كتب:ناظم عيد
تركت سنوات الانفتاح الاقتصادي الماضية خلفها صناعة وطنية هزيلة غير قادرة على المنافسة المتكافئة، وهذا ما جعل من سورية معبراً مريحاً للبضاعة الأجنبية، لأن تحرير الاقتصاد قبل تمكين الصناعة قد أضر بالمنتج الوطني، وأخرجه من سوقه الطبيعية، وميزان التبادل التجاري مع تركيا ومصر وغيرهما من الدول خير شاهد بالتأكيد.
فبضاعتهم غزت أسواقنا بزمن قياسي، ليبقى ميزاننا التجاري معهم خاسراً، ولكن، ولسخرية القدر، ما أتى بقرار حكومي في السابق، وأضر بالصناعة الوطنية، جاء اليوم بعقوبات اقتصادية خارجية، لتعطل كل شراكاتنا وانفتاحنا الاقتصادي السابق مع العديد من الكتل الاقتصادية، وهذا ليس بالأمر السلبي بالمطلق على الاقتصاد الوطني، إن تعاطينا معه وفق قناعات عميقة – غير سطحية – تتعلق بأسس إدارة الموارد..فـ”ربّ ضارة نافعة”، لأننا تركنا خلفنا موارد ومطارح إنتاج وطنية يجب إعادة الاعتبار لها.
بالفعل إذا ما أحسن السوريون استغلال العقوبات الحالية لتفعيل طاقاتهم وثرواتهم الداخلية، وبناء الهوية المتميزة والمنافسة لمنتجهم الوطني..سنكون أمام شأن آخر، مغاير لكل تفاصيل المشهد السوداوي القاتم، الذي يصوّره بعضهم للأفق الاقتصادي السوري في القادمات من الأيام..وأغلب الظن أنها مكنة الإحباط المعنوي المشغول عليها تقنياً وتكنيكياً بعناية فائقة، وبعضنا انجرّ وراءها بعفوية أو لهدف ما..لكن الحقيقة التي علينا الاعتراف بها، هي أن في سورية موارد هائلة تنتظر الإدارة الحاذقة لها، وبعدها سيكون هناك شأن آخر.
امتحان
فالعقوبات الاقتصادية بقدر ما هي مضرة بالاقتصاد، فإنها ستشكل فرصة مؤاتية لاستغلال طاقاتنا الاقتصادية الداخلية، لأننا أمام واقع اقتصادي جديد، سيفرض انسياباً محدوداً للسلع الأجنبية القادمة للسوق الداخلية كماً ونوعاً، وهذا سيضع على كاهل مطارح الإنتاج الوطنية أعباء تأمين حاجات السوق المحلية بالدرجة الأولى، وتحسين وتطوير إنتاجها لاختراق أسواق عالمية بالدرجة الثانية في المستقبل القريب، فالمنتج المنافس يخترق أية عقوبات مفروضة، بما أن الاستفادة الإيجابية من العقوبات الحالية أمر لا مفر منه، إذا ما أردنا بناء اقتصاد وطني متين انطلاقاً من إمكاناته الذاتية.
وكان الدكتور موسى الغرير الأستاذ في جامعة دمشق وفي تصريح إعلامي في بدايات إعلان العالم لحصاره لسورية، قد اعتبر أن “الجميع أمام امتحان، فالمنتجات السورية لم تعد أمام منافسة خارجية، ولذلك يجب إعادة النظر بطريقة وأسلوب الإنتاج الوطني، وتخفيض تكاليف الإنتاج، وتحسين نوعيته، والذي أصبح أمام تحدي تلبية متطلبات المجتمع السوري المتزايدة عليه، ولكن لا يمكن التعامل مع هذا الجانب بأحادية، وأول ما يجب أن نفكر به هو منع الاحتكار ومحاسبة المحتكرين، لأن الاحتكار ينمو في مثل هذه الأوساط، فكما يجب التأكيد على دعم الإنتاج المحلي، وتوفير متطلبات تطويره، فإنه يجب مراقبة الأسعار، للحد من الفساد سواء في المؤسسات العامة أم الخاصة”..أي هناك من تنبّه لضرورة استثمار الأزمة والحصار من أجل إعادة ترتيب ” البيت الاقتصادي الداخلي”..منذ بداية الحرب على سورية، ولم تكن الفكرة مجرد طرح ترفي غير قابل للتطبيق، بل الغريب أن عدم الاكتراث بها من قبل الحكومات المتوالية على المقصورة التنفيذية ” 4 حكومات”..
فرصة
الواقع أن دول عديدة سبقتنا إلى الوقوع في براثن حصار مشابه من دول العالم، ولكن تجارب بعضهم كانت نموذجاً يمكن الاستفادة منه، من التجربة الألمانية إلى الأخرى اليابانية إلى سلسلة تجارب تقدم نفسها بنفسها..فالاتحاد السوفييتي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى، والحصار الأوروبي الحديدي كان مفروضاً عليه، وكانت الغاية خنقه، ولكن، وبعد عشرين عاماً فقط انتقل الاتحاد السوفييتي من بلد زراعي إلى دولة صناعية يحسب حسابها، وكذلك هو حال النموذج الإيراني، الذي تجاوز العقوبات ببناء دولة صناعية، “فالضربة التي لا تقتلك تزيدك قوّة”، وهكذا كان حال هذين النموذجين مع العقوبات، فالفرصة الحالية مؤاتية بالتجربة لتحسين الصناعة والمنتج الوطني، رغم تعدد المشككين بالقدرة على الاستفادة من هذه الفرصة كثر، و ربما لهم أسبابهم ومبرراتهم في ادعائهم هذا، إلا أن كل التجارب وكذلك القراءة المتأنية لبنية الموارد ومقومات الاقتصاد السوري، تؤكّد أن هذه “العقوبات فرصة تاريخية أمام الصناعة السورية لإعادة ترتيب أولوياتها، وإن كان هناك بعض المتشائمين، فبعضهم قال: لا أتوقع استغلالاً أمثل لهذه الموارد، ولا أرى أية مؤشرات ايجابية على هذا الصعيد، فقط القطاع الخاص سيستفيد منها في زيادة أسعار منتجاته”..
إعادة اعتبار
صناعات وطنية بالجملة أخرجتها سنوات الانفتاح الاقتصادي، التي وضعتها في ظروف منافسة غير متكافئة مع منتج وافد إلى أسواقنا على صهوة الاتفاقيات الثنائية، ومعاهدات التبادل التجاري الحرة، لتحيل إنتاجنا الوطني إلى التقاعد المبكر، وهذا لم يكن من محض اختياره، بل أجبر على الاستسلام لهذا الواقع، فمن صناعة النسيح التي أغلقت 30% من ورشاتها ومصانعها الصغيرة في سنوات الانفتاح القليلة الماضية، لتخسر بسببها الأسواق الخارجية أيضاً، مروراً بصناعة الموبيليا التي يشتهر بها ريف دمشق، فبلدات عدة امتهنت العمل بها، إلا أن الاستيراد أغلق عشرات الورش في سقبا، وحمورية التي تعاني الإرهاب أيضاً في المرحلة الراهنة، وغيرها من البلدات السورية، التي غزاها المنتج التركي في عقر دارها، وصولاً للأدوات الكهربائية التي امتلأت أسواقنا بأنواعها من بلدان منشأ كثيرة، فقائمة صناعتنا المتضررة تقول، ونحن لسنا هنا بصدد البكاء على أطلال صناعتنا الوطنية، بل إننا المتأملون أن تعيد العقوبات الاقتصادية الحالية صناعاتنا الوطنية الناشئة إلى مكانها الطبيعي (السوق المحلي)، وإلى أسواقها التاريخية، التي حرمتها منها اتفاقيات التجارة الحرة، وقرارات الانفتاح الاقتصادي.
الحقيقة ما أوردناه ليس إبداعاً بل تشخيصاً للواقع، والتقاطاً لنقاط القوة المتعددة في الاقتصاد السوري، التي تجعل من المعيب أن يبقى أحد في هذا البلد يصرخ من العوز والفقر، و نحن على يقين من أن الصراخ الحالي ناتج عن خلل في إدارة الموارد، وبطالة وسائل الإنتاج، وفوات الفرص والمنفعة الهائل الذي تسبب به الارتباك في إدارة الموارد على المستويين الشخصي الفردي ولاسيما في الأرياف، كذلك على المستوى الممأسس.
لدينا الكثير مما يمكن أن نفعله، فسورية عصيّة على التجويع حتى لو أغلقوا عليها كل الحدود..نعم نتأزّم نتوجّع لكننا لن نجوع لأن لدينا ما نأكله من إنتاج بلدنا.
(سيرياهوم نيوز-الخبير السوري3-7-2020)