- سعد الله مزرعاني
- السبت 18 كانون الأول 2021
شهد العالم، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته المباشرة (وليدة نتائج الحرب العالمية الثانية)، تحولات مهمة وخطيرة، ابتداءً من أوائل تسعينيات القرن الماضي. الولايات المتحدة، زعيمة الرأسمالية المعولمة وقوتها الأكثر نفوذاً في الحقول السياسية والاقتصادية والعسكرية…، سارعت إلى استثمار الانهيار السوفياتي عبر الحروب المباشرة في مرحلة أولى: «عاصفة الصحراء»، احتلال أفغانستان… «المحافظون الجدد» بالشراكة مع الرئيس بوش الابن، طوّروت استراتيجية هجومية صدرت، رسمياً، عن «البيت الأبيض» الأميركي عام 2002. هي تقوم خصوصاً، على وضع القوة العسكرية «غير القابلة للتحدي» في خدمة التوسع الاقتصادي، خصوصاً، وبوسائل الحرب «الاستباقية الوقائية» والتدخل والاحتلال… الشرق الأوسط كان حقل الاختبار الأساسي عبر مشروع «الشرق الأوسط الكبير»: بدءًا من غزو واحتلال العراق في ربيع عام 2003… الخطة الهجومية الأميركية شملت العالم. لم ينجُ من شظاياها، في مراحها الأولى، عبر التفرد والضغوط، وحتى الاحتقار، لا الحلفاء في «القارة العجوز» أوروبا، ولا الشركاء في المنظمات الأممية، أو في الاتفاقيات الدولية بشأن المناخ والتجارة الخارجية والاتفاقيات الأمنية الاستراتيجية…
في امتداد ذلك، وبسبب فشل التدخل العسكري، وبتراكم السياسات والتوجهات والتجارب، شمل الاهتمام الأميركي عملية التغيير نفسها عبر مقاربة جديدة. التغيير الذي كانت واشنطن تحاربه وتواجهه بالانقلابات العسكرية وسواها ( التشيلي نموذجاً…) باعتباره أداة منافسيها والمتضررين، خصوصاً ضمن معادلة صراع القطبين الاشتراكي والرأسمالي، بات له في مخططات واشنطن وظيفة مختلفة. هي وظيفة مكمّلة لفعل التوسع الأميركي العسكري والاقتصادي والأمني: أي لتسهيل مهمة واشنطن في السيطرة على العالم وفي إخضاعه لمصالحها ولنفوذها، وحتى لأسلوب أو نمط الحياة الأميركي نفسه! بذلك حلّت «الثورة المضادة» بديلاً من الثورة الطبيعية، وبات التغيير مجرد مراوحة في الأنظمة نفسها ودائماً لمصلحة واشنطن بالدرجة الأولى !!
انتصار الرأسمالية المعولمة بانهيار الاتحاد السوفياتي تُرجم، نظرياً، بمحاولة تصويره جذرياً وحاسماً: إنها «نهاية التاريخ» استنتج فوكوياما. هو «صراع الحضارات» لا صراع الطبقات، قرّر «برنار لوِيس»… إنه عصر تكريس انفراد أميركا بزعامة العالم، قال الإعلام الرأسمالي العالمي. أولى النتائج التي لا تزال تتداعى إلى اليوم، كان الهجوم المنظّم والشامل من قبل سلطات رأسمال على مكاسب حقّقتها حركة النضال النقابي والمطلبي للطبقة العمالية والفئات الشعبية الأخرى. أدار ممثلو الرأسمال الصراع بتعزيز القمع والعمل الدعائي والإعلامي، وبإدخال تغييرات، كلما دعت الحاجة، على أساليب الحكم وأداء السلطات والحكام حتى التابعين… خصوصاً عندما يتجاوز بعضهم إلى جموح سلطوي واستئثاري وتوريثي، مقرون بالضعف والعزلة والعجز عن القيام بالدور المطلوب…
في امتداد ذلك جرت محاصرة وشيطنة الأنظمة التي حافظت على تجاربها الاشتراكية أو تلك التي تبنّت توجهات اشتراكية في مراحل حديثة. في السياق اتُّخِذت أخطاء وسياسات أنظمة أخرى، متمردة (ولو جزئياً على السيد الأميركي)، ذريعة لفبركة الاتهامات الكاذبة بشأن خطرها على السلام العالمي (غزو العراق أخطر الأمثلة)…
مرة جديدة، وبعد حوالى عقد من الزمن على غزو أفغانستان والعراق، شهد الشرق الأوسط والمنطقة العربية منه خصوصاً، أحداثاً كبيرة حملت اسم «الربيع العربي». أساس ذلك «الربيع»، وخلافاً، لما يذهب إليه رأيٌ من أنه كلُّه مفتعل ومصطنع ومُدار من قبل الغرب الاستعماري، هو تناقضات اجتماعية وسياسية كبيرة مقرونة بفرز طبقي حادّ وإفقار فاضح لأوسع الفئات الشعبية، وبقمع وفساد واستئثار بالثروة وبالسلطة. إن مشاركة الملايين من شعوب تونس ومصر وليبيا وسواها، لم تكن بـ»كبسة زر» أميركية أو غربية. لكن، جرى، سريعاً، الانخراط فيها والسعي لتوجيهها، ثم التحكم فيها بالكامل، وخصوصاً لجهة نتائجها التي انتهت لمصلحة العسكر وفئات حليفة لواشنطن، وبالتالي جاهزة للتطبيع مع العدو الصهيوني. يستمر هذا الأمر إلى اليوم. نشهد ذلك في آخر تجارب التغيير في الجزائر والسودان. في السودان خصوصاً، كان الحل في الجيش السوداني الذي قدّم أوراق اعتماده، سريعاً، وبضغط من واشنطن، بمباشرة التطبيع مع تل أبيب عبر لقاء مبكّر مع رئيس وزراء العدو.
يعاني لبنان، منذ أكثر من سنتين، «حفلة» تدخل أميركية صاخبة في شأنه الداخلي، بما تخطّى كل الحدود. واشنطن كانت طرفاً أساسياً في تراكم وتفاقم أزمة منظومة المحاصصة والنهب. وهي أشرفت، عبر موظفين محليين كبار فضلاً عن مؤسسات مصرفية وسلطوية، على تعميق وتشجيع سياسات التبعية والريع والاستدانة والهدر والنهب والفساد. وها هي اليوم توظف طاقات هائلة سياسية ومالية وإعلامية وقضائية، غربية وعربية، من أجل فرض تغيير في لبنان، ليس ضد المسؤولين عن الأزمة من كبار المحاصصين والنهّابين ومستغلّي الطائفية والمذهبية، بل لتعطيل سلاح المقاومة خصوصاً ضد العدو الصهيوني الذي فشل عدوانه المشجّع والمدعوم من واشنطن عام 2006، في ضرب هذا السلاح وفي تصفية أصحابه.
واشنطن طرف مباشر ووقح ونشيط، الآن، في التحضير للانتخابات النيابية اللبنانية المتوقّعة في الربيع القادم. هي تدير خطة متكاملة، بمشاركة خليجية وأوروبية، من أجل كسب تلك الانتخابات مهما كلّف الأمر. في احتياطي الخطة الأميركية، في حال الفشل أو حتى في حال النجاح، استخدام أدوات، هي في صلب ترسانتها التقليدية، لتشويه حركات الاحتجاج أو لتوجيهها وفق المخطط الأميركي. وهي أدوات فتنة واحتراب وقمع وضغوط وحصار وعزل. يلعب الإعلام المأجور دوراً هائلاً في كل ذلك.
تقدم التجربة اللبنانية صيغاً جديدة أو مطوّرة للتدخل الأميركي. طبعاً، تستغل واشنطن أيضاً كل الثغرات والسلبيات والأخطاء، خصوصاً أن قوى التغيير التقليدية قد دخلت في مرحلة ركود طويل، كما هو الأمر، تقريباً، على المستوى العالمي.
لتأكيد الطابع الشامل للنهج الأميركي، لا بأس من أن نُنهي مقالَنا بهذا الخبر الذي نشرته جريدة «الشرق الأوسط» السعودية في عددها الرقم 15719 بتاريخ 11/12/2021: «أبلغ السفراء الأوروبيون رئيس الوزراء السوداني أن الدعم الاقتصادي والسياسي الذي يقدمه الغرب للسودان يستهدف تحقيق شعارات الثورة السودانية: (حرية وسلام وعدالة)! طبعاً السفير «فيلتمان» ( ما غيرو) مرّ من هناك، لكي ينصح بعدم استئثار «البرهان» بالسلطة، وبأن مشاركة الفريق المدني، ولو الشكلية، تستجيب للتقليد «الديموقراطي» الأميركي وللاستقرار في السودان!
* كاتب وسياسي لبناني
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)