من المرجح أن يستمر الصراع بين روسيا والغرب لعقود ، بغض النظر عن كيفية انتهاء الصراع في أوكرانيا.
كتب مدير البرامج في المجلس الروسي للعلاقات الدولية، إيفان تيموفييف، مقالاً في موقع المجلس، يتحدث فيه عن الصراع بين الولايات المتحدة من جهة وكل من روسيا والصين، وكيف يمكن أن يكون مسار هذا الصراع، بعد الحقبة السابقة التي شهدت انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي اعتبرت “نهاية التاريخ”.
وفيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
في عام 1989، انتهى “القرن العشرين القصير” بـ “نهاية التاريخ”، بانتصار العالم الرأسمالي الغربي على المشروع الاشتراكي السوفياتي.
في ذلك الوقت، لم يكن في العالم بلد أو منظومة، كان بإمكانها أن تقدم بديلاً عالمياً خاصاً بها بشأن تنظيم الاقتصاد والمجتمع والنظام السياسي.
حلت الكتلة السوفياتية نفسها، وبشكل سريع تم دمج جزء كبير منها في الناتو والاتحاد الأوروبي. وكانت القوى الرئيسية الأخرى بدأت، قبل وقت طويل من نهاية الحرب الباردة، في الاندماج عضوياً في النظام العالمي المتمركز حول الغرب.
أما الصين فحافظت على مستوى عالٍ من السيادة من حيث بناءها الداخلي، ولكنها دمجت نفسها في الاقتصاد الرأسمالي، و”تاجرت” بفعالية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبقية العالم. رفضت بكين الترويج للمشروع الاشتراكي في الخارج، بينما لم تطرح الهند مشاريعها العالمية الخاصة، رغم أنها حافظت على مستوى عالٍ من الأصالة في نظامها السياسي، متجنبة الانضمام إلى الكتل والتحالفات.
أما اللاعبون الآخرون، من “الأحجام” الأخرى، فظلوا ضمن قواعد لعبة “النظام العالمي الليبرالي” وتجنبوا تحديها. لم يشكل المتمردون، كإيران أو كوريا الشمالية، تهديداً كبيراً، على الرغم من أنهم أثاروا مخاوف من خلال مقاومتهم العنيدة، وإصرارهم على البرامج النووية، وتكيفهم بنجاح مع العقوبات، ومرونتهم العالية في مواجهة أي هجوم عسكري محتمل بسبب كلفتها المرتفعة.
لفترة قصيرة، بدا أن التحدي العالمي يمكن أن يأتي من الإسلام الراديكالي. لكنه لم يستطع زعزعة النظام الحالي. لم تفعل الحملات العسكرية في البداية للولايات المتحدة وحلفائها في العراق وأفغانستان سوى القليل لإضفاء الطابع الديمقراطي على العالم الإسلامي. مع ذلك لم يكن هناك تغيير عالمي في قواعد اللعبة، إضافة إلى أن الصراع مع الإسلاميين الراديكاليين عزز هوية العالم الغربي، الذي يدافع عن العلمانية والعقلانية، في مقابل التدين والعاطفة.
لقد وجدت روسيا مكانتها في النظام العالمي الجديد، والتي لم تسبب في البداية الكثير من القلق في الغرب. أصبحت الدولة اقتصاداً هامشياً متخصصاً في توريد المواد الخام. كان سوقها يستقبل بكل سرور الشركات الغربية العالمية. وأصبحت برجوازيتها الكبيرة جزءاً من النخبة العالمية “الروس العالميين”، وتدهورت الصناعة أو اندمجت في السلاسل العالمية. وأصبح رأس المال البشري يتقلص تدريجياً.
كما تم تخفيف نوبات سخطها العرضية بسبب قصف يوغوسلافيا أو الحرب في العراق أو الثورات في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، بطريقة ما، ولم يتم اعتبارها مشكلة كبيرة. كان من الممكن انتقاد موسكو بسبب “إرث الاستبداد” أو لانتهاكها حقوق الإنسان، وإلقاء محاضرات دورية عليها، والثناء على التقارب الثقافي مع الغرب، ولكن في نفس الوقت إفهامها بأنه لن يكون هناك تكامل عميق مع الغرب.
فلم تنجح المحاولات الخجولة من قبل رجال الأعمال الروس للانضمام لرأسمال شركات كـ “أوبل” أو “إيرباص”، أو الحصول على أصول في مجالات أخرى، لتحقيق علاقات اقتصادية أكثر تكافؤاً وترابطاً. كما تم إجبار موسكو بشكل مباشر وصريح على فهم أن مخاوفها بشأن الوجود العسكري الغربي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي ليس لها أساس شرعي وسيتم تجاهلها.
في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وحتى عام 2010، كان من الممكن الحديث عن استقرار عالٍ إلى حد ما للنظام الذي تم إنشاؤه بعد نهاية الحرب الباردة. ومع ذلك، في عام 2022، أصبح من الواضح أن “نهاية التاريخ” قد انتهت. وتستمر القصة في مسارها المعتاد المتمثل في الاضطرابات العالمية والصراعات من أجل البقاء والمنافسة الشرسة.
في الاتحاد السوفياتي، تم التعبير عن فكرة “نهاية التاريخ” من خلال التوجه نحو تحقيق الشيوعية، والتي، في الحقيقة، تم تأجيلها باستمرار. في الغرب، تلقت فكرة “نهاية التاريخ” أيضاً عدداً من السمات المفاهيمية، كالديمقراطية (التعددية) واقتصاد السوق، كأمثلة على التنظيم السياسي والاقتصادي للمجتمع.
على عكس الولايات المتحدة، لم يكن لدى موسكو ولم ترغب في أن يكون لديها أي نظام أيديولوجي للسياسة الخارجية، بعد أن كان لديها ما يكفي من الألعاب الأيديولوجية في الفترة السوفياتية.
بينما في الولايات المتحدة وفي الغرب ككل، تم الحفاظ على المكون الأيديولوجي، بعد أن أصبح أكثر رسوخاً في أهميته على خلفية الانتصار في الحرب الباردة.
تبين أن كل من دوغماتية السياسة الخارجية الأميركية والواقعية المقترنة بها أمران حاسمان لعدم ديمومة “لنهاية التاريخ”. أدى هذا الخليط إلى ظهور مغامرات غير مستدامة كـ “إشاعة الديمقراطية” في أفغانستان من جهة، والانحرافات عن القانون، معبراً عنها بالمعايير المزدوجة والتقدم الوقح لمصالحهم تحت شعارات خادعة من جهة أخرى.
أدى الأول إلى إنفاق الموارد وتقويض الإيمان بالقدرة المطلقة للهيمنة، تمكنت المقاومة الأفغانية من التخلص ليس فقط من “الاتحاد السوفيتي غير الفعال”، بل ومن “الولايات المتحدة الأميركية الفعالة”، مع كل حلفاءها.
وأدى الثاني لتقويض الثقة وزيادة الشكوك من جانب اللاعبين الكبار الآخرين. بدأت روسيا أولاً، ومن ثم الصين في التوصل إلى تفاهم مماثل.
في روسيا، بدأ هذا الفهم بالظهور على ضوء تقدم الناتو إلى الشرق وعبوره فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، الذي كانت تنظر إليه موسكو على أنه “اختراق” للأنظمة السياسية للدول المجاورة. وفي الصين، ترسخت في وقت لاحق، عندما شن دونالد ترامب، دون غمضة عين، هجوماً نشطاً على الصين في شكل حرب تجارية وعقوبات.
ومع ذلك، تبين أن رد فعل موسكو وبكين كانا مختلفين. فقد ضربت روسيا على الطاولة في عام 2014، ثم قلبت الطاولة بالكامل بجميع البطاقات والشطرنج وألعاب الطاولة الأخرى في عام 2022. أما الصين فبدأت بالاستعداد لأسوأ سيناريو، بينما لم تتحدى الولايات المتحدة علناً. ولكن حتى بدون مثل هذا التحدي، يُنظر للصين في واشنطن على أنها خصم أكثر خطورة وطويل الأمد مقارنة بروسيا.
لقد أصبحت نهاية “نهاية التاريخ” لافتة لمجموعة من العوامل:
أولاً، خاطرت قوة كبيرة بالتخلي فجأة عن فوائد “العالم المتعولم”. سوف يجادل المؤرخون حول ما إذا كانت موسكو تتوقع مثل هذه العقوبات القاسية ومثل هذا الخروج السريع من روسيا لمئات الشركات الأجنبية. ومع ذلك، من الواضح أن روسيا تتكيف بقوة مع الحقائق الجديدة، وليست في عجلة من أمرها من أجل العودة إلى القارب المريح للعولمة الغربية.
ثانياً، قامت الدول الغربية بعملية تطهير قاسية جداً للأصول الروسية في الخارج. اتضح أن الولايات الغربية لم تعد فجأة ملاذاً آمناً يحكم فيه القانون، بل وقعت تحت سيطرة السياسة. أصبحت روسيا الملاذ الوحيد حيث يمكن للروس العودة إليها بهدوء نسبي. يتم كسر الصور النمطية حول “الاستقرار والأمن” في الغرب. بطبيعة الحال، من غير المرجح أن تبدأ عمليات تطهير مماثلة لأصول أخرى هناك. لكن بالنظر إلى الروس، يتساءل المستثمرون عما إذا كان الأمر يستحق التحوط من المخاطر؟
ثالثاً ، اتضح أنه في الغرب يمكن للمرء أن يواجه ليس فقط تطهير الأصول، ولكن أيضاً التمييز المفتوح على أساس الجنسية. واجه آلاف الروس الفارين من “النظام الدموي” الرفض والازدراء فجأة. بينما يحاول آخرون إثبات أنهم أكثر رهاباً للروس من مضيفيهم، ويتقدمون قاطرة الدعاية المعادية لروسيا. لكن هذا لا يضمن أن الدوغمائيين لن يعيدوهم إلى روسيا، معتبرين أنهم غير مناسبين لسبب أو لآخر.
من المرجح أن يستمر الصراع بين روسيا والغرب لعقود ، بغض النظر عن كيفية انتهاء الصراع في أوكرانيا. في أوروبا، ستلعب روسيا دور كوريا الشمالية، لكن في نفس الوقت سيكون لديها إمكانات أكبر بكثير. أما أن تمتلك أوكرانيا القوة والإرادة والموارد الكافية لتصبح كوريا جنوبية أوروبية فهو سؤال كبير.
سيعزز الصراع بين روسيا والغرب دور الصين كمركز مالي بديل ومصدر للتحديث. لن يؤدي صعود الصين إلا إلى تسريع تنافسها المتزايد مع الولايات المتحدة وحلفائها.
أحد الأمثلة على مسارها هو تدمير النظام العالمي نتيجة لصراعات واسعة النطاق بين مراكز القوة. ويبقى أن نأمل ألا يكون العبور القادم من هذا القبيل هو الأخير للبشرية، بالنظر إلى مخاطر حدوث صدام عسكري مفتوح بين القوى العظمى، يليه تصعيد نحو صراع نووي واسع النطاق.
نقله إلى العربية: فهيم الصوراني
سيرياهوم نيوز3 – الميادين