدنت الأسعار والأجور، أو إذا مات ثوره عدته في هذه الحياة المتعبة الشقية:
هو يحيا من دون أرض، بلا مال، ونهر الأتعاب جارٍ غزيرُ
جهده، جهد ثوره سلعة في السوق، يشقى إذا تدنت أجور
وإذا الثور مات-لا سمح الله- فويل في بيته وثبورُ!!
ولا نسمع هذه الأبيات أو نقرؤها حتى نشارك الشاعر في إحساسه بمعاناة هذا الفلاح، وفي تقديره لجهوده، وحرصه على صيانة حقه من الاستغلال والضياع..
ويسير الشاعر نحو الجنوب فيصل إلى (خرنوبة العجمي) وهو مكان جميل يطل على نهر القرية وبساتينها وآفاقها الواسعة، حيث يحلو الجلوس الطويل كما يقول:
ها هنا يعذب الجلوس طويلاً
ثم يحلو تأمُّلٌ، تصويرُ
منظر للجمال صوّره الله
وفيه المسموع والمنظور
ها هنا نهرنا، بساتين وادينا
اخضرار غَضٌّ وماءٌ نميرُ
واتساع الآفاق تتعب فيها
في مداها بلابل وصقور
والروابي عرائسٌ ضجَّ فيها الشوق
ضاقت ستائرٌ وخدورُ
خرجت للحياة، نامت على الأرض
تعرّتْ صدورها والنحورُ
والبساتين لوحة الفن نشوى
لا شبيه لحسنها لا نظيرُ
عُرسٌ للحياة والكون، للأشجار
رقص، وللمياه خريرُ
شجرات الصفصاف مثل الصبايا
خجلاتٌ والحَوْر في الحسن حُور!
أرأيت معي هذه الطبيعة الساحرة في قرية الشاعر، قرية بيت ناعسة، وهي طبيعة غنية بكل ما يرضي العين والأذن، بل بكل ما يرضي السمع والبصر والفؤاد، كيف لا؟ وهي طبيعة صنعتها يد القادر سبحانه، ثم رسمتها بعد ذلك ريشة شاعر موهوب يجعل السمع عياناً كما يقولون، ولولا حسه المرهف، وعواطفه الجياشة الصادقة التي تفهم ألوان الجمال، لما حظينا بهذا الوصف الجميل لقريته الجميلة، ولا نعدو الحقيقة كثيراً إذا قلنا: إن الطبيعة الجميلة لقرية الشاعر انتقلت بعد وصفه لها إلى ديوانه، فكانت تلك الطبيعة الجميلة في الديوان أجمل منها على أرض الواقع! ولا غرو في ذلك فصاحب هذا الوصف قد ظهرت مواهبه الشعرية في وقت مبكر كما أخبرني بذلك المغفور له والده منذ أن كان الشاعر طالباً في المرحلة الإعدادية.
ويناجي النهر بعد ذلك، كما فعل ميخائيل نعيمة من قبل، بعبارات تشم منها رائحة الفلسفة، فيجعله تارة أنشودة خضراء تحيي اليباس، وتارة وتراً في آلة موسيقية… وهو حيناً يجعله تغريد طائر، وأحياناً نعيق بوم، أو زئير أسد وقد يصبح لديه إبليس الجنة، أو حية هذه الجنة!
وتعود به الذكرى إلى زمان الصبا وإلى مدرسة القرية، فيتذكر أحد رفقائه الكسالى الذي أصبح راعياً للماشية، خلافاً للشاعر الذي تيَّمه حب الكتاب، وخاض غمار السياسة، وأحس بآلام الناس في كل مكان:
لو بكى متعبٌ بأي مكانٍ
آلمتني جراحه والبثورُ
ويتساءل الشاعر هنا قائلاً: أيهما الرابح؟ أرفيقه الكسلان الذي يحيا براحة البال، أم ذلك الذي تيّمه الكتاب، وجرت السياسة في عروقه مجرى الدماء؟! وتتدخل الشمس صديقة الشاعر فتنقذ الموقف، وتقرر أن صاحبه الراعي يعيش على هامش الحياة، بينما يكمن في الشاعر جوهر الكون والإنسان والفكر.
ويتابع الشاعر رحلته إلى (عيون السِّكْر) على ضفاف نهر الأبرش، فيستوقفه منظر الصبايا والاحمرار في خدودهن لا التحمير، فيذكرنا في هذا الوصف ببدويات المتنبي، وحسنهن غير المجلوب… ولا ينسى الشاعر في رحلته النهرية هذه نقيق الضفادع، وإجفالها منه، فيهدئ روعها بقوله:
لا تخافي زميلة النهر مني
فأنا للهوى رسولٌ سفيرُ
ثم يلتقي رجلاً كهلاً من أبناء القرية على جانب كبير من الرزانة والوقار، ترك الناس وارتضى صحبة الأبقار، ويدور بينهما حوار طريف…
ثم يصل إلى مكان يدعى (الحرف) في الجهة الشرقية من القرية، حيث تمتد أمامه غابة كبيرة من السنديان، لها نصيب وافر من الجمال:
غابة السنديان تاهت من الحسن وشفت أثوابها والستورُ
كفتاة حسناء أيقظها الصبح، أفاقت وفي العيونِ فتورُ
والنسيم العليل يلهو خجولاً
علَّهُ الحبّ شَعرُها المضفورُ
ضمخته أنفاسها لشذا الطيب بآفاقِ دوحها تخميرُ
وهنا تقف الشمس لتودع الشاعر قائلة:
قد عرفت الأكوان من أول الخلق ومنْها المعمور والمهجورُ
لا نظيرٌ لحسنِ قريتك الفتّانِ، يا شاعري، بها، لا نظير!
وتنتهي رحلة الشاعر اليومية مع غروب الشمس، فيعود إلى بيته وفي رأسه سؤال كبير عن نظام الحياة وتناقضاتها:
كل شيء نقيضه في ثناياه دليل لموته، تحذيرُ
تتلاقى الأضدادُ: موت حياة
علةٌ، صحةٌ، أسىً، وسرورُ
تتلاقى في قلبنا كطيوف الضوء عرَّى ألوانها الموشورُ
يتراءى التاريخ في خاطري (فلماً) ويسري دولابه المستديرُ
فهنا مولد الحرائقِ: عدوانٌ
حروبٌ، تباغضٌ، تدميرُ
وهنا موئل المحبة: إخلاص
سلامٌ، تعاونٌ، تحريرُ
ويختم تأملاته في هذه القصيدة بتساؤلات تعكس رهافة حسه القومي، ومدى شعوره بالأسى، نظراً للتفاوت الصارخ بين ماضي أمته المجيد، وحاضرها البائس، فيناديها أو يناجيها بهذا الأسلوب الحزين:
أمتي! هل نسيتِ حين شعوبُ الأرض تأتيك، تهتدي، تستنيرُ؟
كنتِ أمَّ الحياة من وحيكِ الخلاّقِ، كان الصلاح والتبشيرُ
كيف صِرنا على ذيول الحضاراتِ، نناجي قشورَها، نستعيرُ؟
كيف ترضَيْنَ أن يسودَ أمانيك صراخٌ مجوَّفٌ، وصَفير؟!
آن أن نستفيق، صاح نضالٌ
ولساحِ الأمجادِ، دوَّى النفيرُ
آنَ أن يُولدَ الربيعُ بتاريخ بلادي، وآن بَعْثٌ، نُشورُ
والتأمل في الشعر العربي قديم، والشعراء متفاوتون في تناوله: فمنهم من يلم به قليلاً، ومنهم من يعتمد عليه كثيراً، وهكذا جاءت تأملات البحتري محدودة معدودة في أبيات من الحكمة، واستفاضت عند الشاعرين الحكيمين: أبي تمام وأبي الطيب المتنبي، وأصبحت فناً مستقلاً على يد شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري.
ثم جاءت المدرسة الإبداعية في العصر الحديث، فهجر شعراؤها معظم الفنون التقليدية كالمدح والهجاء… وانصبَّ اهتمام أصحابها على التأمل في الكون والطبيعة والحياة.. وكلنا يذكر بالإعجاب (طلاسم) الشاعر المهجري إيليا أبي ماضي، ورباعياتها السبعين.
ولا شك في أن الشاعر الأستاذ عبد اللطيف قد تأثر بما اطلع عليه من تأملات سابقيه، ولكن تأملاته لم تكن نسخة عمّن سبقه. ففي كل قصيدة من قصائده أذنٌ ملهمه، بل في كل بيت من أبياتها نفحة من روحه المؤمنة بالله والوطن والعروبة والإنسانية، روحه السامية التي تنزهت عن عصبية الدين والجنس والإقليم… والمطولة التي وقفنا عندها من شعره لا تمثل إلا جانباً يسيراً من تأملاته التي جاءت في ديوانين مستقلين، كما قدمنا، وقد اختار لمطولاته بحر الخفيف، وهو بحر ملائم للتأمل الرصين الجاد، ولمواقف العظة والاعتبار. فذكرنا بسينية البحتري، ودالية المعري، ورائية بدوي الجبل التي مطلعها رمل سيناء تبرنا المحفورُ… وتمتاز تأملات الأستاذ محرز بعمق أفكارها، وجمال صورها، وصدق مشاعرها، وبساطة تراكيبها، وبعدها عن تكلف الزخارف اللفظية… فإيمان الشاعر بأفكاره التي يعرضها في تأملاته، ورغبته في التعبير عنها بعفوية ويسر، وصدق مشاعره… كل ذلك منح تأملاته ما وجدناه من سهولة التعبير، وقوة التأثير.
أما شعره الوطني والقومي فيتجلى في وقوفه عند المناسبات الوطنية، والقومية كعيد الجلاء، والثامن من آذار، والسادس عشر من تشرين، والسابع من نيسان، ونضال الجنوب اللبناني، وانتفاضة الشعب الفلسطيني…
وهو في هذه الموضوعات مثال للعربي المؤمن بوطنه وعروبته، وحق أمته في الحياة الحرة الكريمة… فهو لا يمل الحديث عن ماضي أمته المجيد، ولكنه في الوقت نفسه لا ينسى حاضرها الكئيب، ويأسى لوحدتها التي أضاعتها مؤامرات المستعمرين، وتخاذل الحكام المحليين، فلنستمع إليه وهو يشدو على قيثارة شعره في ديوانه الأول، العصفور الأخضر، قال الشاعر:
وكان قومي آسادَ الشرى كبرا
وأعظم الناس ساداتٍ وأقيالا
وَحْيُ السماء اكتسى أنفاسَ تربتهم
وامتصه أنبياءُ اللهِ أطفالا…
فكيف صارت بلاد العرب مزرعةً
لمن يريد لها قهراً وإذلالا؟!
سيفُ الحدود رهيفُ الحدِّ منصلتٌ
يقطّع الجسمَ أجزاءً وأوصالا
وأيقظوا كل حقدٍ في مزابلنا
ليمنعوا عصبَ التوحيد إيصالا…
لا، لا تسلني فبعض الحاكمين دُمىً
لغوٌ من الناس، إرناناً وإعوالا
جباهُهم زهوُ طاووسٍ بساحتنا
وتنعلُ الرجل للغازين إنعالا!
وهمُّهم أن يضمّوا في مباذ لهم
نساء لهوٍ جميلاتٍ، وأموالا!
إذا دعتهم ليوم الروع معركةٌ:
صاح القفا عاريا، مستدبراً: لا، لا
(سيرياهوم نيوز-صفحة فكر وادب الشاعر عبد اللطيف محرز3-3-2021)
x

‎قد يُعجبك أيضاً

المؤسسة العامة للسينما تعيد تأهيل صالات الكندي

تماشياً مع رغبة المؤسسة العامة للسينما في تقديم أفضل ما يمكن من أساليب العمل السينمائي، وتأكيداً لضرورة تأمين حالة عرض متقدمة ومتميزة لجمهورها، فإنها عملت ...