آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » العربية في العصر الرقمي: أزمة هوية أم فرصة للنهضة؟

العربية في العصر الرقمي: أزمة هوية أم فرصة للنهضة؟

 

فاروق غانم خداج

 

 

“اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، بل هي وعاء الفكر وذاكرة الأمم”، بهذه الكلمات التي كتبها طه حسين في نقده الشهير لأزمة التعليم في العالم العربي، يفتتح العقل العربي تأمله في مصير لغته الأم. وإذا كانت هذه العبارة قد كُتبت في منتصف القرن العشرين، فإنها اليوم تكتسب بعداً أكثر إلحاحًا وسط متغيرات العصر الرقمي، حيث تواجه اللغة العربية تحديات غير مسبوقة على مستوى الهوية، والدور، والفعالية. لقد حافظت العربية على وجودها الحضاري لأكثر من أربعة عشر قرناً، وعبرت بأجيال من العلماء والمبدعين إلى ضفاف المجد الثقافي، غير أنها تجد نفسها اليوم مهددة بالتهميش حتى في عقر دارها، ضمن مشهد لغوي معولم وسريع التبدل، تتزاحم فيه اللغات واللهجات والمنصات، وتتراجع فيه مكانة الفصحى في معظم مفاصل الحياة العامة.

 

الوقائع تكشف عن ملامح أزمة حقيقية. فبحسب تقرير اليونسكو لعام 2023، تُصنّف اللغة العربية في المرتبة الرابعة بين اللغات المهمّشة داخل أنظمتها التعليمية الوطنية، ما يعني أنها تُدرّس غالباً بصيغة نمطية لا تواكب العصر ولا تنجح في جذب المتعلمين. وتذهب دراسة لاتحاد إذاعات الدول العربية إلى أن 82% من المحتوى التلفزيوني العربي يعتمد على اللهجات المحلية، ما يضعف استخدام الفصحى ويهمّش حضورها في الوعي الجماهيري. أما في الفضاء الرقمي، فتؤكد منظمة “إرث العربية” المتخصصة في رصد المحتوى العربي أن نسبة المحتوى المكتوب بالفصحى لا تتجاوز 23% من إجمالي المحتوى العربي المتاح على الإنترنت، في ظل طغيان اللهجات والهجين اللغوي وغياب التخطيط اللغوي الواعي.

 

ليست هذه المظاهر سوى أعراض لأزمة أعمق، تتصل بجذور ثقافية وتاريخية وبنيوية. أحد أبرز تجليات هذه الجذور هو الانفصال التاريخي بين لغة التعليم الرسمي ولغة الحياة اليومية، ما جعل تعلم الفصحى أشبه بعبور جسر لغوي نحو بيئة مصطنعة، بعيدة عن نبض الواقع. ويصف المفكر المغربي عبد الله العروي هذه الإشكالية في كتابه “أزمة المثقفين العرب” بأنها مظهر من مظاهر التبعية الفكرية، حيث يتردد العرب بين الانبهار بالنموذج الغربي والرغبة في المحافظة على الخصوصية. أما مالك بن نبي، في كتابه “شروط النهضة”، فيعزو الأمر إلى “عقدة الدونية اللغوية”، التي تجعل الناطقين بالعربية يستهينون بلغتهم أمام الأجنبية، ويختزلون التقدم في التماهي مع الآخر.

 

وتتعمق الأزمة حين ننظر في الثنائيات المربكة التي تحكم النقاشات اللغوية المعاصرة: الفصحى في مقابل العامية، العربية في مقابل اللغات الأجنبية، الأصالة في مقابل المعاصرة. هذه الثنائيات ليست مجرد خيارات لغوية، بل هي تعبير عن قلق الهوية في زمن العولمة. وحين نُسقطها على النظام التعليمي، نجد أن المناهج لا تزال أسيرة الحفظ والتلقين، ولا تتيح للطلاب أن يعيشوا اللغة أو يستمتعوا بها. والأدهى أن نحو 45% من معلمي اللغة العربية غير مؤهلين تربوياً، وفق إحصاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، مما يكرّس أسلوباً تقليدياً في التدريس لا يعكس روح اللغة ولا إمكاناتها الإبداعية.

 

كما أن غياب الأدوات التكنولوجية المناسبة يعمّق هذا الانفصال، فاللغة العربية لا تزال تعاني من محدودية في برمجيات المعالجة الآلية للنصوص، مقارنة باللغات الأخرى، وهو ما يعيق إنتاج محتوى رقمي متطور، ويضعف حضور اللغة في أدوات الذكاء الاصطناعي والتعليم الإلكتروني، وهما من أهم مفاتيح العصر.

 

لكن، في خضم هذه التحديات، تبرز نماذج ناجحة تعيد الأمل وتفتح نوافذ جديدة. فالنموذج الماليزي، مثلاً، يقدم درسًا مهمًا في كيفية الجمع بين تعزيز اللغة الوطنية وإتقان اللغة الإنجليزية، من دون أن تكون إحدى اللغتين على حساب الأخرى. كما أن مشروع “حروف”، المنصة التعليمية الرقمية التي جذبت أكثر من مليوني طالب عربي، أثبت أن اللغة العربية قادرة على تقديم محتوى تعليمي جاذب وعصري إذا ما توفر له الدعم والإبداع. ولعل أبرز ما يعكس إمكانات التجديد هو تجربة قناة “ماجد” للأطفال، التي نجحت في تقديم برامج كاملة بالفصحى، بأسلوب ممتع، وحصدت ملايين المشاهدات، مما ينفي مقولة أن الفصحى لا تصلح لجذب الأجيال الجديدة.

 

ما نحتاج إليه اليوم هو الانتقال من تشخيص الأزمة إلى رسم ملامح الحل. ثمة آليات يمكن أن تنهض بالعربية من كبوتها، إذا توفرت الإرادة السياسية والثقافية. في المجال التعليمي، لا بد من تحديث مناهج تعليم العربية لتدمج مهارات القرن الحادي والعشرين، وتنتقل من “العربية للامتحان” إلى “العربية للحياة”، حيث تُستخدم في المواقف اليومية لا كمادة للحفظ فقط. وفي المجال التقني، ينبغي دعم تطوير أدوات المعالجة الآلية للنصوص العربية، وزيادة المحتوى الفصيح في المنصات الرقمية، وتوفير تطبيقات تعلم اللغة بجودة عالية. أما في الجانب التشريعي، فإن إصدار قوانين لحماية اللغة العربية، وإلزام المؤسسات العامة والخاصة باستخدام الفصحى في مخاطبة الجمهور، يمكن أن يشكّل خطوة مؤسسية مهمة نحو تكريس حضور اللغة في الفضاء العام.

 

إن التصدي لأزمة العربية لا يعني الانغلاق على الذات أو رفض التعدد، بل يستدعي بلورة مشروع نهضوي يجعل من اللغة رافعة للمعرفة والابتكار. هذا المشروع ينبغي أن يقوم على أربع ركائز: تعليم جاذب يعيد للطلاب شغفهم باللغة، وإعلام مسؤول يكرّس الفصحى بوصفها لغة معاصرة، وبحث علمي يُنتج معرفة بلغتنا الأم، وصناعة لغوية تستثمر في التطبيقات الرقمية والمحتوى المرئي والمسموع. ومن هنا يمكن رسم خارطة طريق عملية، تبدأ بإصلاح المناهج التعليمية بين عامي 2024 و2026، وتستكمل بتطوير الصناعة المعجمية وتحديث القواميس الرقمية في الفترة بين 2025 و2027، ثم تركّز على تعزيز الحضور الرقمي للعربية حتى عام 2030، عبر مبادرات تشاركية بين القطاعين العام والخاص.

 

في هذا الإطار، من الضروري التفكير في آليات مؤسساتية تدعم هذا التوجه. يمكن، مثلاً، الدعوة إلى مؤتمر عربي جامع لوضع استراتيجية موحدة للنهوض باللغة، على غرار المبادرات الأوروبية لحماية اللغات الوطنية. كما أن إنشاء “صندوق عربي لدعم اللغة”، يمول المبادرات التعليمية والتقنية والإعلامية، سيمنح المشروع بعداً تنفيذياً. ويمكن تأسيس “مرصد لغوي عربي” يتولى متابعة تنفيذ السياسات اللغوية، ويصدر تقارير دورية عن حال اللغة وتطورها في مختلف المجالات.

 

ربما تبدو هذه الرؤية طموحة في ظل الأوضاع العربية الراهنة، لكن اللغة كانت ولا تزال في صلب الصراع على الوجود الثقافي والسياسي. وكما قال الشاعر أدونيس: “ليس المهم أن ننادي بعظمة العربية، بل أن نجعلها عظيمة بالفعل”. إن تحديث اللغة ليس خيانة للأصالة، بل هو شرط لاستمرارها. وتاريخ العربية نفسه شاهد على قدرتها على التكيّف والتطور، من النقوش الجاهلية إلى عيون الشعر العباسي، ومن تفاسير المفسّرين إلى روايات المعاصرين. وحدها الإرادة المشتركة بين الدولة والمجتمع والمدرسة والوسيلة الإعلامية قادرة على تحويل هذا الرصيد الحضاري إلى طاقة حية، تشكل جسر عبور إلى مستقبل نكون فيه نحن صانعي اللغة، لا ضحاياها.

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

شاعر الأندلس لم يكن حزيناً: ضاحكاً مرحاً

  سمير عطا الله     «اكتشاف مذهل» ليس بالنسبة إلى الأدب العالمي، بل إلى قارئ عادي كان بين الملايين الذين أدهشتهم أعمال لوركا ونيرودا ...