عبدالله سليمان علي
فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على ثلاث فصائل واثنين من قادتها بسبب ضلوعهم في ارتكاب مجازر الساحل في آذار/ مارس الماضي. ولا تكمن أهمية هذا القرار في طبيعة العقوبات المفروضة أو فاعليتها بالنسبة للمعنيين بها، إذ قد تكون ذات طابع رمزي من هذه الناحية، بل في الرسائل السياسية الضمنية التي يسعى الاتحاد الأوروبي إلى إيصالها لجهات مختلفة، فضلاً عن انعكاسه المباشر على السرديات المتضاربة داخل المشهد السوري، والرغبة في الحفاظ على قدر من التوازن المبدئي.
وقد أتى قرار فرض العقوبات ضمن الإطار نفسه الذي قرر فيه الاتحاد الأوروبي رفع الجزء الأكبر من العقوبات الاقتصادية المفروضة خلال سنوات الأزمة على سوريا، بسبب النظام السابق.
توزيع المسؤوليات
يتقاطع القرار الأوروبي جزئياً في حيثياته مع السردية التي قدّمها الرئيس السوري الموقت أحمد الشرع، في مؤتمره الصحافي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الشهر الماضي، حين حمّل “فلول النظام”، أي عناصر محلية من بقايا الجيش السابق والمليشيات التابعة له، مسؤولية التحرك الأولي الذي فجّر أحداث الساحل.
غير أن الرد على هذا التحرك جاء من قبل فصائل تابعة للجيش الجديد، وهي التي وُجّهت إليها لاحقاً الاتهامات بارتكاب المجازر والانتهاكات التي أثارت ردود فعل دولية وأدت إلى إدراجها ضمن قائمة العقوبات، بحسب ما يقول لـ”النهار” الديبلوماسي السوري السابق بشار الحاج علي. ويضيف: “بهذا المعنى، فإن القرار الأوروبي لا يبرّئ طرفاً ولا يتبنّى سردية الشرع بالكامل، بل يعبّر عن موقف مزدوج: تحميل الطرف الذي بدأ بالتحرّك المسؤولية الأخلاقية، ومساءلة الطرف الذي ردّ بعنف مفرط عن نتائج ما ارتُكب”.
تأثير القرار على لجنة تقصّي الحقائق
وجاء قرار العقوبات الأوروبي قبل صدور تقرير لجنة تقصي الحقائق الخاصة في أحداث الساحل، التي تجري تحقيقاتها منذ أكثر من شهرين، وهو ما يطرح تساؤلات مشروعة بشأن احتمال تأثير القرار على عمل اللجنة ومقرراتها.
وفي هذا السياق، يرى الباحث في “مركز جسور للدراسات” وائل علوان أن القرار الأوروبي جاء استجابةً لضغوط مارستها منظمات مدنية على الحكومات الأوروبية لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات ومخالفي حقوق الإنسان في دول عدة، ومنها سوريا.
ويشدد علوان على أن العقوبات استهدفت فصائل بعينها دون أن تشمل وزارة الدفاع أو قياداتها، لذلك لا يُتوقع أن يؤثر القرار على عمل لجنة التحقيق، التي يُفترض أن تقدّم في نهاية أعمالها تقريراً قانونياً موضوعياً، بعيداً عن أيّ تأثير سياسي.
لكنه يشير، في المقابل، إلى أن للقرار انعكاساً مباشراً على القادة المعاقَبين، وعلى عملية اندماج الفصائل في وزارة الدفاع. فقد يُشكّل القرار عائقاً يحول دون تولّي هؤلاء القادة مناصب رفيعة في السلطة الجديدة مستقبلاً، كما قد يؤدي إلى تأخير عملية الاندماج الكامل لهذه الفصائل في المؤسسة الدفاعية.
بدوره، رأى الحاج علي، المنشق عن النظام السابق عام 2012، أن تأثير القرار على لجنة تقصي الحقائق يجب أن يُفهم في سياق عدم فرضه سردية بعينها، بل تقديمه معطيات تبيّن تعقيد المشهد، وتلزم اللجنة بالتعامل مع الوقائع بحذر واحتراف.
وأضاف أن القرار الأوروبي، رغم طابعه السياسي، يهيّئ مناخاً دولياً داعماً لعمل اللجنة، ويوفر لها أدوات ضغط تدفع الجهات المعنية نحو التعاون، من دون أن يحيد بها عن منهجية البحث القائم على الأدلة، لا على الانطباعات أو الاصطفافات السياسية.
عقوبات محمّلة برسائل سياسية
تكشف مجمل المعطيات السابقة عن توازن دقيق في مقاربة أوروبية تهدف إلى توجيه رسائل سياسية متعددة الأطراف، من دون الإخلال بالالتزامات الأخلاقية أو الانخراط في اعتراف كامل بالسلطة الجديدة.
وفي هذا السياق، يرى الحاج علي أن القرار الأوروبي يحمل بلا شك رسائل سياسية واضحة، وإن كانت مغلّفة بإجراءات قانونية:
الرسالة الأولى موجهة إلى السلطة الانتقالية، ومفادها أن أوروبا مستعدة للتفاعل، ولكن ضمن حدود لا تتجاوز منطق المشروطية والرقابة المستمرة.
والرسالة الثانية موجهة إلى واشنطن، للتأكيد أن أوروبا لن تترك الساحة السورية للمقاربات الأميركية الأحادية، بل هي شريك فاعل ومؤثر في رسم ملامح المرحلة المقبلة.
أما الرسالة الثالثة فموجهة إلى الداخل السوري، للتشديد على أن الدعم الخارجي لا يُعدّ اعترافاً ناجزاً، بل رهان على تحوّل سياسي حقيقي، وبذلك يوازن القرار بين تخفيف الضغط الاقتصادي وتثبيت المبدأ السياسي القائم على الانتقال والمساءلة.
ويضيف الحاج علي، المتخصص في التحليل والتخطيط الاستراتيجي، أن التزامن الواضح بين فرض عقوبات ورفع أخرى لا يبدو اعتباطياً، بل يمكن قراءته كجزء من سياسة مدروسة تهدف إلى إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع السلطة الجديدة من دون التخلي عن أدوات الضغط.
وبرأيه، فإن رفع العقوبات يتيح لأوروبا الإمساك بالعصا من المنتصف، إذ يُظهر انفتاحاً مشروطاً ويخلق حوافز تشجّع على سلوك سياسي مسؤول، بينما تفرض العقوبات الجديدة خطوطاً حمراء واضحة، لا سيّما في ما يخص الملف العسكري والانتهاكات الميدانية.
وينسجم هذا النهج مع المقاربة الأوروبية التقليدية في إدارة التدرّج الديبلوماسي، ويؤكد أن أي دعم سياسي أو اقتصادي مستقبلي سيظلّ مرتبطاً بسلوك الأطراف على الأرض، لا بتبدّل الأسماء أو رفع شعارات جديدة.
ويختم الحاج علي بالقول إن القرار الأوروبي الأخير لا يُعدّ اعترافاً بالوضع الجديد في سوريا، بل خطوة محسوبة لإدارة التغيير بشروط واضحة. إنه تذكير بأن ما بعد النظام لا يمكن أن يُبنى بأدوات النظام، وأن أي شرعية مستقبلية تمر حتماً عبر التزام حقيقي بالانتقال السياسي، لا عبر تغييرات شكلية أو تحالفات ظرفية.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار