سعيد محمد
الروائية الهنديّة الأهم وأحد أبرز رموز الفكر والثقافة في العالم، تتعرض حالياً للملاحقة من قبل حكومة نيودلهي التي يهمين عليها الفاشيست الهندوس بسبب خطاب ألقته قبل 14 عاماً دافعت فيه ضمن مقاربة تاريخيّة عن حق كشمير بالاستقلال. الغرب المنافق يلتزم الصمت – باستثناء منح روي جائزة أدبيّة – كي لا يثير غضب حليفه المتقلب نيودلهي
لا يمكن للمرء إلا أن يتخيّل حجم ردّ فعل الغرب ومؤسّساته الثقافية الرسميّة ـــ وبالتبعيّة كتلة المثقفين العرب إيّاهم ـــ لو كانت أرونداتي روي (1961) كاتبة إيرانيّة أو فنزويلية أو كوريّة شماليّة وسلطات بلدها استدعتها للمحاكمة بسبب تعليقات ذات مضمون تاريخيّ أدلت بها قبل 14 عاماً. لكن روي هنديّة، والهند حليف كبير للغرب، وقوّة وازنة في آسيا في مواجهة الصين الصاعدة، واستعداء نظامها الفاشيستي دفاعاً عن كاتبة، قد يعني تحوّل هوى نيودلهي المنفعلة دائماً باتجاه موسكو. وهو أمر لا تطيقه واشنطن، أقله في خضم حربها الحالية ضد روسيا على الأرض الأوكرانيّة. كما أنّ روي ليست من نوع كتّاب الجنوب الذين يحبّهم الغرب، إذ إنها تتجرّأ على نقض السرديات الاستعماريّة ونكء التلفيق الذي قامت عليه دولة ما بعد الاستعمار، وتستمر في إزعاج الجميع عبر إشارتها المتكررة إلى العلاقة الآثمة بين رأس المال العالمي وهيمنة الفاشيست الهنود على الدولة، وتسليطها الضوء بشكل دوري على تحالفات نيودلهي ــ عسكريّاً وجيوسياسياً ـــ مع الدولة العبريّة والولايات المتحدة، واحتجاجها المستمر ضدّ التجارب النووية التي يجريها الجيش الهندي، وتحذيرها لمواطنيها من انزياح ما يسمّيه الغرب سخرية بأكبر ديموقراطيّة في العالم نحو العسكريتاريا الفاشية. إذن فليكن الصمت، أو ما يعادله، ذهباً. وكانت حكومة نيودلهي، قد أعطت الضوء الأخضر للسلطات القضائيّة بملاحقة روي في 14 حزيران (يونيو) الماضي، بسبب مضمون خطاب بشأن قضيّة كشمير ألقته الروائية الفائزة بجائزة «بوكر» العالمية في مؤتمر عقد في نيودلهي عام 2010. وسرعان ما صدرت ضدها لائحة دعوى تضمنت الاتهام بالتحريض على الفتنة والإخلال بالوئام الاجتماعي بموجب المادة 45 من قانون (منع) الأنشطة غير المشروعة، أي قانون مكافحة الإرهاب الهندي. وذكر نائب حاكم دلهي وعضو حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم فيناي كومار ساكسينا، في دعواه الكشميري شيخ شوكت حسين البالغ 70 عاماً بسبب تعليقات حول قضية كشمير أدلى بها في المؤتمر نفسه الذي تحدثت فيه روي. أما بقيّة المتحدثين، فلم يرد ذكرهم، وغالباً أنهم قُتلوا أو هم في السجن مسبقاً.
هذه الخطوة الأقرب إلى الهزل، التي كانت قد اقترحت للمرة الأولى في أيلول (سبتمبر) 2023، أتت بعد أيّام قليلة على التجديد للمرّة الثالثة لرئيس الوزراء ناريندرا مودي على رأس السلطة التنفيذية في الهند بعد الانتخابات العامة الأخيرة التي تراجع فيها التأييد الشعبي لحزب «بهاراتيا جاناتا» الهندوسي الحاكم بنسبة ملموسة (240 مقعداً في البرلمان مقابل 303 في الانتخابات السابقة)، ما استدعى دخوله في ائتلاف مع أحزاب أخرى كي يستمر في الحكم. ويقول مراقبون إنّ خطوة مودي باستهداف شخصيّة من وزن روي تبدو أقرب إلى محاولة استعراضيّة تؤكد عزم رئيس الوزراء وطغمته الفاشيستية الاستمرار في منهج شعبويتهم المتطرفة وإن ضمن حكومة ائتلافية.
وبالطبع، إن قضيّة روي ليست استثناء في سياق ممارسات حكومة مودي، إذ تتصرف نيودلهي مع معارضيها كأنّها تلّ أبيب أخرى تطارد الفلسطينيين، فيما يلتزم العالم صمته المريب، إن لم يثنِ على الممارسة الديموقراطيّة في البلاد. لكن روي شخصيّة ذات جمهور عالميّ، وكتاباتها تعد ضمن الأكثر مبيعاً حول العالم سواء في الرواية الأدبيّة أو النقد السياسي، وفي حوزتها قائمة طويلة من الجوائز الأدبيّة المرموقة. ولذلك إن استهدافها بالمحاكمة يتجاوز بكثير مسألة التعليقات بشأن كشمير، ويشير إلى توظيف مقصود داخلياً مستنداً إلى حصانة دولية يمنحها الغرب للأنظمة الحليفة في ما يتعلق بحقوق الإنسان كما هي حال إسرائيل والسعوديّة والإمارات وغيرها من الأنظمة الاستبدادية.
ليست من كتّاب الجنوب الذين يحبّهم الغرب، إذ إنها تتجرّأ على نقض السرديات الاستعماريّة
«جريمة» روي التي تحاكم عليها اليوم أنها قد شاركت عام 2010 في مؤتمر «الحريّة: الطريق الوحيد» الذي نظمته مجموعة محليّة تطلق على نفسها اسم لجنة إطلاق سراح السجناء السياسيين، كتدخل سياسي فكريّ، بعد أشهر من الاضطرابات العنيفة في كشمير خلال صيف عام 2010 كان قد أطلقها مقتل طالب أعزل على يد قوات الاحتلال الهندي في الولاية. وقد ألقت الروائية يومها كلمة أكدت فيها بلا لبس على «أنّ كشمير لم تكن أبداً جزءاً لا يتجزأ من الهند»، مضيفة أنّ نيودلهي اعترفت بذلك بنفسها عبر رفع القضية إلى الأمم المتحدة. في زمن تقسيم شبه القارة الهندية في آب (أغسطس) 1947، كانت كشمير بالفعل ولاية أميرية لم تقرر بعد الانضمام إلى الهند أو باكستان، قبل أن تشرع روي في توضيح كيف رسم البريطانيون خريطة الهند عام 1899، إذ تصبح تلك الدولة المستقلة قوةً استعماريةً بحد ذاتها تقمع عسكرياً كلّ شعب لم يرد الخضوع للمخطط البريطاني بتقسيم الأمة الهندية طائفيّاً: في مانيبور، وناجالاند، وميزورام، وكشمير، وتيلانجانا، والبنجاب، وحيدر أباد، وغوا، وجوناغاره. وعبّرت روي في خطابها عن اشمئزازها من تعامل الغرب مع الهند بوصفها ديموقراطيّة علمانية فيما نظامها مسؤول عن مقتل أكثر من 70 ألف مسلم في كشمير منذ 1990. طبعاً أثار الخطاب وقتها جدلاً، لكن موقع مؤلفة «إله الأشياء الصغيرة» (1997) كمعادية للقومية الفاشيستية الهندية أصبح مؤكداً.
استجابة الغرب اقتصرت حتى الآن على تجاهل المحاكمة من قبل وسائل الإعلام الجماهيري الرئيسية، مع تصوير المسألة عند ذكرها كاستثناء وتعدٍّ فريد على حريّة التعبير من قبل النظام الحليف في نيودلهي. وكان أقصى ما أقدمت عليه مؤسسة غربيّة منح روي جائزة أدبيّة من قبل جمعية خيرية بريطانية باسم الكاتب المسرحي هارولد بنتر. ما يدفع المرء للتساؤل عن المصير البشع والتجاهل المتعمد الذي سيلقاه المثقفون الأقل شهرةً المعارضون للنظام الفاشيستي ــ كشميريين كانوا أو هنوداً ــ أمثال خورام بارفيز، وشرجيل إمام وعمر خالد، ورونا ويلسون، وآرون فيريرا، وهاني بابو، وسوريندرا جادلينج، والصحافي عرفان مهراج والسجينات السياسيات الكشميريات آسيا أندرابي، وصوفي فهميدا، وناهدة نسرين، وعشرات غيرهن؟
الحرية لأرونداتي روي، ولكل سجناء الرأي الذين يقبعون في سجون الفاشيست الهنود.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية