| جو غانم
“حان الوقت للانتقال إلى مرحلةٍ جديدة من الاستقرار والتنمية في سوريا، وأنْ تطوي الدول صفحة الخلاف لمعالجة الأزمة السوريّة، بعيداً عن الانقسامات التي يشهدها النظام الدولي”.
تلك كانت كلمات السفير محمد بو شهاب، نائب مندوب دولة الإمارات العربية المتحدة في جلسة لمجلس الأمن الدوليّ حول سوريا، عُقدت مساء يوم الخميس 23 آذار/مارس. وقد أكّد بو شهاب في كلمته رفض بلاده التدخّلات الأجنبية في سوريا، وضرورة احترام سيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها، مديناً بشدّة “الغارات الإسرائيلية التي خلّفت أضراراً في مطار حلب الدولي”، مجدّداً دعم بلاده الكامل لسوريا خلال هذه المرحلة الحرجة، ومواصلتها الاستجابة لمواجهة تداعيات زلزال شباط/فبراير المدمّر، متّهماً “الجماعات الإرهابية باستغلال كارثة الزلزال ومنع وصول المساعدات إلى المتضررين”.
اللافت هنا، أنّها المرة الأولى منذ 12 عاماً، التي يستخدم فيها مندوب دولة عربية إلى الأمم المتحدة، هذه اللغة في الحديث عن الأزمة والحرب في سوريا. وقبل كلمة مندوب الإمارات بساعات قليلة، كانت وكالة “رويتر” قد صدّرت خبراً يتحدث عن اتّفاق سوريّ – سعوديّ على معاودة فتح سفارتيهما في البلدين بعد قطيعة دامت لأكثر من عقد من الزمان، هو عُمر الأزمة في سوريا. وبعد خبر رويتر بساعات، قرأ مذيع الأخبار في قناة “الإخبارية” السعودية، بياناً رسميّاً صادراً عن وزارة الخارجية السعودية، يتحدث عن “مباحثات سعودية–سورية لاستئناف الخدمات القنصلية بين البلدين”.
وكان الرئيس السوريّ بشار الأسد، قد وصل يوم الأحد الفائت 19 آذار/مارس إلى العاصمة الإمارتية أبو ظبي، في زيارة لم يتم الإعلان عنها مسبقاً. وكما كانت زيارة الأسد إلى روسيا قبل ذلك بأيام قليلة، جديدة في الشكل والمضمون، لدرجة اعتبارها من قبل غالبية المحللين والمراقبين السياسيين، بداية حقبة سوريّة-دوليّة جديدة، جاءت زيارة الإمارات لافتة هي الأخرى في تفاصيلها وشكلها ومضمونها ودلالاتها، لدرجة اعتبارها منعطفاً حادّاً في طريقة التعاطي الإقليميّ والدوليّ مع سوريا المحاصرة.
لقد جرى استقبال كبير بدأ منذ اللحظة الأولى لدخول طائرة الرئيس الأسد المجال الجوّي لدولة الإمارات، إذ رافقته طائرات حربيّة إماراتية إلى أنْ حطّ في مطار العاصمة أبو ظبي، لتجري مراسم الاستقبال الرسميّ، قبل أنْ ينتقل والوفد المرافق له إلى قصر “الوطن”، ويبدأ مباحثاته مع رئيس دولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الذي استهلّ حديثه بكلمات الترحيب والحرص على عودة سوريا إلى حضنها العربيّ، وعزم بلاده على السعي بقوّة لأجل هذا الهدف.
وجاء لافتاً هنا أيضاً، حضور السيدة الأولى أسماء الأسد، في أول زيارة رسمية لها إلى جانب الرئيس منذ 12 عاماً، ولقاؤها مع السيدة فاطمة المبارك، والدة حاكم الإمارات، التي اضطلعت بدورٍ كبير على خطّ الإغاثة الإماراتية لمنكوبي الزلزال في سوريا.
كذلك فإنّ حضور وفد اقتصادي كبير مع الرئيس السوريّ، أعطى انطباعاً عن طبيعة المباحثات بين الرئيسين، ومؤشّراً واضحاً على ماهيّة وشكل العلاقة بين البلدين في الفترة المقبلة. حيث يُشكّل موضوع النهوض بالاقتصاد السوريّ الذي أنهكته الحرب والحصار، بنداً أوليّاً وملحّاً لدى المسؤولين السوريين، يأتي مباشرةً بعد بند إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية ودول الإقليم خاصّة.
وفي موضوع إعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية بين دمشق وعواصم المنطقة، يكمن التطوّر الأهم على الإطلاق، في ما يجري على طريق الرياض–دمشق. وإذا كانت موسكو قد سعت طويلاً خلال السنوات الأربع الماضية، لتحقيق تقدّم على هذا المسار، فإنّ الإمارات، كما تشير المعلومات، قد استطاعت تحقيق هذا الخرق في جدار الرفض الأميركيّ لأيّ تواصل سياسيّ مع دمشق.
وقد جاء ذلك اتّكاءً على ظروف دولية مستجدّة ومتغيّرات عديدة وكبيرة حدثت منذ بدء الحرب الأوكرانية واستعار الصراع العالمي بين واشنطن والغرب من جهة، وموسكو وبكين وطهران من جهة مقابلة، ليأتي زلزال 6 شباط/فبراير ويُشرّع البوابة التي كانت مواربةً بانتظار هبّة ريح صغيرة لتفتح على عهد جديد يُنهي 12 عاماً من القطيعة والحصار.
وصحيح أنّ التواصل الأمني بين دمشق والرياض، قد بدأ منذ العام 2019، لكنّ أيّ تواصل سياسيّ لم يحدث، حتى من خلال تصريحات دبلوماسية إيجابية من الطرف السعوديّ حتى شباط/فبراير الماضي، حين قال وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، خلال مشاركته في “منتدى ميونيخ للأمن”، إنّ “إجماعاً بدأ يتشكّل في العالم العربيّ على أنّه لا جدوى من عزل سوريا، وإنّ الحوار مع دمشق مطلوب كي تتسنّى، على الأقل، معالجة المسائل الإنسانية، بما في ذلك موضوع عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم”.
واعتبر بن فرحان في حديث لاحق له في لندن، في الثامن من هذا الشهر آذار/مارس، أنّ طريقة التعاطي العربي والدولي مع الأزمة السورية، لم تعد مفيدة، وأنّ هناك شبه إجماعٍ خليجيّ وعربيّ ودوليّ، على أنّ الوضع الراهن “غير قابل للاستمرار”، وأنّ الحاجة باتت ملحّة لاتّباع نهج آخر على هذا المسار. ومثّلت تلك التصريحات مقاربةً سعودية جديدة للأزمة السورية، وتغيّراً في السياسة السعودية حيال دمشق والوضع السوريّ عموماً.
وإذ شكّل تأخّر السعودية في الاستجابة للإغاثة الإنسانية لمنكوبي الزلزال في سوريا، وتفضيلها، في الأيام الأولى للكارثة، إرسال مساعدات إنسانية إلى الشمال السوريّ، حيث تسيطر الجماعات المسلّحة، مؤشّراً على حذرٍ سعوديّ شديد من أيّ خطوة تقرّب الرياض من دمشق، فإنّ ما كان يجري خلف الكواليس في تلك المرحلة، كان يشير إلى أنّ المباحثات بين الطرفين قد بلغت مرحلة متقدّمة، خصوصاً أنّ مدير المخابرات العامة السورية، اللواء حسام لوقا، كان قد عاد للتوّ، قبل حدوث الزلزال مباشرةً، من زيارة للرياض، على متن طائرة سعودية خاصة، وسط معلومات عن إهداء السعودية لسوريا طائرتين مدنيتين.
والمعلومات الآن، أنّ اللواء لوقا قد قام بدور كبير على خطّ التقارب بين العاصمتين، حيث عاد لزيارة الرياض بعد أسابيع من قرار الأخيرة إرسال مساعدات إغاثية إلى مطار حلب، ومكث لعدة أيام في العاصمة السعودية، ليعود بتفاهمات واسعة مع المسؤولين السعوديين، تدخل في تفاصيل إعادة العلاقات الدبلوماسية، وضبط الحدود، ومواجهة تهريب المخدّرات بين دول الإقليم، والشروع في التقدّم على خطّ التعاون الاقتصادي بين البلدين.
لتتسرّب بعد ذلك مباشرة، معلومات عن قرب زيارة وزير الخارجية السعودي إلى دمشق، وهو الأمر لم يعلّق عليه الوزير فيصل بن فرحان لدى سؤاله عن الأمر في ميونيخ، لكنّ المعلومات تشير إلى أنّ تلك الزيارة قد تتزامن مع حدث إعادة فتح السفارتين، بعد عيد الفطر مباشرة.
من المؤكّد أنّ الاتّفاق السعوديّ–الإيراني الذي أخرجته بكّين، قد سرّع من وتيرة الحركة على مسار الرياض–دمشق، إذ تسعى الرياض نحو إرساء تفاهمات إقليمية شاملة تُنهي مرحلة من الصراع والتنافس السلبيّ في المنطقة، وهي ترى في ذلك مصلحة كبيرة لها، خصوصاً أنّ تفاهمات كهذه من المفترض أن تساهم في إنهاء الحرب في اليمن، التي تحوّلت إلى عبء كبير يُثقل كاهل الرياض.
ولا سيما أيضاً، أنّ المملكة تراقب عن كثب تقدّم النشاط الروسي – الصينيّ في الإقليم والعالم، وسعي الثنائي الدولي هذا، وقدرته، على تجاوز خطوات الولايات المتحدة الأميركية، العاجزة عن كبح جماح قطار التفاهمات التي تصبّ في مصلحة محور طهران–دمشق، الخارج بقوّة من حرب طويلة على الأرض السوريّة ليضع شروطه على الطاولة التركية.
فإذا كانت أنقرة ذاتها، العاصمة التي كان لها الدور الإقليميّ الأبرز في المشروع المعادي لسوريا، تسعى بقوة للتقارب مع دمشق، وتنسّق مع طهران وموسكو لأجل هذا، فمن غير المجدي أن تبقى الرياض في موقع المراقب، خصوصاً بعد أن التقطت أبو ظبي طرف اللحظة السياسية الدولية الراهنة، وانغمست في هذا النشاط السياسيّ بقوة، ولم تكن الرياض لتنتظر طويلاً قبل أن تُفعّل دورها في جميع هذه الملفات، وهو العنوان السعودي للمرحلة المقبلة بكل تأكيد.
وإذ تفيد المعلومات بأنّ أجندة الرئيس السوريّ بشار الأسد، ستكون مزدحمة هذه الفترة، فمن المُنتظر أنّ يشهد طريق دمشق–الرياض حدثاً كبيراً خلال شهر رمضان وصولاً إلى ما بعد عيد الفطر مباشرةً، يتجاوز موضوع زيارة وزير الخارجية السعوديّ وإعادة افتتاح السفارات بين البلدين.
ومن المُنتظر أيضاً، بحسب مراقبين سوريين، أن يُعزف النشيد الوطنيّ السوريّ قريباً في مطارات عواصم عربيّة عديدة، الأرجح أنّ بينها عمّان وبغداد والقاهرة والجزائر، إيذاناً بانتهاء مرحلة عصيبة من تاريخ المنطقة العربية، وبدء عودة سوريا إلى موقعها العربي والإقليميّ والدوليّ، الذي حازته وتحوزه الآن، بفضل تضحيات أبنائها وتحالفاتها الصحيحة، وإفشالها واحداً من أخطر المشاريع الاستعمارية التي استهدفتها واستهدفت القضية الفلسطينية والقضايا العربية العادلة وقوى المقاومة في المنطقة.
لكنْ، هل ستسمح واشنطن بحدوث كل هذا وهي تتفرّج؟ الجواب أتى في وقت متأخر من ليل هذا الخميس 23 آذار/مارس، حيث تعرّضت قاعدة لجيش الاحتلال الأميركي شرقيّ مدينة الحسكة، لهجوم شنّته طائرة مسيّرة من نوع “شاهد”، أدى إلى مقتل جندي أميركيّ وجرح 6، بحسب بيان وزارة الدفاع الأميركيّة، وذلك في ردّ فوريّ على عدوان إسرائيليّ–أميركيّ على دير الزور، استهدف موقعين لقوات المقاومة الحليفة للجيش العربي السوريّ.
وهذا الردّ الفوريّ القاتل بدوره، يؤشّر على بدء مرحلة جديدة من طريقة التعاطي بين قوى محور المقاومة وقوى الاحتلال في سوريا والمنطقة. وإنّ المعطيات على هذا الصعيد، تفيد بأن شهر رمضان المبارك سيكون ساخناً جدّاً على مستوى المواجهة العسكريّة، كما السياسيّة، ولا سيما في ظلّ التهديدات الإسرائيلية المتزايدة ضد إيران، وتصاعد الاعتداءات على الأراضي السورية، وتصعيد واشنطن لخطواتها المعادية في الميدان السوريّ لبثّ الفوضى وإفشال التفاهمات والتسويات الإقليمية.
ويمكن الحديث هنا عن وجود قرار اتّخذته قوى المقاومة في المنطقة (روسيا ليست بعيدة عنه) برفع وتيرة المواجهة ضد المحتلين الأميركي والإسرائيليّ، ووضع جميع الاحتمالات العسكرية على الطاولة. وثمّة إشارات قوية هنا، تفيد بأنّ التسويات والتفاهمات التي تشهدها المنطقة، قد لا تترسّخ إلّا بمعركةٍ أقرب ما تكون إلى الحرب الخاطفة، لكنها حرب “تكسير عظام” ستضع حدّاً للقوة الأميركية– الإسرائيلية في المنطقة. ولا سيما أنّ الصراع الأميركيّ الغربيّ– الروسيّ في أوكرانيا، والتفاهمات الصينية–الروسية–الإيرانية الأخيرة، ستلقي بظلالها القوية والمؤثّرة على هذه الميدان، كما عموم ساحات الصراع.
نحن إذاً، أمام تغيير إقليميّ وعالميّ جديد بكل المقاييس، بل على عتبة عالمٍ جديد سيُكرّس انتصار سوريا وحلفائها على مختلف الصّعد.
(سيرياهوم نيوز3-الميادين)