| وليد شرارة
حققت الولايات المتحدة، حتى اللحظة، مكاسب فعلية من الحرب التي تخوضها بالوكالة، ومعها بقيّة المعسكر الغربي، ضدّ روسيا في أوكرانيا. ولا شك في أنّ تحول هذه المكاسب من آنية إلى إستراتيجية يرتبط بالمآلات النهائية للحرب، وما سينجم عنها من موازين قوى إجمالية مستجدّة، جيوسياسيّة وجيوستراتيجية على الصعد المحلية، والأوروبية القارية، والعالمية. لقد رأت واشنطن في هذه الحرب فرصة تاريخية لـ«إحياء حلف الناتو»، بعد أن كان قد «دخل في حالة موت سريري»، وفقاً لتعبير الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وهو مكسبها الأهم في سياق سعيها المحموم لمحاولة وقف انحدار هيمنتها المتسارع. الأحلاف العسكرية، وفي مقدّمتها حلف «الناتو»، كانت من بين مرتكزات هيمنة واشنطن في عصرها الذهبي؛ و«إحياؤها»، أو بكلام آخر نجاح الولايات المتحدة في استتباع الأوروبيين لخدمة أجندتها الاستراتيجية العالمية، هو شرط لا بدّ منه لخوض المواجهة الشاملة، وغير المحسومة النتائج، مع الصين.
أفاض عدّة مسؤولين وخبراء أميركيين، وبينهم وليام بيرنز وأنتوني بلينكن وريتشارد هاس وآخرون، في شرح حيوية «إعادة اللُحمة» إلى معسكر «الديموقراطيات الليبرالية» للتصدي «للتهديد الشمولي»، الصيني أساساً. غير أن واقع العلاقات داخل هذا المعسكر قبل الحرب في أوكرانيا، ومدى استعداد أطرافه الأوروبية للسير خلف الولايات المتحدة في معركتها مع الصين، كانا غير مطابقَين لآمال الأولى. فبينما حدّدت واشنطن بكين «تهديداً استراتيجياً»، اعتبر الأوروبيون أنها في الآن نفسه «شريك وخصم نظامي»، وحرصوا على التمايز عن أيّ سياسة احتواء تُعتمد ضدّها. وما زال هذا الخطاب معتمَداً من قِبل بعض قادتهم اليوم كشولتس أو ماكرون. لكن التعديلات التي بدأت تطرأ على دور «الناتو»، والتي تجلّت في بيان قمته الأخيرة في فيلنيوس، تشي بنجاح أميركي في إقحام ذلك الحلف في المنافسة الاستراتيجية مع الصين، وتوسيع دائرة فعله لتشمل مجالات كأعالي البحار والمحيطات والفضاء والتكنولوجيا والفضاء السيبراني. وظيفة الحرب في أوكرانيا، من منظور واشنطن، إضافة إلى استنزاف وإضعاف روسيا، هي جرّ حلفائها المذعورين في القارة العجوز للاصطفاف خلفها ضدّ بكين. تَمكّنها من الوصول إلى هذه الغاية، أي صيرورة الانقياد الأوروبي خلفها سياسةً ثابتة غير قابلة للارتداد على المستويَين المتوسّط والبعيد، وثيقُ الصلة بمآلات الحرب في أوكرانيا، وما إذا كانت روسيا ستخرج منتصرة أو مهزومة منها.
تُركّز بعض التحليلات، الغربية بشكل خاص، على الأكلاف الباهظة للحرب في أوكرانيا، بشرياً واقتصادياً ومادياً، بالنسبة إلى روسيا، ويعتقد أصحابها أنها ستفضي، إضافة إلى ترسانات العقوبات المالية والاقتصادية المفروضة عليها، وحرمانها من التكنولوجيا الغربية، إلى إضعافها بنيوياً وتهميشها، وربّما حتى إلى انهيار نظامها السياسي وتفككها. عودة سريعة إلى «تنبّؤات» وزير الاقتصاد الفرنسي، بضعة أسابيع بعد اندلاع الحرب، والتي توقّع فيها سقوط بوتين في موسكو، وإلى تصريحات مشابهة لمسؤولين أميركيين وبريطانيين، تكشف جميعها استخفافاً كبيراً بهذا البلد، وبقدرته على تعبئة موارده وطاقاته المادية والمعنوية لخوض معركة يعتبرها وجودية ضدّ استراتيجية الحصار والتطويق الغربية. معيار النصر والهزيمة في الحروب ليس عدد القتلى والجرحى، ولا حجم الخسائر المادية، بل نجاح الأطراف التي تخوضها في تحقيق أهدافها. هدف روسيا اليوم في أوكرانيا هو الاحتفاظ بمنطقة الدونباس – وهي باتت في عرفها جزءاً من أراضيها -، وبجزيرة القرم، ومنع القوات الأوكرانية من السيطرة عليهما مجدّداً. نحن إذاً أمام معيار واضح جدّاً للنصر أو الهزيمة: فشل القوات الأوكرانية في دحر تلك الروسية عن الدونباس والقرم سيكون هزيمة لها وانتصاراً لروسيا، وأمّا نجاحها في ذلك، فسيكون هزيمة للأخيرة.
تريد الولايات المتحدة إلحاق هزيمة منكرة بروسيا، وهو ما يفسّر الدعم العسكري والاقتصادي والمالي، غير المسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، الذي تقدّمه هي وبقيّة أطراف المعسكر الغربي لأوكرانيا. في حال أصبح مثل هذا السيناريو واقعاً، أي اندحار الجيش الروسي من الدونباس والقرم، ستتكرّس القيادة الأميركية للمعسكر الغربي على المديَين المتوسط والبعيد، وستتبع ذلك سياسة حصار وعزل لروسيا بغية إضعافها وتفكيكها عبر استغلال تناقضاتها الداخلية وتأجيجها وتشجيع النزعات الانفصالية في بعض مناطقها. هكذا انتصار سيشكّل أيضاً رافعة لاستراتيجية احتواء هجومية ضدّ الصين، يشارك فيها أعضاء «الناتو»، وأيضاً العديد من دول جوار الصين، المتردّدة إلى الآن في الانضمام إلى هذه الحملة بسبب حجم مصالحها المشتركة مع بكين، وعدم ثقتها بالقدرات الفعلية الأميركية. الانتصار سيعيد الثقة بالقوة الأميركية، ويضاعف من عدوانية واشنطن حيال خصومها في شرق آسيا وفي غربها على السواء. لن تسعى واشنطن إلى العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران – وهي لا تفعل ذلك اليوم على كلّ الأحوال -، في ظلّ السيناريو المذكور، وستعمل على تصعيد ضغوطها عليها لحملها على الإذعان، وربّما تتورّط في مغامرات ضدّ منشآتها النووية والعسكرية. باختصار، الانتصار في أوكرانيا سيستخدم رافعة لاستعادة السطوة الإمبراطوريّة في مقابل من تجرّأ على منافستها أو تحدّيها.
أمّا في حال الهزيمة، أي الفشل في دحر القوات الروسية عن الدونباس والقرم، وإن طالت مدّة الحرب وارتفعت أكلافها، فإن أي وقف للنزاع، عبر التفاوض للوصول إلى تسوية سياسية تكرّس الأمر الواقع، أو عبر وقف إطلاق نار يجري تمديده وفقاً لـ«النموذج الكوري»، فسيعني نصراً روسياً حاسماً. سيؤدي ذلك إلى تعزيز التلاحم الداخلي في روسيا وارتفاع شعبية رئيسها، ناهيك عن التطور الهائل في خبرات قواتها العسكرية نتيجة لتجربتها الميدانية في سياق حرب من نمط جديد. ستتطوّر الشراكات بين موسكو والقوى غير الغربية الصاعدة، وسيتعزّز الاندماج الاقتصادي والتعاون السياسي الآسيوي. الهزيمة في أوكرانيا ستضعف من لحمة المعسكر الغربي وستشجّع المعترضين على الانضمام إلى المخطّط الأميركي ضدّ الصين على رفع أصواتهم، وسيلقون آذاناً صاغية في البلدان الغربية نتيجة للهزيمة. لن تندفع العديد من الدول الآسيوية المجاورة للصين إلى المشاركة في استراتيجية الاحتواء الأميركية ضدّها، وستغلّب منطق المصالح المشتركة معها على منطق العداء. أمّا بالنسبة إلى إيران، فإن مثل هذا السيناريو قد يحفّز توجّهاً أميركياً للتوصّل إلى اتفاق نووي معها للتركيز على أولوية المواجهة مع ثنائي صيني – روسي أصبح أكثر قوة. هزيمة أميركية في أوكرانيا قد تجعل من هذه الحرب آخر الحروب الدولية الكبرى، على المدى القصير على الأقلّ؛ أمّا انتصار أميركي، وإن بالوكالة، فمن المرجح أنه سيمهد لحروب أخرى في مستقبل قريب.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار