الرئيسية » كتاب وآراء » العنف الديني

العنف الديني

| خريستو المر

لا يعكس تاريخ المسيحيّة تاريخاً من التسامح كما يتصوّرها الكثير من المسيحيّين، فتاريخها مليء بالاضطهاد والتنكيل، وإن كان يمكن العودة إلى تاريخ الحرب اللبنانيّة القريب لمعرفة ذلك، إلّا أنّ التاريخ الأقدم ليس بأفضل منه.

يخبرنا يوحنّا الذهبيّ الفم، أنه شهد في شبابه عن الخوف الذي اعتراه عندما وجد – بينما كان يمشي مع صديق له – كتاباً مُلقى في النهر، إذ حينما أمسكاه ليريا محتوياته ووجداه حول السحر كان أحد الجنود يمرّ بالقرب منهم؛ أصاب يوحنّا الشاب الرهاب خوفاً من اتّهامهما بممارسة السحر إن وجد الكتاب بحوزتهما ونتيجة ذلك القتل. لكنّ الذهبي الفم نفسه اشترك في اضطهاد الوثنيّين بعدما أضحى كاهناً حيث اعتبر أنّه من ضرورات إيمانه، كما يُخبر المؤرّخ تيودوريت، أن يرسل مجموعات متعصّبة من الرهبان ليحطّموا كلّ معبد وثني في فينيقية لأنّها معابد للشياطين كما تقول التهمة وقتها؛ و«هكذا»، بفضل حملة الذهبي الفم «تمّ تدمير كلّ ما تبقّى من معابد الشياطين» (كتاب عصر الظلمة – كاترين نيكسي).

وعدا العنف الدينيّ التوجّه، كان الدين وسيلة لدى كبار رجال الدين للإشراف على مجمل تفاصيل الحياة اليوميّة للمسيحيّين والتحكّم بها، من خلال الخوف والإرهاب. فالمرأة فخّ، والضحك غير مرغوب، والدعابة جذر للشرّ، وألعاب النرد مدخل للخطيئة، وارتياد المسرح (وكان للعري دورٌ فيها) كان فسقاً وفجوراً، ومن الفلسفة اليونانيّة ما كان فاسداً. ولهذا أقيمت محارق الكتب في مدن كأنطاكية، ومن شدّة الخوف أحرق بعض المثقّفين مكتباتهم، بل ويُحكى أنّ الخطيب ليبانيوس أحرق كتبه التي ألّفها. وفي مدينة أنطاكية اعتقل مسيحيّون المثقّفين الوثنيّين وعذبوهم، وأحرقوا فلاسفة أحياء، وقطعوا رؤوس البعض الآخر، كما تخبر نيكسي. بالطبع لا يختصر ذلك تاريخ المسيحيّة، وإنّما يقدّم وجهاً ضروريّاً لنا كي نفهم إمكانيّة نشوء العنف الدينيّ في ظلّ الآراء الدينيّة القاطعة التي لا تترك لغيرها مجالاً كي يكون، أي التي تستحوذ على سلطة تشريع وتحريم كامل النشاط البشريّ في تنويعاته.

أسباب هذا العنف متنوّعة وتتجاوز قدرتنا على الإحاطة بها؛ ولكن يمكن ملاحظة الرغبة بالسيطرة وتشكيل الدنيا بحسب الرأي الشخصيّ تحت ذريعة أنّه يمثّل رأي الله كسبب أساس. يجب ألّا يُستهان برغبة الإنسان بأن يشبه إلهاً يظنّه كلّي السيطرة، القياصرة الرومان أنفسهم بالآلهة، وإن كان هذا غير ممكن أمام رجال سياسة أو دين حاليّاً فيمكنهم أن يدّعوا معرفة وتمثيل إرادة الله. الأسباب الأخرى التي ترتبط بزمننا أيضاً هي استخدام العنف الدينيّ لتغطية فشل سياسيّ أو اقتصاديّ؛ فإلهاء الناس بقتل بعضها البعض ينفّس عن غضبهم من السياسيّين. وأخيراً، يمكننا ملاحظة الاضطهاد الجماعيّ كلون محدّد من العنف الدينيّ. فأمام الأحداث العاصفة والأزمات يمكن لمجموعة دينيّة (أو غير دينيّة) أن تدفن خوفها أو قلقها من الأزمات باضطهاد الآخرين، إذ ذلك يعطي شيئاً من الشعور الوهمي بالسيطرة على الأحداث والمصير. كما أنّ الاضطهاد يمكنه أن يكون وسيلة تقارب بين المتصارعين المتأزّمين في المجتمع الواحد، فلكي لا يفني المتصارعون بعضهم البعض، ولإيقاف التدمير المتبادل، يتمّ اتّفاق الأطراف المتصارعة على كبش محرقة واحد يتمّ اضطهاده، وباضطهاده يتمّ التقارب (وربّما المصالحة) بين الفريقين (يمكن العودة إلى تحليل رينيه جيرارد في كتابه «كبش المحرقة»). جيرارد يرى أيضاً أنّ مَن يشجّعون المضطهِدين، قد يندمون بعد اضطهاد كبش المحرقة وقتله، فيعلّون من شأن المُضطهَد بعد موته، واضعين إيّاه بمثابة الشهيد؛ فتكون بذلك دماء الشهيد الرابط الذي يجمع الكلّ بعدما كان الضدّ الذي يتحالف عليه المتأزّمون.

إنّ الأزمات في منطقتنا شقّان متداخلان: شقّ خارجيّ يتسبّب به الاستعمار، وشقّ داخليّ يتسبّب به المستغِلّون والديكتاتوريّون. وأمام أزمة غياب البحبوحة وغياب الحرّية، نمتهن في منطقتنا خلق كبش بعد كبشٍ لمحرقة التنفيسِ عن الأزمات، فنبقى حيث نحن عوض مواجهة الأسباب الموضوعيّة الخارجيّة والداخليّة لغياب احترام الكرامة البشريّة. الدين في هذا الميدان، أبسط وسيلة لحشد الناس في مجموعات متخاصمة تشابه بعضها البعض، وتأليبها لتضطهد مجموعة مهمّشة وكلّ أنواع «الغرباء» (الفلسطينيّون، السوريّون، المثليّون).
بالنسبة إلى المسيحيّين الذين يهلّلون للاضطهاد، ينبغي أن يتذكّروا أنّ الاضطهاد هو دائماً وأبداً في تضادّ كامل مع تعاليم وتصرّف يسوع المسيح. لقد بيّن يسوع بموته على الصليب وبتوحيده بين ذاته وبين كلّ مهمّش، أنّ أتْباعه ينبغي أن يروا وجهه في وجوه الضحايا البريئة، وبهذا المعنى فإنّ المسيح حاضرٌ في جميع الضحايا الأبرياء لأنّه أخذ مكانهم جميعاً، صار كلمتهم، صار وجههم، على الصليب. تصرّف الإنسان تجاه الضحايا و«الغرباء» هو ما يعكس حقيقة موقف الإنسان من يسوع ويجذّرها؛ أي هو ما يعلن اتّباع إنسان ليسوع أو مناهضته له. لكنّ المسيحيّين يمتهنون منذ البدء أساليب الغربة عن مسيحهم، حتّى ليكاد المتأمّل في أحوالهم يجزم بأنّهم إن رأوا يسوع نفسه اليوم سيضطهدونه حتماً، ويهلّلون «اصلبه، اصلبه». الإيمان يتطلّب الكثير من الانتباه واليقظة، في العقل كما في القلب، وليس من قبيل الصدفة أن يشدّد التراث الكنسيّ عليهما.

سيرياهوم نيوز3 – الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

غزة ما بين مأزق بايدن وهذيان نتنياهو

الدكتور خيام الزعبي اختياري لعنوان مقالتي هذه لم يأتي من فراغ وإنما جاء بعد نظرة شمولية لما لهذا الموضوع من أهمية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، ...