| عبد المنعم علي عيسى
ظهرت بين ثنايا المرحلة الممتدة ما بين 24 شباط الماضي واليوم بوادر تشي بإمكان استعادة النسيج الغربي للحمته التي افتقدها على امتداد العقدين الفائتين، حتى إن مرحلة 2017- 2021 التي باتت ترمز إلى حالة سياسية يمكن تسميتها بـ«الترامبية» نسبة إلى نهج اتبعه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي ساس الولايات المتحدة في هذه الفترة آنفة الذكر، وهي تقوم في محورها الخارجي على تهميش الحلفاء ما وراء الأطلسي انطلاقاً من شعار عريض يقول بـ«أميركا أولاً»، بل وتهميش حلف شمال الأطلسي «الناتو» الذي شكل منذ تأسيسه الذراع الضاربة للولايات المتحدة والتي استطاعت من خلالها إرساء هيمنتها العالمية بشتى صنوفها.
لم تكن البوادر سابقة الذكر وليدة المرحلة الممتدة ما بين 24 شباط واليوم، فالرئيس جو بايدن كان قد وصل إلى البيت الأبيض في كانون الثاني من عام 2021 ببرنامج انتخابي يقوم في سياسته الخارجية على شعار «إعادة توحيد الغرب»، وبعيد وصوله ذاك راح يخطو باتجاه جعل ذلك الشعار واقعاً، ظهر ذلك في نوية «أوكوس» التي أسست لتحالف بريطاني – أميركي – أسترالي خرج إلى العلن شهر أيلول الماضي، ثم تلاه نوية «كواد» التي جمعت الولايات المتحدة مع كل من الهند وأستراليا واليابان، وكلا النويتين كانتا سابقتين للحدث الأوكراني الذي لم يكن إذا سبباً مباشراً في التفكير بنهج كهذا وإن كان قد ساعد كثيراً في إعطاء زخم كبير له، وهيأ أيضاً الأرضية المثلى لاندفاعه بالشكل الذي ظهر عليه مؤخراً، ما يمكن لمسه عبر العديد من المظاهر التي كان من أبرزها التوافقات الغربية السريعة في فرض 6 رزم من العقوبات على روسيا في مدة لا تزيد على الأشهر الثلاثة، مع وجود حالة من الاستعداد لفرض المزيد منها، وفي الآن ذاته التوافق التام على تقديم أقصى أنواع الدعم، العسكري والاقتصادي، لأوكرانيا حتى بات الفعل محل تنافس الجميع، ناهيك عن تنسيق الضغوط المطبقة على روسيا في المنظمات الدولية كافة بالتزامن مع ممارسة نظيرة لها تجاه دول لم تحسم قرارها بعد في الانشطار الدولي الحاصل على الضفاف الأوكرانية مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.
بشكل ما يمكن الجزم بأن سياقات الحرب الأوكرانية دفعت باتجاه جمع ما لم يكن ممكناً جمعه قبل حدوثها، فهي من جهة عززت الروابط على ضفتي الأطلسي التي كان قد أصابها الوهن، صحيح أن عملية ترميمها كانت قد بدأت مع مجيء جو بايدن للسلطة، لكن الوقت اللازم لنجاح العملية كان سيطول ويطول قبيل أن تقوم الحرب الأوكرانية بحرق المراحل، ومن جهة أخرى أبدت «الفرقة» الأوروبية ميلاً كبيراً لضبط إيقاعها تبعاً لحركات «المايسترو» الأميركي، ومن المؤكد أن الحالتين سابقتي الذكر سوف تشتدان كلما طال أمد الحرب، أو هي وجدت فرصة لتمددها، من دون أن يعني ذلك أن فعل التمدد هنا محصور بالمدى الذي تصل إليه فوهات المدافع، ففي الحروب الكبرى، كالحرب الأوكرانية، تصبح كل الأسلحة التي تملكها اليد قابلة للاستخدام، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن عدداً من التقارير الصادرة عن وكالات وازنة كانت تنبئ بأن العالم سيكون مطلع الخريف المقبل على موعد مع أزمة غذاء خانقة قد تتطور لتتحول إلى مجاعة تستحضر المناخات التي سادت مطلع القرن العشرين، وقادت بالضرورة إلى نشوب الحرب العالمية الأولى.
عندما اندلعت الحرب الأوكرانية أواخر شهر شباط المنصرم كانت تمثل خطوة أولى، في مسار الألف ميل، على طريق انهيار نظام القطب الأوحد الذي ساد العالم منذ عام 1991، وربما كان ذلك أمراً متاحاً قياساً للتوازنات الدولية التي كانت قائمة قبيل بدء الحرب، وقياساً أيضاً إلى التهتك الذي كان يعانيه نسيج الغرب بشقيه السياسي والعسكري، لكن ما جرى هو أن المشهد السابق كان قد شهد انقلاباً قبيل أن تتم تلك الحرب شهرها الأول، الأمر الذي يمكن لحظه عبر مؤشرات عديدة لكن أبرزها هو «انكفاء» الصين التي بدت وكأنها اختزنت حذر العالم كله، وقلقه أيضاً، تجاه حدث كان مقدراً له أن يؤدي إلى نسف ركائز الهيمنة الأميركية من جذورها، ومن أبرزها أيضاً هو النزعة الأوروبية التي تبلورت سريعاً في سياقات الحرب، ومن خلالها أبدت دول الاتحاد الأوروبي ميلاً نحو تأجيل فكرة «الاستقلال الإستراتيجي»، التي تنامت مؤخراً عند هؤلاء بفعل عوامل عدة من نوع التهميش الأميركي لمنظومة الاتحاد كتلة واحدة، ومنها أيضاً تراجع الثقة الغربية بالقيادة الأميركية للعالم، وربما كان خير مثال تتقاطع عنده كلتا الحالتين السابقتين هو الانسحاب الأميركي من أفغانستان صيف عام 2020، فهو من جهة جاء بقرار أميركي فردي من دون استشارة الحلفاء، ومن جهة أخرى كان قد جاء بعد سبعة أشهر على وصول رئيس قدم إلى السلطة تحت شعار «إعادة توحيد الغرب».
إذا ما استمرت عملية الاندماج الغربي على وتيرتها التي تسير عليها، فإنه من المؤكد أن تلك العملية سوف تقود تلقائياً إلى وأد جنين النظام الذي كانت تسعى قوى عديدة إليه منذ عام 2005 عندما عبر البيان التأسيسي لمنظمة «شنغهاي» الصادر خلال هذا العام الأخير عن سعيه لولادة عالم متعدد الأقطاب، ولسوف يكون البديل عن هذا الأخير نظاماً دولياً جديداً محوراه «العالم الغربي»، وبقية العالم «غير الغربي»، وهذا لا يعني بالتأكيد العودة إلى نظام ثنائي القطبية الذي كان سائداً زمن الحرب الباردة، لأن العالم «غير الغربي» لا يشكل نسيجاً متماثلاً في الرؤى والمصالح والأهداف، بعكس «العالم الغربي» الماضي في مساره نحو ترميم الشقوق الحاصلة على طرقاته، ناهيك عن أن الأول، أي العالم غير الغربي، لن يستطيع أن يكون نداً للثاني بكل المقاييس.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن