د.محمد حبش
أنجزت سوريا استحقاقاً مهماً الأسبوع الماضي، تمثل بإصدار الإعلان الدستوري. وكما هو متوقع، فقد حافظ الإعلان الدستوري على السياق التاريخي للدساتير السورية، وتضمن إلغاء المحاكم الاستثنائية وإبطال ما صدر فيها من أحكام جائرة وظالمة ضد السوريين. ومع أن قضايا الإعلان الدستوري كثيرة، إلا أنني سأتوقف عند مادة الفقه الإسلامي ودين رئيس الدولة، وهي المادة التي تثير أصدقاءنا العلمانيين، ويعتبرونها خطوة نحو تحول سوريا إلى دولة متطرفة تحكم الحاضر بالماضي.
والغريب أن المادة بنصها موجودة في الدساتير السورية منذ سبعين عاماً، ولم تؤد إلى تحول سوريا إلى إمارة إسلامية يحكمها السلف. وأعتبرها سياقاً طبيعياً لبلد له هوية واضحة مستقرة منذ ألف وأربعمائة عام، تقوم على قيم الإسلام الكبرى في العدل والتشاركية والشورى.
أما الحديث عن دين الدولة، فيجب الإشارة إلى أنه من أصل 193 دولة مسجلة في الأمم المتحدة، تنص دساتير 106 دولة في العالم على صيغة تمجيدية لدين من الأديان، فيما تفصل 77 دولة الدين عن الدولة ولا تشير إليه بأي دور، فيما تنص 10 دول على موقف عدائي ضد الدين. وفي البلاد الإسلامية الـ 57، تتكرر هذه المادة بصيغ متقاربة، باستثناء ثلاث دول هي تركيا وأذربيجان وألبانيا.
وإن كنت شخصياً أفضل الصيغة المشهورة بأن “دين الدولة الإسلام”، على صيغة “دين رئيس الدولة الإسلام”، فالصيغة الأولى ترسم هوية البلد وتاريخه وقيمه، وهي محل احترام الجميع، وهي المادة الموجودة في دساتير الدول الإسلامية قاطبة، فيما تكرس الثانية نصاً تمييزياً، ليس له ضرورة ناجزة.
أما الحديث عن الفقه كمصدر رئيس للتشريع، فالحقيقة أن الفقه الإسلامي كلمة واسعة جداً، وهي لا تعني الكتاب والسنة فقط، بل تعني المصادر العشرة، وتضم كل ما اجتهده فقهاء الدولة عبر التاريخ، وصار جزءاً من منجم الفقه الإسلامي الغني. ومن يعرف هذا المنجم الغني يدرك أنه ما من حاجة مجتمعية حقيقية إلا وقد سبق لها فقيه، وقد يتطابق الفقه مع النص الديني وقد يتجاوزه، وهذا هو الحاصل في القوانين العربية في العقاب والمعاملات.
يوجد اليوم، كما أشرنا، 54 دولة إسلامية تعتبر الفقه الإسلامي مصدراً للتشريع، ومع ذلك فلم تلجأ أي دولة منها لتطبيق العقوبات الجسدية المعروفة من رجم وصلب وقطع. لقد تم تجاوز ذلك كله عبر اجتهادات محترمة للفقهاء المسلمين، وتم التحول إلى العقاب الإصلاحي. حتى في الدول التي اشتهرت بذلك قبل عقود، وهي السعودية وإيران وأفغانستان والسودان، فمن الواضح أن الأمر متوقف من الناحية العملية، وإن كان منصوصاً عليه في بعض قوانين تلك البلاد.
الفقه الإسلامي هو كل ما قدمه فقهاء الدولة عبر التاريخ الإسلامي من اجتهادات في القضاء والفتيا والإدارة. والفقهاء هنا هو اسم لكل من عمل في الحقل الحقوقي، سواء كان رجل دين أو رجل قانون، ويفترض أن يكون قد تخرج من كليات الحقوق المعتبرة، وأن يكون قد اطلع على الشريعة الإسلامية وعلى الفقه الحقوقي الدولي في البلاد العربية والأوروبية وتجارب الأمم الأخرى.
كل هذا التراث المتراكم لما أنجزه فقهاء الدولة الحقوقيون خلال العصور كلها، وخاصة خلال العصر الحديث بعد الاستقلال، كله يقال له الفقه الإسلامي. واختيار الأمة من هذا الفقه الإسلامي هو قضية ترتبط بعقل الفريق التشريعي وثقافته وشجاعته.
لقد قمت بتدريس قانون المعاملات المدنية في كلية القانون، وفاجأني أن هذا القانون الكبير (1528) الذي يسمى أبو القوانين، هو مستمد بالكامل من الفقه الإسلامي، وينص في مقدمته أن القانون بالكامل مقتبس من الفقه المالكي والحنفي، وأن القاضي ملزم أن يرجع إلى مذهب مالك وأبي حنيفة فيما سكت عنه القانون. والقانون ينظم كل علاقات الحقوق المدنية في الدولة، من بيع وشراء وشركات ومعاملات ووكالات وكفالات ورهن وحجر وتفليس. وبإمكاني أن أقول لك بكل ثقة إن كل ما تراه في الإمارات من نهضة وجسور وجامعات وأبراج ومصانع وشركات كله تم في إطار هذا القانون الإسلامي. والشركات العالمية التي دخلت السوق الاقتصادي، مثل تسلا وأمازون ومايكروسوفت وأبل وسامسونغ وغيرها، نظمت عقودها وشراكاتها وفق هذا القانون. وكل ما تتطلبه الفنادق والسياحة موجود في الفقه الإسلامي، ولم يشتك أحد أنه قانون متخلف أو رجعي. وبالمناسبة، فالقانون هنا هو نفسه في مصر وسوريا والأردن، وقد أسهم المرحوم عبد الرزاق السنهوري وفريقه الشرعي في إعداد هذه القوانين.
ليس الفقه الإسلامي هو النص الديني من قرآن وسنة، فهذا النص هو النص التأسيسي، وهو خطاب هدى وإرشاد فيه القصة والخبر والمثل. ولكن الفقه الإسلامي ابتكر في ظلاله مصادر أخرى عقلانية بالغة الأهمية، من استحسان واستصلاح واستصحاب وعرف وذرائع، وانطلق فيها على قاعدة “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، وهي قواعد العقل والحقوق التي تتبعها الأمم في سويسرا والسويد والدنمارك وكل دول العالم الحر. وليس الفقه الإسلامي ما كتبه الشافعي أو أحمد بن حنبل أو مالك، لقد كتبوا لزمانهم، ولكن الفقه الإسلامي هو ما كتبته كل اللجان التشريعية والاستشارية في البلاد العربية والإسلامية للدولة الحديثة، وهو في عرف الأمم الأخرى التراث الحقوقي للدولة، وهو في كل مكان في العالم جزء لا يتجزأ من التشريع.
لست قلقاً من النص على مرجعية الفقه الإسلامي، وأنا مطمئن إلى غنى الفقه وتسامحه ومرونته، وهو تراث يتطور كل يوم، ويضيف حلولاً جديدة لكل مشكلة. ربما ينشأ القلق من الفريق الذي سيختار من هذا الفقه الإسلامي، فالفقه الإسلامي منجم غزير، فيه التسامح وفيه التشدد، وفيه الرحمة وفيه البأس. وكلي أمل أن يعهد بهذه المهمة لأكثر رجال العلم والحقوق وعياً وخبرة وتجربة، وكل المؤشرات تدل أن البلاد ذاهبة إلى اختيار وسطي متسامح، يعترف بالحقوق ولا يضيق على الناس، وسيعتمد المنطق الحضاري في إدارة الدولة.
دعونا نتفاءل.
(اخبار سوريا الوطن 1-صفحة الكاتب)