الرئيسية » كتاب وآراء » العرب بين كارثتين.. النيل والفرات

العرب بين كارثتين.. النيل والفرات

علي الزعتري

بمقالةٍ سابقةٍ كتبتُ عن سَدِّ النهضة الإثيوبي ليس فقط من حيث تأثيره على مياه النيل للسودان و مصر و لكن أساساً من حيث الإشارة الواضحة التي تدفع بها الحبشة حول تنامي نفوذها إقليمياً والإستخدام السياسي للمياه الذي تتبعه. كما أنني لمَّحتُ لأن الحل العسكري غير مُجْدٍ و أن مصر و السودان بحاجةٍ لتطوير منظومةٍ كاملةٍ من الوعي و التعامل مع حقيقةِ أن الحبشة فرضت واقعاً جديداً لن يزول.

الحال العربي جلَّي بأن المياه العابرة للحدود سواء كانت أنهاراً أم مياهاً جوفية هي من عوامل النزاعات المتطورة بين الدول في المنطقة إن لم تكن من أهمها وأن قلةً من الدول العربية لا تعاني من شح المياه و تقترب من مؤشرات خطرة على أمانها الداخلي جراء ندرة المياه. كُتِبَ بهذا الكثير و طولب الكثير أيضاً من الحكومات للتخطيط السليم و إدارة موارد المياه و استهلاكها لكن الحكومات تقف حقاً عاجزةً عن مجاراة التطورات السلبية في الوقت الحاضر. أتكلم في هذه المقالة عما أراه كارثتين تحيقان بنا و تسببان نسبةً كبيرة من العجز الحكومي و هاتين الكارثتين تقعان بين واضح السيطرة على مصادر المياه بالنفوذ الإقليمي غير العربي و الخلافات العربية الداخلية التي أدت لبروز الإقطاعيات المتحورة كدويلاتٍ مجتزأةٍ أو محتلةٍ أو محميةٍ من الخارج. إن فقد أو ضعف السيادة المائية والأرضية كارثتين لا يمكن التهوين من تبعاتهما و المؤسف أنه ما من حلٍّ ماثلٍ لهما.

أنظر للجناح الشرقي من العالم العربي، في العراق و سوريا و الأردن و فلسطين و لبنان و بلاد الخليج العربية واليمن، حيث تتشارك و تتشابك المصادر المائية أولاً مع إيران وتركيا و مع المحتل الصهيوني و ثانياً ما بين هذه الدول العربية، وثالثاً حيث تتشرذم تدريجياً بعض الدول ما بين دويلات وكيانات حكم ذاتي و إقطاعيات طائفية في الوقت والمكان الذي تختفي أو تكاد فيه قدرات التخطيط و الإدارة و الخدمات النفعية المركزية بقطاع المياه والصرف الصحي.

فتركيا و سوريا و العراق تشترك بنهر الفرات. و العراق و تركيا بنهر دجلة، و إيران و العراق بأنهار عديدة مثل القارون تبدأ بإيران و تدخل العراق. و يشترك الأردن و سوريا بنهر اليرموك، والأردن وفلسطين وسوريا ببحيرة طبريا ونهر الأردن. و لبنان و سوريا بنهر العاصي و العراق و الأردن و السعودية و سوريا بالمياه الجوفية المتاخمة للحدود. ومن غير شك فإن الاحتلال الصهيوني لفلسطين خلق أشد أزمات المياه بعيدة الأثر السلبي على الفلسطينيين والأردنيين واللبنانيين والسوريين عندما سيطر على موارد المياه من الجولان وطبريا و لنهر الأردن و كامل المياه الجوفية بالجولان و فلسطين. وبالطبع أيضاً فإن أحد أسباب شح المياه في الأردن، إضافةً لقلة الأمطار، يعود لحبس مياه نهر الأردن و منبعه من بحيرة طبريا، ولكن عطش الفلسطينيين كله يعود لمنعهم الاستفادة من مياههم الجوفية بينما ينعم المحتل بها. و حتى بوجود الإتفاقيات المشتركة مثلاً بين الأردن و سوريا فإن التزويد المائي للأردن يقل بكثير عما يجب أن يكون عليه.

ويشكل سد أتاتورك التركي حاجزاً خطيراً ضد انسيابية نهر الفرات بكميات مياه كافية للزراعة و الاستهلاك البشري و الحيواني و الإنتاج السمكي في سوريا والعراق. و كان لبناء إيران سد القارون و سدود متعددة أُخرى أثرٌ سلبيٌ على إمدادات المياه للعراق و قد كُتِبَ عن هذا الموضوع الكثير لكنه لا يحصل على حقه في الإعلام. مع العلم أن إيران نفسها تواجه شح المياه مقارنةً مع نموها السكاني المتعاظم. و تنوي تركيا بناء سدود على نهر دجلة مما سيفاقم من الأزمة في العراق. و لم تلتفت إيران ولا تركيا لهذا الأثر على العراق و سوريا و لم تبديا استعداداً جدياً للوصول لاتفاق مناسب لاقتسام و محاصصة المياه العابرة بل أنهما استغلتا فوضى البلدين العربيين بأزماتهما الداخلية لترسيخ السيطرة على الأنهار.

و بذات الوقت انبعثت في العراق وسوريا دويلاتٌ مقتطعة في شمال العراق و شمال شرق سوريا وشمال سوريا وغربها وجنوبها الغربي موزعةً بين سلطة حكم ذاتي كردي دستوري في العراق و لكنه شبه مستقل، و سلطة حكم كردي بسوريا و كيانٌ بمحافظة إدلب تحت السيطرة الميليشياوية و مناطق تحت السيطرة التركية شمال محافظة حلب و كيانٌ تحت الحماية الأجنبية بصحراء التنف. أما إيران فتحتفظ بنفوذٍ سياسي وعسكري بكلا البلدين يتراوح بين المقبول والمرفوض حسبما ترى و تنتمي الجهات المعارضة والمؤيدة. و مأساة فلسطين مستمرة مع الاحتلال و مع كيانين للسلطة و حماس و حتى مع الاعتراف بدولة واحدة فوجود حماس القوي يتوازى و سلطة السلطة مكوناً دويلة فلسطينيةً ثانيةً. ترافق هذا مع موجات النزوح و اللجوء بسائر هذه المناطق و خارجها و الاكتظاظ السكاني العشوائي و حاجة الناس للماء والصرف الصحي بمناطق غير مؤهلة. وترافق كذلك مع تراجع الخدمات المركزية للدول و تصاعد العشوائية لمعالجة الحاجة الماء.

و كل دول الخليج العربي تعتمد على تحلية مياه الخليج بالمصافي العملاقة التي تعتمد على النفط. وإن بالسعودية و عُمان تمتاز بعض الأقاليم بهطولات مطرية و خزانات جوفية و سدود محلية تكفي السكان المحليين لكن جل رعايا دول الخليج العربي يعتمدون على تقنية تحلية مياه البحر. و طالما بقي النفط وابتعدت التهديدات فالمياه الصالحة متوفرة للمستهلك بأسعار الكلفة أو أكثر بقليل. غير أن منطقة الخليج تعج بالتهديدات و حتماً إن التعويل هو على حنكة الدول وتحكيمها العقلانية بعدم المساس بالمنشآت المدنية من وزن المصافي لكن التهديد يبقى كالمقصلة المعلقة لو نوى أحدهم أن يتهور أو إن قامت جماعاتٌ مارقةٌ بعملٍ إرهابي. و لا بد لذلك من ضوابط تُحيِّد و تمنع استهداف المنشآت هذه فقيمتها توازي قيمة الحياة ذاتها و تعلو شأناً على أهمية المؤسسات الطبية و التعليمية التي يُجَّرم القانون الدولي مهاجمتها.

إذاً نحن ننظر لمنطقة بلاد الشام و العراق المهددة فعلياً بمصادرها المائية  بفعل قوى إقليمية و الخليج المهدد هو الآخر بفعل الاعتماد على ثروة النفط النابضة لتوفير المياه و سهولة تهديد المنشآت. حالٌ لا يسر إلا عدو و يستدعي تفكيراً عربياً واحداً مشتركاً في الهدف.

نبقى في الجزيرة العربية و في اليمن تحديداً و الدي كان يصنف كبلد فقيرٍ جداً فأصبح اليمن بلاداً فقيرة جداً تمزقها الولاءات و الحروب. لا يوجد يمنٌ واحدٌ بل قل ثلاثٌ على الأقل بين ما هو حوثي و هاديٌّ و جنوبي و كل واحد بعطي لنفسه مقام الشرعية و يتكل على حلفاء غير يمنيين. واليمن في ظل مأساة الحرب يعاني ليس فقط من شح الماء بل كذلك من سوء جودته و تلوثه و غياب الصرف الصحي.

إذاً في الجانب الشرقي للوطن العربي هناك كيانات متعددةٌ خارج نطاق الدولة المركزية في سوريا، و واحدٌ بضمن الدولة لكنه فعلياً خارجها في العراق، و ثلاثةٌ على الأقل في اليمن، و إقطاعيات متعددةٌ بلبنان تحت راياتٍ حزبية وطائفية. هذا عدا عن التواجد السكاني اللاجئ بكثافة في الأردن و لبنان و التمركز العسكري الأجنبي المدعو رسمياً أو الفارض نفسه في كل الدول بلا استثناء و يُشكل محميات خارج سلطات السلطة الوطنية و له احتياجه من المياه. إنه عددٌ كبيرٌ ما هو خارج نطاق الحكومات من كيانات شرعية وغير شرعية و كلها تساهم بجعل المنطقة مشاريع جفاف وعطش بتدخل النفوذ الإقليمي و الصهيوني و التغير المناخي.

و في إفريقيا العربية، كتبنا عن النيل و عن مصر و السودان و الحبشة. و الله أعلمُ بما ستأتي به الأيام في هذا الصراع الإقليمي. و ذكرنا أن الصومال هو ثلاثة دول منها واحد شرعي و اثنين خارج السرب و الإعلام و الدبلوماسية لكنهما يؤديان دوراً قبلياً و مالياً. هو نفسه الصومال الذي سبب فيه القرار السياسي ببدء حرب أوغادين بداية انهيار الدولة و الفساد و الجفاف و حربه الأهلية فانتقل من دولة لدويلات وميليشيات و قراصنة وقواعد عسكرية وقوات دولية. شعبٌ أصيلٌ وادعٌ ذكيٌ لماحٌ ساقه الفساد و العطش للشرذمة و الهجرات. إنه غياب الدور العربي و ضعف انتباهه لهذه المخاطر المدمرة للمواطن و المواطنة. و في ليبيا و بالرغم من الاتفاق لا يمكن إلا القول بوجود كيانين في المركز وفي الشرق يلتقيان ليختلفا حتى على فتح طريق! النهر العظيم يأتي بالماء من بحيرات جوفية في الجنوب الليبي و لا يعلم أحدٌ مدى استدامته فيقولون خمسين سنة و يقولون مئتين. قيل أن تكلفة الإنشاء فاقت عشرين بليون دولار و قيل أن مصافٍ لماء البحر المتوسط كانت أفضل من استنزاف المياه الجوفية لكنه بأي حال إما استنزاف الماء أو النفط.

إذاً بإفريقيا العربية دويلةٌ صحراويةٌ في أقصى الغرب قائمة كدولةٍ بلا اعتراف و اثنتين بليبيا و لو تحت علمٍ واحد و ثلاثة في الصومال و حكمٌ ذاتي في السودان لمناطق في جنوب كردفان و النيل الأزرق و قد تلحقهما مناطق أخرى و طمعٌ بتطوير الحكم الذاتي لحكمٍ كامل خارج نطاق الخرطوم. هذا بالتوازي مع مشكلة النيل و مصادر النهر العظيم الجوفية التي تسكت عنها بعض الدول اليوم لكنها ستثيرها مستقبلاً ضمن سياق الانبعاث الإقليمي و ظلال حقوق السيطرة على مصادر المياه.

باختصار، فإن كارثتي التشرذم لدويلات و ندرة مصادر المياه واحدةٌ ستُغَذِّي الثانية. و العرب مُطالبونَ بالجدية في التعامل معهما بأسلوبٍ يتوازى و الحفاظ على الوجود. لكن التشاؤم بهذا هو سيد الموقف فإن التشرذم العربي يمنع الدول من إسداء الانتباه لكارثتين على المستوى القومي العام و يحيلهما لقضايا فردية تاركاً لكل حكومة معالجة مشاكلها. و لا يعقل أن نعتقد أن انهيار موارد المياه و تشرذم الدول هو قضيةٌ فردية تبقى داخل الحدود. فهل من مستمع؟

سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أنا والقمة والاعتذار عن وعد بلفور ..!

    د.جورج جبور   اخبرت صوت العرب في مقابلة هاتفية قبل لحظات ان الاعتذار عن الكلمات المؤسسة ل” اسرائيل”. وهي وعد بلفور امر يسبق ...