تُشكّل خطط شقّ الممرّات البرية والخطوط البحرية، إحدى أدوات الصراع الإقليمي والدولي؛ إذ ظهرت، في السنوات الأخيرة، العديد من المشاريع التي يمكن وضعها في إطار «حرب الممرّات»، أهمّها مبادرة «الحزام والطريق» الصينية – والتي هي عبارة عن طريق برّي يُفترض أن يمتدّ من الصين إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى وتركيا -، وآخرها خطّ الهند – الخليج – إسرائيل فأوروبا. وما بين هذا وذاك، خطوط اقتُرحت ولم تَجِد بعد طريقها إلى التنفيذ، مِن مِثل خطّ أنابيب «إيست ميد» للغاز والنفط من شرق المتوسط إلى قبرص واليونان وإيطاليا فأوروبا، والذي جُمّد في مطلع عام 2022، وكذلك الأمر بالنسبة إلى «طريق التنمية» الذي ينطلق من مدينة البصرة في الجنوب العراقي، ويبلغ طوله 1200 كيلومتر، على أن يُخصَّص لمرور البضائع من الخليج وإيران إلى تركيا فأوروبا وبالعكس، وتُقدّر كلفته بـ18 مليار دولار.
لكن الخطّ الذي اتُّفق على شقّه من جانب مجموعة من الدول المشاركة في «قمّة العشرين» التي انعقدت قبل أيام في نيودلهي الهندية، شكّل مفاجأة لكثيرين، وخصوصاً أن حجمه الكبير وطبيعة سيره والدول الموقّعة عليه، كان كلّه طيّ الكتمان. والأطراف الموقّعون على الوثيقة الإنشائية للخطّ الذي سيُعرف باسم «آيميك» (IMEC)، هم: الولايات المتحدة الأميركية، الهند، السعودية، الإمارات، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، الاتحاد الأوروبي، الأردن، إسرائيل، قبرص اليونانية واليونان. والمفارقة أن طرفين من الموقّعين _ وهما السعودية والإمارات _ انضمّا حديثاً إلى مجموعة «بريكس» التي عَقدت قمّتها في 22 آب الماضي، في البرازيل، فيما رأس المشروع، أي الهند، عضو رئيس في المجموعة إلى جانب الصين التي قيل إن الخطّ يستهدف أولاً وأخيراً دورها على مستوى العالم. وتُقدّر كلفة الممرّ الذي وَصفه الرئيس الأميركي، جو بايدن، بأنه «ممرّ اقتصادي تاريخي»، بحوالى 500 مليار دولار، وهو يلحظ خطّاً بحريّاً من الهند إلى الإمارات والسعودية، ومن هناك خطّ سكة حديد بدأ العمل فيه عام 2018 بكلفة 250 مليار دولار، وأنابيب نفط إلى الأردن فميناء حيفا، ومنه خطّ بحري إلى مدينة بيري اليونانية، ومنها برّاً إلى ألمانيا وأوروبا.

ومنذ لحظة الإعلان عنه، لاحظ الأتراك – والعالم أيضاً – أن الخطّ لا يمرّ في تركيا، بل ربّما يستبعدها عن قصد، وهو الأمر الذي دفع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى التعليق بالقول: «لا ممرّ من دون تركيا. إن الخطّ الأكثر ملاءمة للتجارة من الشرق إلى الغرب هو ذاك الذي يمرّ عبر تركيا»، مضيفاً أن بلاده تعمل بكلّ قوّة للبدء في إنشاء «طريق التنمية»، وأن رئيس دولة الإمارات، محمد بن زايد، يريد إنهاء كلّ الأمور التحضيرية خلال شهرَين على الأكثر، لأنه «مستعجل ومتحمّس جداً». وفي الإطار نفسه، احتلّ خبر إنشاء الممرّ الهندي العنوان الرئيس لصحيفة «قرار» المعارضة، التي عنونت: «لماذا تركيا غير موجودة؟»، لتخلص إلى أن هذا الممرّ هو «الردّ الغربي على مبادرة الحزام والطريق الصينية»، معتبرةً أن مشاركة السعودية والإمارات والأردن وإسرائيل، فيه، من شأنها أن «تعزّز الاندماج بين دول الشرق الأوسط».

من جهته، يقول الكاتب مراد يتكين إن استبعاد تركيا من «طريق البهارات» الجديد أثار قلقها، لأن «هذا الخطّ سيغيّر قواعد اللعبة». ويرى يتكين أن «الخطّ يهدف إلى استبعاد روسيا والصين وإيران عن التأثير في مسار الاقتصاد العالمي»، مضيفاً أن «استبعاد تركيا هذا، يشبه استبعادها من برنامج إنتاج طائرات إف – 35 المتطوّرة عقاباً لها على شراء منظومة إس – 400 من روسيا». كما يَعتبر أنه «كان بالإمكان أن يواصل الخطّ سيره من ميناء حيفا إلى ميناء مرسين التركي وبكلفة أقلّ بكثير من الخطّ الذي سيذهب من حيفا إلى اليونان»، متسائلاً عمّا إذا كان إردوغان قادراً على إقناع الموقّعين بضرورة شمول المشروع تركيا، أم أنه سيكتفي بالقول إنه «لا خطّ من دون تركيا؟»، منبّهاً إلى أن «الخطّ الهندي رسالة إلى آخرين، ومنهم تركيا، بأن عليهم أن يختاروا الغرب أو روسيا».

لم تقتصر الصدمة التي تلقّتها تركيا على مسألة الخطّ الهندي، بل إن اللقاء الذي جمع إردوغان إلى بايدن «على الواقف»، لم يكن مريحاً

وفي الاتجاه نفسه، يرى ندرت إرسانيل، في «يني شفق»، أن الممرّ الهندي «مليء بالفجوات، ومنها أنه يتنقّل على مسافة 8 آلاف كيلومتر بين الهند وبريطانيا، من الخطّ البحري إلى البري فالبحري فالبري، علماً أن الخطّ البحري موجود أساساً. فأيّ منطق يَحكم هذه الطلعات والنزلات؟». كذلك، يَلحظ إرسانيل مرور الخطّ بالعديد من الدول الشرق أوسطية غير المستقرّة أمنياً، ويتساءل: «هل تركيا قلقة من المشروع؟»، ليجيب: «بالطبع نعم». وإذ يشير إلى أن «طريق الحرير الصيني قطع شوطاً من خلال إنشاء تركيا بين ضفتَي البوسفور والدردنيل العديد من الجسور الضخمة والأنفاق الميسرة للنقل المتبادل، فيما دول أخرى تتحضّر لهذا الطريق»، فهو يورد التساؤلات التالية: «هل يمكن اعتبار استبعاد تركيا عن الممرّ الهندي فشلاً؟ وهل السبب خطأ في الحسابات الاستراتيجية؟ وماذا لو نُفّذ هذا المشروع بعد 15 سنة، فهل سنقول إن خطأ الخيارات هو السبب؟».

أمّا الباحث باريش آديبالي فيعتقد أن «خطّ الهند – أوروبا لن يرى النور، والرئيس الصيني لم يشارك في قمّة نيودلهي اعتراضاً على مشروع الخطّ الجديد». ويلفت إلى أن «مشاركة الهند في الخطّ كانت مفاجئة، على رغم أنها ليست غريبة، إذ إنها ترى في الخطّ الصيني – الباكستاني تهديداً لها، فردّت بالمشاركة في الخطّ الهندي الخليجي – الأوروبي». ويضيف أن «الدول سوف تكون مجبرة على الاختيار إمّا بين خطّ الحرير الصيني، أو خطّ الهند – أوروبا»، معتبراً أن «استبعاد تركيا التي تحاول أن تحلّ الأزمة الأوكرانية، عن الخطّ الهندي، أمر ملفت وغير مفهوم». ويعتقد الباحث خيري قوزان أوغلو، بدوره، أن بايدن «يسعى للتأكيد على زعامته العالمية والدور الرائد سياسياً وعسكرياً لحلف شمال الأطلسي، من أجل تطويق روسيا والصين وعزل المعسكر الأوراسي»، مستدركاً أن «مثل هذه الاستراتيجية لن يُكتب لها النجاح». وفي الإطار نفسه، تكتب صحيفة «بركون» التركية أنه «على الرغم من العلاقات الهندية – الإيرانية الجيدة، فإن الضغوط الأميركية والإسرائيلية والسعودية لعبت دوراً في استبعاد إيران من قائمة دول الخطّ الهندي».
وفي صحيفة “غازيتيه دوار”، يَعتبر فهمي طاشتكين أن الخاسرَين الكبيرَين من الخطّ الهندي، هما تركيا ومصر؛ “فتركيا كانت تمضي قدماً في إنجاز مشاريع مرتبطة بخطّ الحرير الصيني، وترى أنها استُبعدت عن الخطّ الهندي لأسباب لها علاقة بسياساتها الخارجية. أمّا مصر فقلقة من تأثير الممر على عائدات المرور في قناة السويس”. ويعتبر الكاتب أن لقاء إردوغان – السيسي على هامش “قمة العشرين”، والذي جاء في أعقاب الإعلان عن الممرّ الهندي، له “دلالاته”، ولكنه يتساءل: “ماذا لو وَجد المتنافسون حلّاً وسطاً على قاعدة رابح – رابح، وتحوّلت المعركة من صراع على الممرّات، إلى تقاطع الممرّات بحيث يغذّي الواحد منهما الآخر؟”. ويقرأ مصطفى قره علي أوغلو، بدوره، في صحيفة “قرار”، استبعاد تركيا عن المشروع، باعتباره “يعكس حقيقة أن السياسة الخارجية لا يمكن أن تكون دائماً نتاج السياسات المحلّية التي قد ترضي البعض. وننسى أن العالم هو نتاج التنافس بين القوى والدول. وقد وجدنا في مثال إخراج فرنسا من اتفاقات تسليح بقيمة 300 مليار دولار مع أستراليا لمصلحة الولايات المتحدة وبريطانيا، أن هاتَين الأخيرتَين كانتا مستعدّتَين لطعن الحليف الفرنسي عندما تطلّبت المصالح ذلك”. ويقول: “(إنّنا) في تركيا نظنّ أن أميركا وبريطانيا وفرنسا أعضاء في جمعية تجتمع يوميّاً للبحث في كيفية تقسيم تركيا، لنرى أن أميركا وبريطانيا طعنتا فرنسا بلا رحمة. ونحن في تركيا، يجب أن نستبعد من قاموسنا مصطلحات الغرف السوداء والقوى الخارجية والحسابات العميقة، وأن ننصرف إلى إجراء حسابات قائمة على المصالح والحقائق والديبلوماسية”.

ولم تقتصر الصدمة التي تلقّتها تركيا على مسألة الخطّ الهندي، بل إن اللقاء الذي جمع إردوغان إلى بايدن «على الواقف»، لم يكن مريحاً. إذ شدّد الرئيس الأميركي على أهمية إتمام عملية انضمام السويد إلى «الناتو»، ليثير انزعاج نظيره التركي، الذي راح يقول: «يقولون السويد ثمّ السويد، والموقف من بيع طائرات إف – 16 لا يزال مؤسفاً. يقولون هناك كونغرس، ونقول بدورنا، نحن عندنا برلمان ولينتظروا قراره في شأن السويد. وما لم يقل نعم، فلا أستطيع أنا أن أقول نعم».