لا ندري حجم التعديلات التي أجرتها الحكومة الجديدة على مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2025، ولكن الواضح أنها ركزت على زيادة الاعتمادات الاستثمارية خلافاً للموازنات السابقة منذ عام 2021، وكما نردّد دائماً “العبرة في التنفيذ”!
نعم، بعد عدة أشهر، يمكن أن نلمس توجّه الحكومة لدعم القطاعات الإنتاجية، وخاصة المشاريع المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر، وترجمة واسعة لبرنامج دعم مشاريع إحلال بدائل المستوردات، مع أننا ندعو دائماً إلى وضع خطط خمسية وعشرية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تترجمها الحكومة في مشاريع مادية وزمنية ترصد لها الاعتمادات في الموازنات العامة.
وبغضّ النظر عن الزيادة الطفيفة في موازنة 2025 مقارنة بموازنة 2024، فإن السؤال: هل الاعتمادات المتاحة في مشروع الموازنة الجديد تتيح دعم القطاعات الإنتاجية بما يحقق الاعتماد على الذات لتأمين احتياجاتنا من السلع الأساسية بدلاً من استيرادها، وبالتالي الحدّ من نزيف القطع الأجنبي وتقوية الليرة السورية؟
وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل زادت القوة الشرائية لاعتمادات موازنة 2025، مقارنة بموازنات السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ عام 2021؟!
مقارنة رقمية
لا يمكن معرفة الإمكانات الفعلية لموازنة 2025 إلا بالكشف عن القوة الشرائية لاعتماداتها المالية مقارنة بالموازنات السابقة، ومن خلال هذه المقارنة سنصل إلى إجابة على السؤال: هل زادت اعتمادات موازنة 2025 أم انخفضت؟
لقد بلغت اعتمادات الموازنة العامة للدولة، للسنة المالية 2021، حدود 8500 مليار ليرة سورية (بسعر صرف 1256 ليرة سورية للدولار)، أيّ كانت قوتها الشرائية تبلغ أكثر بقليل من 6.76 مليارات دولار.
وقفزت اعتمادات موازنة 2022، اسمياً، إلى 13325 مليار ليرة (بسعر صرف للدولار 2512 ليرة)، أيّ أن القوة الشرائية لاعتمادتها كانت 5.3 مليارات دولار.
وقفزت اعتمادات موازنة السنة المالية 2023 إلى 16550 مليار ليرة في عام 2023 (بسعر صرف 3000 ليرة للدولار)، أي بقوة شرائية فعلية 5.51 مليارات دولار.
وزادت موازنة 2024 أكثر من 100% (ورقياً) عن موازنة 2023، حيث بلغت 35500 مليار (بسعر صرف 11500 ليرة)، لكن قوة اعتماداتها الفعلية كانت 3 مليارات دولار فقط.
أما اعتمادات مشروع موازنة السنة المالية 2025 فقد زادت إلى 52600 مليار ليرة (بسعر صرف للدولار 13500 ليرة)، أيّ أن القوة الشرائية الفعلية لاعتماداتها لا تتجاوز 3.9 مليارات دولار.
نعم، زادت موازنة 2025 مقارنة بسابقتها 2024 لكنها أقل بكثير من موازنة عام 2021، بما لا يقلّ عن 2.86 مليار دولار، والسؤال: لماذا التراجع المستمر في موازنات الحكومة السابقة خلال السنوات الأربع الماضية؟
الإنتاج أم سعر الصرف؟
لعلّ أحد الأسباب الرئيسية لتراجع اعتمادات الموازنات العامة للدولة يعود إلى الخيارات التي تبنّتها الحكومة السابقة، وخاصة خيار تثبيت سعر الصرف، بدلاً من خيار دعم القطاعات الإنتاجية.
أكثر من ذلك، لم تجد الحكومة وسائل فعّالة لزيادة وارداتها المالية سوى رفع أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي والصناعي، ورفع أسعار المحروقات التي أرخت بظلالها الثقيلة والمؤلمة على المنتجين، وملايين الأسر السورية، فماذا كانت النتيجة؟
ركود وتضخم وتراجع مرعب في القدرة الشرائية لملايين الأسر السورية، وزيادة مطردة في المستوردات المستنزفة للقطع الأجنبي، وتحوّل سورية من بلد منتج ومصدّر للكثير من السلع إلى مستورد لها بكميات كبيرة.
والمذهل في الأمر أن الحكومة السابقة أصرّت على خيار تثبيت سعر الصرف، وجعل الاقتصاد في خدمة هذا الخيار، وكأنّه الحل الوحيد المتاح رغم ما سبّبه من مآسٍ للقطاعات الإنتاجية والخدمية ومن تدهور معيشة ملايين السوريين.
ويبدو أن الحكومة الجديدة أجابت مبكراً على السؤال: أيهما أجدى خيار الإنتاج أم خيار تثبيت سعر الصرف؟
وتمّ ترجمة خيارها في زيادة اعتمادات الإنفاق الاستثماري في مشروع موازنة 2025، وهذا هو جديد الموازنة مقارنة بسابقاتها.
ماذا عن الدعم الاجتماعي؟
ويبقى الدعم الاجتماعي الجانب الأكثر أهمية لملايين السوريين. وقد بلغ هذا الدعم 8325 مليار ليرة في مشروع موازنة 2025، منها 50 مليار ليرة لصندوق المعونة الاجتماعية، و100 مليار لصندوق دعم الإنتاج الزراعي، مقابل 75 مليار ليرة في عام 2024، و3850 ملياراً لدعم الدقيق التمويني، و4000 مليار للمشتقات النفطية، مقابل 2000 مليار عام 2024، ومبلغ 125 ملياراً للخميرة التموينية، و25 ملياراً لصندوق آثار الجفاف، و150 ملياراً لصندوق التحول للري الحديث، و25 مليار ليرة لصندوق دعم متضرّري الزلزال.
واللافت تأكيد رئيس الحكومة بأن “سياسات الدعم ربما كانت سليمة في زمن ما، أما الآن وقد أصبحت تمول بالقطع الأجنبي النادر، فمن الضرورة بمكان إعادة مقاربتها وإعادة هيكلتها والتحرّر من التركات السابقة السلبية”.
هل تكون البداية بالمشاريع الصغيرة؟
وبرأي الكثيرين، فإن البداية الأهم في إعادة هيكلة الدعم هي التركيز على دعم القطاعات الإنتاجية على مختلف متدرجاتها ومسمياتها، فهي التي ستؤدي إلى تحسين سعر الصرف وزيادة إنتاج السلع وزيادة الصادرات، ولعلّ البداية الأهم هي المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر لأنها المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي ولتصنيع احتياجات السوق وبدائل المستوردات؛ والأكثر أهمية في دعم المشاريع المتناهية الصغر أنها عامل فعّال بتحسين الأوضاع المادية لآلاف الأسر السورية، وجعلها تعتمد على الذات بدلاً من انتظار دعم هزيل من الحكومة.
وهذا الأمر يتطلّب جعل المشاريع المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر تتصدّر جدول اهتمامات الحكومة فتخلق لها البيئة التشريعية والمالية والخدماتية، بالإضافة إلى التسهيلات والمحفزات لتتحول إلى محرك للنمو الاقتصادي وتأمين جاجة الأسواق من السلع وتصدير الفائض منها إلى الخارج بما يسهم في تحسين القوة الشرائية لليرة وصولاً إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من غالبية السلع التي يحتاجها السوريون.
تحريك عجلة الاقتصاد
ويتفق الكثيرون من أصحاب الخبرة في تفعيل الاقتصاد الوطني مع ما قاله رئيس الحكومة، الدكتور محمد غازي الجلالي، حول أهمية التخطيط كمبدأ ونهج في إدارة الموارد الوطنية، وبأنه “أكثر أولوية في الأزمات وفي عدم الاستقرار”، وبأنه يتلخص بشكل جوهري في القدرة على ترتيب الأولويات وتخصيص الموارد وإعادة تخصيصها ضمن القنوات الأكثر إنتاجية.
والسؤال: هل ستترجم موازنة 2025 هذه الرؤية لرئيس الحكومة، أم علينا الانتظار لترجمتها في موازنة عام 2026؟
نعم، لا يمكن التحوّل من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي بعصا سحرية، ولكن إذا تمكّنت الحكومة من إعادة ترتيب الأولويات، وزيادة الموارد، وتأمين البيئة التشريعية المناسبة، مع التسهيلات والمحفزات للقطاعات الإنتاجية لتحريك عجلاتها أفضل مما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، فإننا يمكن أن نشهد موازنة عامة لعام 2026 تدعم الاستثمارات، أي مختلفة عن موازنات الأعوام السابقة.
سيرياهوم نيوز 2_البعث