الرئيسية » تحت المجهر » العقوبات على المحكمة الجنائيّة الدوليّة: أميركا الملاذ الآمن لمجرمي الحرب في العالم

العقوبات على المحكمة الجنائيّة الدوليّة: أميركا الملاذ الآمن لمجرمي الحرب في العالم

مع توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأمر التنفيذي في الحادي عشر من شهر حزيران/ يونيو المنصرم، باتت الولايات المتحدة الأميركية ملاذاً آمناً لمجرمي الحرب ومرتكبي الانتهاكات الجسيمة لأعراف الحرب وقوانينها، ولم يكن هذا القرار مفاجئاً للمعنيين في المحكمة الجنائية الدولية، فالسوابق الأميركية في سياق التعاون مع طلبات المحكمة كانت تؤكد هذه النتيجة.ففي عام 2019 ألغت الولايات المتحدة تأشيرة دخول المدعية العامة للمحكمة الجنائية، فاتو بنسودا، انتقاماً منها، بعدما أذنت المحكمة بإجراء تحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل القوات المسلحة الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية وحركة «طالبان» في أفغانستان. وكان قد سبق ذلك صدور مواقف منددة ومهددة تجاه طاقم عمل المحكمة، حيث صرّح وزير الخارجية مايك بومبيو، قائلاً: «لن نقف مكتوفي الأيدي لأن محكمة هزلية تهدد مواطنينا»، في حين وجّه وزير الدفاع مارك إسبر حديثه إلى جنوده قائلاً: «لن تمثلوا أمام المحكمة الجنائية الدولية أبداً، ولن تخضعوا أبداً لأحكام الهيئات الدولية».

أوّلاً: في مضمون القرار
استند الرئيس ترامب في فرض العقوبات إلى صلاحياته بموجب الدستور وقانون السلطات الاقتصادية الدولية للطوارئ، وقانون الطوارئ الوطنية وقانون الهجرة والجنسية لعام 1952.
وجاء في مقدمة الأمر (القرار)، بما يشبه الأسباب الموجبة لإصداره، أن دافعه يتجلّى بتهديد الأمن القومي الأميركي. حيث ذكر القرار أن تأكيد ممثلي المحكمة الجنائية الدولية المتكرر لصلاحيتها القضائية على موظفي الولايات المتحدة وبعض حلفائها، بما فيها تحقيق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في الأعمال المرتكبة من قبل أفراد الجيش والمخابرات الحاليين والسابقين في أفغانستان، يهدّد بتعريض حكومة الولايات المتحدة ومسؤولين رسميين حلفاء لها. وهذه الإجراءات من جانب المحكمة تهدد بخرق سيادة الولايات المتحدة وإعاقة عمل الأمن القومي والسياسة الخارجية، وتشكل حالة الطوارئ الوطنية.
ويعلل القرار رفضه لاختصاص المحكمة بأن الولايات المتحدة ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، ولم تقبل قط اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على موظفيها، وأنه مخالف لقانون الخدمة الأميركية لعام 2002.
وبالتالي، فإن العقوبات ستفرض حال حصول محاولة من قبل المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق أو اعتقال أو احتجاز أو مقاضاة موظفي الولايات المتحدة أو موظفي دول حليفة لها ليست أطرافاً في نظام روما الأساسي دون موافقة من الولايات المتحدة.
ومن أبرز ما تضمّنه القرار الآتي ذكره:
– مصادرة جميع الممتلكات والمصالح المتعلقة بها الموجودة في الولايات المتحدة، والتي تدخل إليها، أو التي تكون أو أصبحت في ما بعد في حيازة أو سيطرة أي شخص في الولايات المتحدة، من الأشخاص الآتي ذكرهم، ولا يجوز نقلها أو دفعها أو تصديرها أو سحبها أو التعامل بها بأي شكل آخر من قبل أي شخص أجنبي يحدده وزير الخارجية، بالتشاور مع وزير الخزانة والمحامي العام:
– يكون قد انخرط بشكل مباشر في أي نشاط من جانب المحكمة الجنائية الدولية في ما خص التحقيق مع أيّ من موظفي الولايات المتحدة أو اعتقالهم أو احتجازهم أو مقاضاتهم دون موافقة الولايات المتحدة؛ ويسري ذلك على موظفي الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية، إذا تمّ ذلك دون موافقة الحكومة الأميركية.
– إذا قدّم المساعدة المادية أو غير المادية أو الدعم المادي أو التكنولوجي…
– أن تكون ممتلكاته مملوكة أو خاضعة لسيطرة أو تصرّف شخص يدّعي بأنه يعمل لمصلحة أيّ شخص جرت مصادرة ممتلكاته ومصالحه بموجب هذا الأمر.
– حظر التبرعات التي تتم بواسطته لمصلحة أيّ شخص صودرت ممتلكاته ومصالحه.
– تعليق دخول المهاجرين غير المقيدين إلى الولايات المتحدة بالنسبة إلى الأجانب وإلى أفراد الأسر المباشرين لهم، إذا ما قرّر وزير الخارجية أنهم يعملون لدى المحكمة الجنائية الدولية، أو يعملون كوكلاء لها.
ويطبّق هذا القرار على أي شخص معنوي أو طبيعي موجود على الإقليم الأميركي، كما أنه يمنح الحصانة لأفراد جيوش ومسؤولين في الدول الحليفة للولايات المتحدة أو أي شخص آخر يعمل لمصلحة دولة عضو في منظمة «حلف شمالي الأطلسي» («الناتو» وعددها 28 دولة) أو «حليف رئيسي من خارج الناتو».

ثانياً: في مخالفة القرار للقانون الجنائي الدولي
ينتهك هذا القرار، وبشكل فاضح، بعض المبادئ المستقرة في القانون الجنائي الدولي، يمكن ذكر أبرزها كالآتي:
(1) المبدأ الأوّل: مبدأ سلّم أو حاكم aut dedere aut judicare
يعود هذا المبدأ بجذوره التاريخية إلى الفقيه هوغو غروثيوس، الذي طرح مبدأ التسليم أو المعاقبة (aut dedere aut punire). ويؤدي هذا المبدأ دوراً محورياً في مكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم، ولا سيما في الجنايات ذات الأهمية الدولية. وبالمقابل ترتكز سياسة الولايات المتحدة على منح حصانة جنائية لأفراد جيشها أو مواطنيها من مرتكبي الجرائم الدولية وخاصة في قضايا التعذيب، كالتي شهدها العالم في سجنَي أبو غريب وغوانتانامو، وهذا ما يحتّم مسؤوليتها الدولية استناداً إلى اجتهاد محكمة العدل الدولية، حيث خلصت في قضية بلجيكا ضد السنغال (2012) إلى أن انتهاك التزام دولي بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب هو فعل غير مشروع يترتّب عليه مسؤولية الدولة. فالغرض من الالتزام بالتسليم أو المحاكمة هو منع الأشخاص الملاحقين من الإفلات من العقاب ومن حصولهم على ملاذ آمن. ويعود الالتزام بمبدأ «سلّم أو حاكم» بجذوره القانونية إلى أسس متعددة وذلك على النحو الآتي:
I. العرف الدولي في ما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، وبالإبادة الجماعية، وبالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وبجرائم الحرب.
II. القواعد الآمرة (Jus Cogens) عندما ينشأ الالتزام بالتسليم أو المحاكمة عن القواعد الآمرة للقانون الدولي العمومي.
وفي كلتا الحالتين، تكون الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها ملزمين بموجب التسليم أو المحاكمات الجدية غير الصورية، دون حاجة إلى وجود صك اتفاقي أو تعاهدي مع شخص من أشخاص القانون الدولي.
(2) المبدأ الثاني: مبدأ الولاية القضائية العالمية (Universal Jurisdiction)
ويعرّف هذا المبدأ بأنه: «الاختصاص الذي يمنح لكل قضاة العالم أهلية متابعة ومحاكمة مرتكبي الجرائم الأشد خطورة طبقاً لقوانينهم العقابية، بغضّ النظر عن مكان ارتكابها، وجنسية الأطراف، وبهذا يعدّ الاختصاص العالمي استثناءً على مبدأ إقليمية قانون العقوبات، وهو بمثابة آلية إجرائية لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية. كما يشكّل إحدى الأدوات الأساسية لضمان منع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني وقمعها، المكرّسة في اتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولاتها الإضافية لعام 1977، والمشمولة أيضاً بالقانون الدولي العرفي. وتتعدّد الأسس القانونية لهذا المبدأ، فمنها ما هو اتفاقي تعاهدي، كاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984، ومنها ما هو عرفي كتجريم الرق والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجرائم ضد السلام والتعذيب، وتجريم الفصل العنصري، والتي بمعظمها من القواعد الآمرة للقانون الدولي العمومي، فلا يجوز انتهاكها أو تقييدها تحت طائلة البطلان وفقاً للمادة 53 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات.

ثالثاً: في تعطيل دور مجلس الأمن
دخل نظام روما لعام 1998 حيّز النفاذ في 11 نيسان/ أبريل 2002، وفي الأول من تموز/ يوليو 2002 أصبح للمحكمة أهلية تامة لمحاكمة الأفراد المرتكبين لأشد الجرائم خطورة كما حددتها المادة 5 وهي جرائم الإبادة للجنس البشري، وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان.
ومن خلال تحليل هذه المواد، يتضح لنا أن قرار العقوبات الخاص بالمحكمة من شأنه أن يعطّل إعمال الفقرة 2 من المادة 13، والتي تنص على: «إذا أحال مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت…»، كما يقوّض صلاحيات المدعي العام للمحكمة في مباشرة التحقيق بجرائم دولية عملاً بنص المادة 13، الفقرة الثالثة معطوفة على المادة 15 منه ونصها «للمدعي العام أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل تحت اختصاص المحكمة».
وعليه، يتبيّن لنا خطورة تداعيات هذا القرار من خلال الاطلاع على مفاعيله الكارثية بحق الإنسانية، إذ يستفاد من ذلك أن الرئيس ترامب، بقراره هذا، قد عطّل إمكانية إعمال مبدأ الصلاحية العالمية للمحكمة أو أي دولة أخرى إذا رغبت في ملاحقة ومساءلة مرتكبي الجرائم الجسيمة المشمولة بالاختصاص النوعي للمحكمة. وهذا التعطيل يصبّ في مصلحة إباحة التجريم دون الخشية من العقاب، وبالتالي انتهاك لمبدأ المصلحة الدولية المشتركة المتمثلة بتعزيز الأمن الجماعي وهو من مقاصد ميثاق الأمم المتحدة.
ولا يخفى على أحد أن حلفاء الولايات المتحدة، كالسعودية والإمارات، متورّطون بجرائم حرب في اليمن، ويمكن مقاضاة الدول المتحالفة ضده عن جرائمهم وانتهاكاتهم الجسيمة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، بصرف النظر عن انضمامهم إليها، لأنها باتت بمعظمها أعرافاً دولية ملزمة ولا تحتاج إلى رضى الدول. كما أن الكيان الإسرائيلي متورط بجرائم حرب وإبادة في غزة، وبالتالي يمكن للسلطة الفلسطينية، وهي طرف في المحكمة الجنائية الدولية، مقاضاة العدو الإسرائيلي على جرائمه، وهي بالفعل بدأت بذلك.
* باحث قانوني

(سيرياهوم نيوز-الاخبار)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

رفض الابادة الصهيونية رغم الضغوط ومحاولات القمع: الجبهة الطلابية مستمرّة في جامعات أميركا

    رفض الابادة الصهيونية رغم الضغوط ومحاولات القمع: الجبهة الطلابية مستمرّة في جامعات أميركا   مدفوعة بمشاهد الموت والدمار الآتية من غزة والمنتشرة على ...