شاهر الشاهر
العقيدة الاستراتيجية اليابانية الجديدة ستؤمن نحو 315 مليار دولار خلال 5 أعوام، ستسعى من خلالها لتعزيز قدراتها الهجومية، عبر شراء 500 صاروخ توماهوك من الولايات المتحدة.
عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، اعتمدت اليابان دستور عام 1946، والذي فرضته عليها الولايات المتحدة الأميركية. والذي جاء الفصل الثاني منه، تحت عنوان “نبذ الحرب”. واشتمل هذا الفصل على المادة التاسعة، التي تنص على أن اليابان لن تمتلك قوة حربية هجومية في البحر أو الجو أو البر. كما تنص على أنه لا يحق لليابان إعلان حالة الحرب.
هذه المادة أسَّست ما يُعرف بـ “قوة الدفاع الذاتي” اليابانية، ومنعت اليابان من إرسال جيشها إلى الخارج من أجل المشاركة في أيّ أعمال قتالية، أو المشاركة في أيّ ترتيبات أمنية تخصّ المحافظة على الأمن الجماعي.
وعلى رغم تطور اليابان، اقتصادياً وتكنولوجياً، فإن المادة التاسعة بقيت عقدة تحاول الحكومات اليابانية التخلص منها، في الآونة الأخيرة.
ونتيجة لتوتر الأوضاع الإقليمية، أصبحت الحكومة اليابانية تواجه خلافات داخلية نتيجة تحفّظها بشأن المشاركة في الأعمال العسكرية، وخصوصاً أن الشعب الياباني ليس شعباً مسالماً، كما قد يبدو عليه. فاليابان كانت دولة قوية جداً ضربت بيرل هاربر في عام 1941 (وهو المقرّ الرئيس لأسطول الولايات المتحدة في المحيط الهادئ، ويقع جنوبيَّ جزيرة أواهو، التابعة لجزر هاواي).
وعندما استسلمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، استمرّ اليابانيون في القتال، إلى أن استسلم إمبراطورهم لأيزنهاور بعد إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما وناغازاكي.
وبناءً على ذلك، بنت اليابان سياساتها الدفاعية على 3 مبادئ، هي:
– حظر امتلاك الأسلحة النووية، كون اليابان أول دولة في العالم استُخدم ضدها هذا السلاح.
– حظر صادرات الأسلحة إلى الخارج، وهو ما يعني أن اليابان ستسخّر قدراتها العلمية والتكنولوجية لصناعة ما ينفع البشرية، بعيداً عن السلاح.
– الحدّ من الإنفاق الدفاعي، بحيث لا يتجاوز 1% من الناتج المحلي الإجمالي.
كل تلك الإجراءات لم تُنْهِ طموحات اليابان ذات التاريخ الإمبراطوري الكبير. فكون اليابان دولة مسالمة لا يعني أبداً أنها دولة ضعيفة. كما أن هدوء اليابانيين وابتساماتهم الدائمة وانحناءهم احتراماً للجميع، لم تُنهِ شراسة هذا الشعب عند الضرورة. كيف لا وقد استطاعوا، تاريخياً، احتلال أجزاء من الدولة الأكبر في العالم (الصين).
وانطلاقاً من الحكمة اليابانية القائلة: “إذا سقطتَ 7 مرات، فستقوم في الثامنة”، فإن اليابانيين لم ييأسوا أو يستكينوا، لكنهم أدركوا واستوعبوا جيداً سُنن الحياة، وأن القويّ اليوم لن يبقى هو المسيطر غداً، كما أن الضعيف اليوم لن يكون هناك ما يمنعه من امتلاك مقوّمات القوة إن استطاع أن يستوعب اللعبة الدولية القائمة، ورسم خطة استراتيجية واضحة، وسعى لتنفيذها بعيداً عن الخوض في أيّ انشغالات جانبية تمنعه من الوصول إلى هدفه الأسمى.
بعد قيام الحرب في أوكرانيا، وهي الحرب الأقسى في نتائجها الاقتصادية على العالم حتى اليوم، على رغم محدوديتها من الناحية الشكلية، ظهرت فكرة سيطرت على اليابانيين وزادت في مخاوفهم، وهي أن الحرب اليوم في أوكرانيا، وربما غداً ستكون في آسيا.
واليوم، تُجري اليابان مراجعة دفاعية، هي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، هدفها إزالة القيود التي وُضعت في وجه تقدمها وتطورها العسكريَّين، بحيث ستتمّ مضاعفة الإنفاق الدفاعي ليصبح 2%، لتصبح اليابان صاحبة ثالث أكبر ميزانية عسكرية في العالم، بعد الولايات المتحدة الأميركية والصين.
ترى اليابان أن أعداءها اليوم يمكن تحديدهم في 3 دول، هي: الصين وكوريا الشمالية وروسيا، وأن الصين وروسيا أصبحتا قوتين متمردتين لا يمكن وقف تمددهما. وبالتالي، لا بد من اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية نفسها.
فالصين، كان هناك عداء تاريخي بينها وبين اليابان، وهي اليوم دولة كبيرة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، من خلال شراكاتها الاقتصادية الكبيرة مع عدد من دول العالم، وامتلاكها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر مشروع اقتصادي في التاريخ (الحزام والطريق)، وقدراتها العسكرية الكبيرة والمتطورة، بصورة مذهلة… إلخ.
لقد ركزت العقيدة الاستراتيجية الجديدة على أن اليابان جزء من النظام الدولي، وستسعى للمحافظة على هذا النظام، والمحافظة على حرية الملاحة في المحيطين الهندي والهادئ، وعلى حرية الملاحة في المضائق الدولية، وهو ما يعني ضمنياً حتمية المواجهة مع الصين، بحيث ترى بكين أن مضيق تايوان هو جزء من المياه الإقليمية الصينية.
ولا تُخفي الصين أحقيتها في استعادة تايوان، بالقوة العسكرية إن لزم الأمر ذلك. وهو ما تخشاه اليابان. وهو شعور يبدو مبرَّراً من الناحية المنطقية، فمن يجاور عملاقاً فلن يعرف النوم بكل تأكيد. لذا، فإن الاستراتيجية اليابانية الجديدة تنطلق من فكرة، مفادها أن “اليابان سوف تتعرض لاعتداء من الصين خلال فترة لن تتجاوز 10 أعوام”.
كما تتحدث عن النظام الاقتصادي الدولي المفتوح، بمعنى أنه لا يحق لأيّ دولة أن تغلق حدودها أمام حرية التجارة الدولية، وهو ما يُقلق الصينيِّين ويذكّرهم بحرب الأفيون، التي تعرّضت لها بلادهم من جانب الجيش البريطاني، عندما قرر الصينيون إغلاق حدودهم حينها. فهي تعكس مخاوف من أن تقوم الصين بإغلاق سوقها الداخلية، ومنع بيع المواد الخام وتصديرها إلى الخارج.
وترى أن سعي الصين للريادة في مجال التكنولوجيا يشكّل “خطراً على الدول الديمقراطية”، ومنها اليابان. وبالتالي، يجب العمل على منعها من القيام بذلك. كما تتهم الصين “بسرقة التكنولوجيا المتطورة من الجامعات، وتوظيفها في الاستخدامات العسكرية”.
كما تسعى الصين للسيطرة على جزر سينكاكو (المتنازَع عليها بين البلدين)، وبحر الصين الجنوبي والشرقي.
وترى الاستراتيجية اليابانية الجديدة أن روسيا هي الدولة “الأكثر عدوانية”، فما فعلته في أوكرانيا يمكن أن يتكرر في آسيا، وخصوصاً في ظل وجود عدد من الجزر المتنازّع عليها بين البلدين.
وما يزيد في التوجّس الياباني من تعرض البلاد لهجمات روسية أو صينية، هو تزايُد حدة الصراع بين هذه الدول والولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً أن أقرب جيش أميركي إلى هذه الدول موجود في اليابان، حيث يوجد ما يزيد على 50 ألف عسكري أميركي فيها.
أمّا كوريا الشمالية، فهي الدولة المقلقة لجميع دول المنطقة، ولليابان على وجه التحديد، فتجاربها النووية لطالما أقلقت الشعب الياباني، وصواريخها أنزلتهم إلى الملاجئ مرات ليست بقليلة.
وما يزيد في مخاوف اليابانيين، ويُشعرهم بحالة من الانكشاف الاستراتيجي، هو أن الولايات المتحدة، منذ عهد الرئيس ترامب، انتهجت نهجاً استراتيجياً جديداً، يقوم على أنها لن تحمي أحداً في المستقبل. ومَن يُرِد الحماية الأميركية فعليه أن يتحمّل نفقاتها، وهو ما استوعبته اليابان وأوروبا، وبعض دول المنطقة.
إن العقيدة الاستراتيجية اليابانية الجديدة تتطابق، إلى حد بعيد، مع التوجهات الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يعني أن أعداء الأمس سيصبحون حلفاء الغد ربما، وإلى درجة كبيرة.
وإن كان هذا في السياسة أمراً وارداً، وليس غريباً مطلقاً، لكنه، شعبياً وفي أرض الواقع، قد لا يبدو مقبولاً جداً، وخصوصاً في ظل العداء التاريخي بين البلدين. فاليابانيون، والعالم كله، لم ينسوا أن الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي، فارتكبت أبشع المجازر ضد اليابان، متسببةً بحدوث تشوهات كبيرة لعدة أجيال من اليابانيين.
إن العقيدة الاستراتيجية اليابانية الجديدة ستؤمن نحو 315 مليار دولار خلال الأعوام الخمسة المقبلة، بارتفاع يبلغ نحو 60% عن الأعوام الخمسة الماضية.
من خلال هذه المبالغ، ستسعى اليابان لتعزيز قدراتها الهجومية، عبر شراء 500 صاروخ توماهوك من الولايات المتحدة، وهو ما يعزز تجارة بيع السلاح الأميركية، ويخفف أعباء الولايات المتحدة في المحافظة على الأمن والاستقرار في منطقة بحر الصين الجنوبي.
وبعد العقيدة الاستراتيجية اليابانية الجديدة، ستصبح اليابان دولة مقلقة للعالم كله، كما أنها يمكن أن تتحول إلى دولة هجومية إذا ما تعرضت لأي اعتداء، حتى لو كان صاروخياً فقط.
وذلك بأن اليابان تمتلك كل مقومات القوة العصرية (الصلبة، والناعمة، وحتى الذكية). فعلى الصعيد الاقتصادي، اليابان اليوم هي ثالث اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. كما أنها دولة واعدة علمياً وتقنياً، وخصوصاً أن المنتوجات اليابانية تحظى بسمعة واسعة على مستوى العالم (خلافاً للمنتوجات الصينية، التي، على الرغم من انتشارها الواسع، ورخص ثمنها، فإنها تسببت بفقدان الثقة لدى كثير من الشعوب بالمنتج الصيني، الذي بات يُنظَر إليه على أنه منتج رديء الجودة حكماً. وهذا غير صحيح طبعاً، من الناحية الواقعية، فالبضائع الصينية تراعي جميع الأذواق والقدرات الشرائية لدى الجمهور).
وعلى الصعيد العسكري، اليابان اليوم هي خامس قوة عسكرية في العالم، بعد: الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والهند.
والإنفاق العسكري الياباني هو سابع إنفاق عسكري في العالم، بعد: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وبريطانيا، وألمانيا، والهند.
وإن كان اليابانيون يردّدون دوماً مقولة: “لا أحد يستطيع أن يرى المستقبل”، إلّا أن العقيدة الاستراتيجية اليابانية الجديدة تعكس جملة واحدة، هي أن الحياد في المستقبل سيكون عنواناً للجبناء فقط، وهو أمر غير وارد مطلقاً، بالنسبة إلى اليابانيين، الذين لطالما أكدوا أن كون بلادهم دولة مسالمة، لا يعني أنها دولة ضعيفة أبداً.
سيرياهوم نيوز1-الميادين