د. سلمان ريا
منذ أن تساءل الإنسان الأول: «كيف نحيا معاً دون أن يفترس بعضنا بعضاً؟» وُلدت الفكرة التي ستصبح لاحقاً جوهر الفلسفة السياسية — العقد الاجتماعي. فالمجتمعات لا تقوم على القوة وحدها، بل على المعنى المشترك الذي يربط الناس بمصيرٍ واحدٍ رغم اختلافاتهم. وحين تتآكل الثقة بين الحاكم والمحكوم، ويغدو القانون هشّاً، يُصاب الكيان الوطني بما يشبه فقدان الذاكرة: يعيش بلا بوصلة. عندها، لا يعود السؤال عن السلطة بل عن الشرعية والمعنى.
اليوم، وبعد أعوامٍ ثقيلة من الحرب والضياع الاقتصادي، ومع بروز مؤشرات رفع جزئي للعقوبات وانفتاحٍ دولي حذر، تبدو سورية أمام لحظة تأمل كبرى:
هل يمكن أن تتحوّل هذه الانفراجة إلى فرصة لصياغة عقد اجتماعي جديد يعيد ترتيب العلاقة بين المواطن والدولة على أسس الثقة والعدالة والمشاركة؟
العقد الاجتماعي المنشود ليس بياناً سياسياً ولا وثيقة دستورية جامدة، بل هو تفاهم وطني على كيفية إدارة التنوع. فسوريا بلد تعدّدي في جوهره، وبهذا التنوع تكمن قوته لا علّته. لكن هذه القوة لا تزدهر إلا عبر نظام لامركزي رشيد يوازن بين وحدة الدولة وخصوصية المكوّنات، بين المركز الذي يضع الاستراتيجية العامة، والأطراف التي تدير شؤونها وفق حاجاتها المحلية. اللامركزية هنا ليست تفكيكاً، بل ضمانةٌ ضد التفكك، لأنها تجعل المشاركة واقعاً يومياً لا شعاراً موسمياً.
فالدولة التي تريد الاستمرار في القرن الحادي والعشرين لا بد أن تُعيد تعريف سلطتها بوصفها خدمةً للمجتمع لا سيطرةً عليه. حين يشعر المواطن في الحسكة أو درعا أو اللاذقية أن صوته مسموع وأن قراراته المحلية تصنع فرقاً في حياته، حينذاك فقط يتجذّر الانتماء الوطني الحقيقي. هذه هي روح العقد الاجتماعي: أن تتحوّل الدولة من مركزٍ آمرٍ إلى شبكة من الثقة المتبادلة والمسؤولية المشتركة.
إن رفع العقوبات الاقتصادية لا ينبغي أن يُقرأ فقط بوصفه متنفساً للأسواق، بل كبادرة لمرحلة سياسية جديدة يمكن أن تُبنى على الانفتاح الداخلي قبل الخارجي. فالثقة لا تُفرض من الخارج، بل تُزرع في الداخل: في الإدارة النزيهة، في توزيع الموارد بشفافية، وفي إشراك الكفاءات من مختلف المناطق والانتماءات.
ولكي يتحوّل هذا الطموح إلى واقع، هناك ثلاثة مسارات متكاملة:
1. مصالحة وطنية حقيقية تُعيد بناء النسيج الاجتماعي على قاعدة العدالة لا النسيان.
2. إصلاح إداري لامركزي يمنح المحافظات صلاحيات اقتصادية وتنموية حقيقية تحت رقابة الدولة.
3. إعادة إعمار معنوية واقتصادية تبدأ من الإنسان قبل الحجر، وتربط المساعدات الدولية بمعايير الشفافية والمشاركة.
لقد تعلّم السوريون، بعد سنواتٍ من المعاناة، أن القوة بلا عدالة تُنبت خوفاً، وأن العدالة بلا قوة تظلّ حلماً. وحده العقد الاجتماعي المتوازن — الذي يزاوج بين المركزية في السيادة واللامركزية في الإدارة — يمكن أن يؤسس لدولة قادرة وعادلة في آنٍ واحد.
إنّ سورية اليوم لا تحتاج إلى إعادة ترميم الماضي، بل إلى تخطيط المستقبل. وإذا أُحسن استخدام اللحظة السياسية الراهنة، فإن اللامركزية ستصبح الجسر الذي يربط بين إرادة الدولة ووحدة المجتمع، وبين الكفاءة والشرعية. فحين يتوازن المركز والأطراف، تُولد الدولة الحديثة التي لا يخاف فيها المواطن من السلطة، ولا تخاف السلطة من المواطن.
إنّ العقد الاجتماعي ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية لدولة أنهكتها الحرب وتبحث عن معنى جديد للحياة المشتركة. والمستقبل، مهما تأخر، لن يُفتح إلا بمفتاحٍ اسمه: المشاركة، والمساءلة، والعدالة.
(أخبار سوريا الوطن-2)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
