رولا عيسى:
بين زحمة الأزقة والأسواق الشعبية، لطالما كان فصل الصيف موسماً خاصاً لعائلات المدينة، إذ تنشغل فيه النساء بتحضير “المؤونة” الشتوية- تقليدٌ اجتماعي واقتصادي متجذر في الثقافة السورية، يتمثل بتجفيف وحفظ الخضار والفواكه تحسباً لشتاء طويل وصعب.
وهذا الموسم كسابقه من الأعوام مختلف عن استعدادات فصل المؤونة التقليدي للأسر السورية، إذ لم تعد “المؤونة” ممكنة كما كانت، فالأسعار التي وصلت إليها خضار المؤونة الأساسية كالبامية والملوخية والثوم تجاوزت حدود الاحتمال، لتتحول من عادة مألوفة إلى عبء اقتصادي كبير يصعب تحمله.
أسعار صادمة في الأسواق
تشهد أسواق دمشق، مثل سوق باب سريجة، والشيال، وساروجة، ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار خضار تُعد مكونات أساسية في المؤونة.
وفق جولة ميدانية لصحيفة الثورة، واستطلاع آراء عدد من الباعة والمواطنين، بلغ سعر كيلو البامية الطازجة 35 ألف ليرة سورية، في حين تجاوز سعر كيلو الملوخية اليابسة 60 ألف ليرة، وسجل الثوم ارتفاعاً حاداً إلى 25 ألف ليرة للكيلو الواحد.
يقول أبو مصطفى، أحد بائعي الخضار في سوق باب الجابية: إن الأسعار “مرتبطة بالعرض والطلب، ولكن أيضاً بتكاليف الزراعة والنقل.
المحروقات غالية، والأسمدة والأسواق شبه متوقفة عن البيع بكميات كبيرة”.
ويضيف: كنا نبيع في السابق صناديق كاملة من البامية لربات المنازل، اليوم تأتي السيدة وتطلب نصف كيلو، وتتردد قبل أن تشتري.
عوامل أدت إلى الغلاء
بحسب الخبيرة التنموية ميرنا السفكون، يعود الارتفاع الكبير في الأسعار إلى عدة عوامل متداخلة.
وتقول: إن تذبذب أسعار صرف الليرة السورية أمام الدولار، وارتفاع أسعار المحروقات، وتقلص المساحات المزروعة نتيجة نقص المياه واليد العاملة، كلها عوامل تسببت في رفع تكاليف الإنتاج الزراعي”.
وتتابع: إن “المؤونة كانت وسيلة فعالة لتوفير الغذاء بأسعار مقبولة خلال فصل الشتاء، لكنها اليوم لم تعد كذلك، إذ تحولت إلى رفاهية لا يستطيع أغلب السوريين تحملها، ومع انخفاض القدرة الشرائية وتآكل الأجور، أصبح شراء كيلو واحد من البامية يعادل نصف راتب يومي لعامل بسيط.
المواطن بين الحنين والواقع المر
أم فادي- ربة منزل من سكان حي الزاهرة، تحدثت عن الوضع الحالي وتقول: في السابق كنت أحضّر سنوياً نحو 20 كيلو من الملوخية اليابسة و10 كيلو من البامية، بالإضافة إلى الثوم والنعنع والملح والبرغل، وكلها نحتاجها في الطبخ الشتوي، أما اليوم، فحتى كيلو واحد من الملوخية أصبح عبئاً، اكتفيت بتخزين بضعة أكياس صغيرة للذكرى فقط.
أما خالد شاهر، موظف، فقد وصف الأسعار بأنها ضرب من الجنون، قائلاً: حين ترى كيلو الثوم بـ25 ألف ليرة، والبامية التي كانت من أرخص الخضار بـ35 ألفاً، تشعر أنها أصبحت من الرفاهيات، على الرغم من أنها الحد الأدنى من مقومات المعيشة.
إيهاب الدرويش، وهو بائع خضار في سوق الزبلطاني، قال: إن الأسعار ارتفعت بنسبة 70 بالمئة عن العام الماضي، موضحاً: “البامية قبل سنتين كانت بـ10 آلاف ليرة بالكيلو، واليوم بـ35 ألف، ولا نستغرب إذا ارتفعت أكثر مع استمرار الغلاء.
والناس تتفرج أكثر مما تشتري، وغالباً المؤونة اليوم للناس المقتدرين فقط وممن لديهم القدرة على تجميد بعض أنواع المؤونة التي تحتاج إلى ثلاجة.
تراجع في تحضير المؤونة
نعم لم تعد طقوس المؤونة، التي كانت تجتمع حولها العائلة، سيدة الموقف، فالمشهد الذي كنت تراه في شرفات البيوت من نساء ينظفن الملوخية أو يقطعن البامية أصبح نادراً جداً.
في بعض الأحياء، يُلاحظ أن المؤونة تحولت إلى مجرد كميات رمزية، أو تم الاستغناء عنها كلياً، خصوصاً لدى الأسر محدودة الدخل.
تقول ليلى سفر، أم لثلاثة أطفال: “كل ما وفرته من راتبي هذا الشهر لا يكفي لشراء عشرة كيلوغرامات من البامية، كنت أظن أن غلاء اللحوم هو المشكلة، لكننا اليوم وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها الثوم من الكماليات.
اختصاصية التغذية نهال منصور تُحذر من أن انعكاسات غياب المؤونة على النمط الغذائي للأسر السورية، فهي ليست فقط عادة اجتماعية، بل هي وسيلة غذائية صحية لتأمين الخضار خلال فصل الشتاء، وغيابها قد يؤدي إلى اعتماد الناس على المواد المعلبة أو النشويات بشكل مفرط، وهو ما يضر بالتوازن الغذائي، خصوصاً للأطفال وكبار السن”.
من جهتهم، يشير مزارعون في ريف دمشق إلى أن ارتفاع التكاليف الزراعية هو السبب الرئيسي وراء هذا الارتفاع.
فيقول أبو أحمد شاغوري: المازوت غير مدعوم، والأسمدة بأسعار خيالية، وأجور اليد العاملة ارتفعت بشكل كبير، كيف يمكن للفلاح أن يبيع البامية أو الثوم بسعر منخفض وهو بالكاد يغطي التكاليف؟.
لم يعد الحديث عن المؤونة مقتصراً على تحضيرها، بل أصبح شكوى اجتماعية جديدة تُضاف إلى قائمة الأزمات التي يعيشها السوريون يومياً.
أخبار سوريا الوطن١-الثورة