أحمد مفيد
في كتاب «مَصْيَدة المكان»، الذي يُعدّ دراسة نقدية لحقل الفنون التشكيلية في الكيان العبري، يرى محمد جبالي أن الهدف من دراسة المشهد الفني الإسرائيلي ليس إظهار مدى «بشاعته»، بل استكشاف كيف يمكن للفن «الجميل» أن يكون جزءاً لا يتجزأ من بنية مجتمع استعماري استيطاني، لا سيّما عندما يُستخدم الفن المستند إلى نظريات ما بعد الاستعمار لتطبيع الواقع الاستعماري في فلسطين.
يقتصر دور الفن الإسرائيلي، في أحسن الأحوال، على إبداء «التعاطف» مع الفلسطيني. ومع بداية الفن المفاهيمي الإسرائيلي، بدأ الفنانون باكتشاف «الآخر» العربي خلال مدة خدمتهم العسكرية، أثناء العمليات في المدن والمخيمات الفلسطينية أو في الدول العربية المحتلة. وبهذا، كانوا يشاهدون الآخر، ويتفاعلون معه، ويوثّقونه، وهم جزء من «جيش» الاحتلال. وفي كثير من الأحيان، كانوا يقتلونه، ويسرقون بيته، ثمّ يبنون مكانه متحفاً أو معرضاً فنياً.
بعد مرور عام على حرب الإبادة، افتتح «متحف تل أبيب للفنون» ثلاثة معارض في ذكرى السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر). الأول للفنانة تال مازلياش، بعنوان «زخارف الحرب 23-24»، وهو سلسلة لوحات تُجسّد تجربتها في تلك المدة. أما الثاني، «73-23: صالون الفيديو بين حربين»، فهو مجموعة مختارة من 52 عمل فيديو تتناول حربَي تشرين الأوّل 1973 و2023، فيما حمل المعرض الثالث عنوان «لا أريد أن أنسى»، وضمّ أعمالاً لـ 25 فناناً إسرائيلياً أُنتِجَت استجابةً لأحداث 7 تشرين الأوّل.
المتحف، الذي تأسّس عام 1932 وشهد إعلان ديفيد بن غوريون قيام «دولة إسرائيل» في 14 أيار (مايو) 1948، تحوّلت ساحته الخارجية، بعد عملية «طوفان الأقصى»، إلى «ساحة الرهائن»، حيث تجتمع عائلات الأسرى الإسرائيليين وداعموهم في احتجاجات وأعمال فنية. يشهد هذا المتحف محاولات دائمة لإعادة إنتاج الجسد اليهودي كضحية أو «رهينة»، متجاهلاً تماماً الدمار والإبادة التي تتعرّض لها غزة، وناسها، وتراثها الثقافي والفني والإنساني. ويركّز المتحف على «المخطوفين» الإسرائيليين بوصفهم ضحايا في اللامكان، بمعزل عن الحاصل في قطاع غزة، في خطاب يُكرّس العنصرية واللاإنسانية، ويتجاهل حقيقة أنّ أكبر تهديد للأسرى الإسرائيليين هو «الجيش» والقيادة الصهيونية نفسها، التي اتخذت القرار بقتلهم مع قرارها بشن الإبادة على القطاع.
يركّز المتحف على «المخطوفين» الإسرائيليين بوصفهم
ضحايا في اللامكان
بعد مرور شهرين على السابع من تشرين الأوّل، بدأت تال مازلياش العمل على لوحاتها، مستخدمة أسلوباً مزدحماً بالألوان والنصوص والرموز، لتصوّر تجربتها عندما حوصرت لعشرين ساعة في منزلها في كيبوتس كفار عزة (مستوطنة مقامة على أنقاض حي التركمان التابع لمدينة غزة) خلال عملية «طوفان الأقصى». تتكوّن أعمالها من ضربات فرشاة قصيرة وإيقاعات متكررة بألوان الأكريليك على القماش بمقاسات صغيرة، وتدمج كلمات مثل «أنقذوني»، «إنهم يحيطون بي من كل جانب»، «لكنني خرجت على قيد الحياة»، و«لقد وصلوا»، في محاولة لتكرار تجربتها الصادمة.
نشأت الفنانة في كفار عزة، وكان فنّها يحمل دائماً مضامين سياسية، لكن في عملها «زخارف الحرب»، تنعكس علاقتها المرتبكة مع المكان، حيث رأت نفسها ضحية فلسطيني حاصرها في منزلها المبني على أرضه المسروقة، فعبّرت عن صدمتها الوجودية بعلاقة جمالية تجسّد فيها نفسها كضحية مستسلمة للحدث، تنتظر «الجيش» الصهيوني لإنقاذها.
بين 6 تشرين الأوّل 1973 و7 تشرين الأوّل 2023، يُربط فشلٌ بآخر، عبر مشروع يضمّ 52 عمل فيديو أُنتِجت بين الحربين وأثناءهما وفي ظلهما. يصف نص المعرض التجربة بأنها «تفسح المجال للغضب، وخيبة الأمل، والدهشة، والإحباط، ولكنها تترك أيضاً مجالاً للضوء والأمل».
من بين هذه الأعمال، «كل هذا الخير» (2024، 11 دقيقة)، للإسرائيلي أوهاد ميلستين، الذي يبدأ بلقطات للحقول المهجورة في المستوطنات المحيطة بغزة، على خلفية صوت نتنياهو في أحد خطاباته الأولى بعد اندلاع الحرب، حيث يرمز غيابه الجسدي عن الشاشة إلى غيابه عن الواقع نفسه.
أما «يوميات» لديفيد بيرلوف (1973-1983، 9:58 دقيقة)، فهو من أبرز الأعمال في السينما الإسرائيلية، حيث يبدأ بسرد يومي لحياته قبل أن ينهار روتينه مع اندلاع حرب 1973. في المقابل، يقدّم «07102023» لموشيه تاركا (2023، 1:25 دقيقة)، مشهداً ليد ترسم العلم الإسرائيلي بشكل متكرر، في محاولة فاشلة لإعادة تشكيل رمزية الدولة في ظلّ التحديات الأخيرة. وفي فيديو بلا عنوان (2009، 4 دقائق)، يظهر الفنان الفلسطيني رأفت خطاب وهو يعتني بشجرة زيتون، قبل أن تكشف الكاميرا أنّ الشجرة مزروعة وسط ساحة رابين في تل أبيب، في رمزٍ لعزلة الهوية الفلسطينية داخل المجتمع الإسرائيلي. وتشكّل هذه المشاركة التطبيعية للفنان الفلسطيني أوضح مثال لرؤية الحقل الفني الإسرائيلي للفلسطيني بينهم.
منذ بداية عام 2024، بدأ «متحف تل أبيب» بجمع أعمال معرض «لا أريد أن أنسى»، المُستلهم من عمل للفنان نير هود، والذي يضمّ أعمالاً لـ 25 فناناً باستخدام الرسم، والنحت، والتصوير، والفيديو، والطباعة، والتركيب، ليستعرض مشاعر المستعمرين تجاه عمليّة «طوفان الأقصى». ومن بين المشاركين، الفنانة الصهيونية أوسنات بن دوف، التي سبق أن عرضت أعمالها في غاليري «بئيري»، الذي أُحرِق خلال عملية السابع من تشرين الأوّل. تأسس الغاليري عام 1986 على أراضي عشيرة وحيدات الترابين في شمال غرب بئر السبع، وتحوّل إلى رمز للبكاء الإسرائيلي بعد تدميره، رغم اعتراف «جيش» الاحتلال بفشله الذريع في حماية مستوطنة بئيري خلال العملية، واضطراره إلى استخدام سلاح الجو والمدفعية في مواجهة المقاومة الفلسطينية.
لكن حرق غاليري «بئيري» لا يُقارن بحجم الإبادة التي تعرّضت لها غزة، ففي مقابلة مع شريف سرحان، مدير محترف «شبابيك للفن المعاصر» في غزة، أكّد أن قصف المركز أدى إلى فقدان أرشيف يضمّ 14,000 لوحة فنية. وهذا واحد من مئات المراكز، والمؤسسات، والجامعات التي دُمّرت بالكامل.
في 19 تشرين الثاني (نوفمبر)، استضاف الكنيست الصهيوني معرض «مناظر ليلية» لماتان ساكوفسكي (28 عاماً). ماتان هو مجرم حرب قاتل كقائد دبابة في بئيري، وكفار عزة، وشارك في الغزو البري على قطاع غزة وبقي هناك لمدة 230 يوماً برفقة شقيقه وصهره الذين كانوا في وحدة الجنود المظليين. يقدم نفسه كفنان موهوب في رسم المناظر الطبيعية.
وأقسى ما في وصف المعرض والدعاية المرافقة له أنه يتحدث عن الحرب كتجربة خاضها الفنان كجندي، هذه الحرب التي قتلت أكثر من خمسين ألف فلسطيني ودمرت قطاع غزة وأبادت شماله، وجرحت مئات الآلاف، ودمرت المواقع الأثرية، وعشرات الأرشيفات، والمتاحف، والمعارض، وقتلت الفنانين، والكُتّاب، والموسيقيين، والشعراء، والناشطين الفلسطينيين، أمثال فتحي غبن، وهبة زقوت، ومحمد سامي، وشهد نافذ، وحليمة الكحلوت، ومحاسن الخطيب. قد يكون بعضهم قد قتلوا على يد ماتان أو غيره من الفنانين الصهاينة الذين يعيشون الحرب كتجربة والإبادة كعمل فني.
أخبار سوريا الوطن١ الاخبار