آخر الأخبار
الرئيسية » تربية أخلاقية وأفعال خيرية » الفِرقةُ النَّاجيةُ وشهوةُ الدَّم

الفِرقةُ النَّاجيةُ وشهوةُ الدَّم

د. مُحمَّد الحوراني

يبدو أنَّ حالَ الانغلاقِ العقليِّ والتطرُّف الدِّينيّ والمذهبيّ وانتشار الخُبثِ الطائفيّ الذي ضربَ، ولا يزالُ، أرجاءً واسعةً من بِقاعِ العالم، وذهبَ بأرواح بريئة لا علاقةَ لها بالأوثان المُتحكِّمة برُؤوسِ القَتَلةِ والمُمْسِكةِ برقابِهم، لا تزالُ تأسِرُ دمويّةَ أفكارِهم، مُحْكِمَةً الخِناقَ على عقولهم السجينةِ وراءَ زيفِ المئات من النُّصوصِ المُدنَّسة وفتاوى الضّلالِ والتكفير من أدعياء لا همَّ لهم سوى غسلِ لحاهم بدِماءِ شُرَكائِهم في الإنسانيّة، بعدَ نجاحِهم في لَيِّ أعناقِ النُّصوصِ لتتحوّلَ حِبالاً يُشْنَقُ بها كلُّ مُخالِفٍ في العقيدة والرأي، بعدَ أنَّ نصَّبَ هؤلاءِ أنْفُسَهم حُكّاماً بأمرِ خالقِهم الذي أرادُوهُ قاتلاً وبعيداً عن الرحمة والعدالة السّماوية، ولهذا آثرَ هؤلاءِ تَرْكَ الفضائلِ والخيراتِ، وجَرَوا لاهثِينَ من أجل قطعِ الرُّؤوسِ وتفجيرِ ينابيعِ الدَّمِ من رُؤوسِ مُخالفِيهمْ في الفِكْرِ والطائفةِ والمذهب، مُعتمِدينَ في هذا على نصوصٍ مُزيَّفةٍ أرادُوا بها تبريرَ جرائمهم وما يَقُومُونَ به من أعمالٍ تُناقِضُ سُمُوَّ رسالةِ الإسلام ورحمته.

ولعلَّ من أخطر ما يَتناقَلُهُ هؤلاءِ الجَهَلةُ وما يَرْتَكِزُونَ عليهِ حديثَ الفِرقةِ الناجية، وبغَضِّ النَّظَرِ عن صحّةِ الحديث من عَدَمِها، فإنَّ هذه التأويلاتِ الضَّلاليّةِ والدَّمَويّةِ لهُ ولغيرِهِ من النُّصوصِ الشقيقة في التكفيرِ والتفسيق جَعَلَتِ الناسَ يندفِعُونَ في موجاتٍ من العُنْفِ والقتل، بل إنَّ أبناءَ الفِرقَةِ التي يُفترَضُ أن تكونَ النَّاجيةَ وَفْقَ ضلالاتِ التأويلِ النَّصّيِّ الباطل، راحُوا يَشْحَذُونَ سكاكينَهُم ومُداهُمْ من أجلِ جَزِّ رُؤوسِ أبناءِ اثنتَينِ وسبعينَ ملّةً، مُحاوِلينَ التعجيلَ بإدْخالِهُمُ النَّارَ من أجل الحصولِ على الثَّوابِ نتيجةَ فِعْلِهم الدَّمويّ: “تفترقُ أمّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً، ملّةً، كُلُّها في النّار إلّا واحدة، قالوا: مَنْ هي يا رسولَ الله؟ قالَ: مَنْ هيَ على ما أنا عليهِ وأصحابي”.

ونَسِيَ هؤلاءِ، وتَناسَوا تعاليمَ النّبيِّ مُحمَّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ووصاياهُ لأصحابِه بضَرُورَةِ الحِفاظ على حُرْمَةِ الإنسان وتقديس حياتِه، ومنها حديثُ أسامةَ بنِ زيدٍ رضيَ اللهُ عنهُ، الذي تَتجاهَلُهُ غالبيّةُ الحَرَكات التي تدّعي الحِرْصَ على تطبيقِ تعاليم الإسلام بالإجهازِ على المُخالفينَ لهم في الفِكْرِ، حتّى وإنْ تَشهّدُوا، وصاموا، وصَلَّوا، وحجّوا، وطبّقُوا تعاليمَ الإسلام كاملةً.

“عن أُسامةَ بنِ زَيْدٍ رضيَ اللهُ عنهما قَالَ: بعثَنَا رسولُ اللهِ ﷺ إلى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنا القَوْمَ على مِياهِهمْ، ولَحِقْتُ أنا ورَجُلٌ مِنَ الأَنْصارِ رَجُلًا مِنهُمْ، فلَمَّا غَشيناهُ قَالَ: لا إِلهَ إلَّا الله، فكَفَّ عَنْهُ الأنصارِيُّ، وطَعَنْتُهُ برُمْحي، حتَّى قَتَلْتُهُ، فلَمَّا قَدِمْنَا المدينَةَ بلَغَ ذلكَ النَّبيَّ ﷺ، فقَالَ لي: يا أُسامةُ! أقَتَلْتَهُ بَعْدَما قَالَ: لا إلهَ إلَّا الله؟! قلتُ: يا رسولَ اللَّه إنَّما كانَ مُتَعَوِّذاً، فقَالَ: أقَتَلْتَهُ بَعْدَما قالَ: لا إِلهَ إلَّا الله؟! فما زالَ يُكَرِّرُها عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أنِّي لم أكُنْ أسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ اليَوْم”. مُتَّفقٌ عليه.

وفي روايةٍ: فقالَ رسولُ الله ﷺ: أقالَ: لا إلهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟! قلتُ: يا رسولَ الله! إنَّما قَالَها خَوْفاً مِنَ السِّلاح، قالَ: أفلا شَقَقْتَ عن قَلْبِهِ، حَتَّى تَعْلَمَ أقَالَها أمْ لا؟! فمَا زالَ يُكَرِّرُها، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لم أكُنْ أسْلَمْتُ يَومَئذٍ.

وعن جُنْدب بنِ عبد الله: أنَّ رسولَ الله ﷺ بعثَ بَعْثاً مِنَ المُسْلِمِينَ إلى قَوْمٍ مِنَ المُشْرِكِين، وأَنَّهُم الْتَقَوا، فكانَ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ إذا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلى رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَنَّ رَجُلاً مِنَ المُسْلِمِينَ قَصَدَ غفلَتَه، وكُنَّا نَتَحَدَّثُ أنَّهُ أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، فَلمَّا رَفَعَ السَّيْفَ قَالَ: لا إله إلَّا الله، فقَتَلَهُ، فجاءَ البَشِيرُ إِلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فسَأَلَهُ، وأَخْبَرَهُ، حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَر الرَّجُلِ كَيْفَ صنَعَ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ، فقَالَ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فقَالَ: يا رسولَ الله! أَوْجَعَ في المُسْلِمِينَ، وقَتلَ فُلاناً وفُلاناً – وسَمَّى لَهُ نَفَراً – وإنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فلَمَّا رَأى السَّيْفَ قَالَ: لا إِله إِلَّا الله. قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أقَتَلْتَهُ؟ قالَ: نَعمْ، قَالَ: فَكيْفَ تَصْنَعُ بلا إِله إِلَّا الله إِذا جاءَت يومَ القيامَة؟! قال: يا رسولَ الله! اسْتَغْفِرْ لي، قَالَ: وكيفَ تَصْنَعُ بِلا إِله إِلَّا الله إِذا جاءَت يَوْمَ القِيامَة؟! فجَعَلَ لا يَزيدُ على أَنْ يَقُولَ: كيفَ تَصْنَعُ بلا إِلهَ إِلَّا الله إذا جاءَتْ يَوْمَ القِيامَة؟! رواهُ مُسلِم.

وإذا كانَ هذا النّصُّ، بعُمْقِهِ ودلالاتِهِ وحرصِه على النَّفْسِ البشريّة، قد مُنِعَ من التَّداوُلِ والتعميم على أتباعِ الفِكْرِ التكفيريِّ وعُبّادِ الدم، فإنّ ثمّةَ كثيراً من النُّصوص التي تتحدّثُ عن مكانةِ أهلِ الكِتاب في المُجتمَعِ المُسلمِ قد لَعِبَ بها، وشَوَّهَها أصحابُ الرُّؤوسِ المُجوَّفة والنُّصوص المُفخَّخة، ومن ثَمَّ لا غرابةَ في أنْ يَنْسِفَ هؤلاءِ نُصوصَ الوئام والمَحبّة والتَّسامُح: “مَنْ آذى ذِمّيّاً فقد آذاني”، و”مَنْ قتلَ نفساً معاهدة لم يرحْ رائحةَ الجنّة، وإنَّ ريحَها ليُوجَد من مسيرةِ أربعينَ عاماً”.

ومِنَ المُؤسِفِ أنْ يعتقدَ بعضُهم أنَّ فكرةَ الفِرْقةِ الناجية هي فكرةٌ إسلاميّةٌ خالصةٌ، في حينِ أنّها فكرةٌ شاملةٌ للفكرِ في الأديان التوحيديّة الأُخرى، وهذا ما يَجِدُهُ المرءُ بوُضوحٍ أكبر في التُّراثِ الدِّينيّ اليهوديّ والمسيحيّ، إضافةً إلى غيرهما من الأديان كالهندوسية والبُوذيّة، بل إنّ مُعظمَ الأديان السّماوية والأرضيّة في العالم حفلتْ بمثلِ هذه الأفكار الدمويّةِ القاتلة بحُجّةِ أنَّ أصحابَها هم أهلُ الفرقةِ النّاجية، فانْزلَقَ أتباعُها نحوَ التكفير والتفسيق والنَّيلِ من مُعتَقدات الآخرينَ واستباحةِ دمائِهم وأموالهم، بحُجّةِ امتلاك الحقِّ والحقيقة والإمساك بمفاتيح الجِنان والنعيم وربطه بقبضات سُيوفهم وسكاكينِهم ومُسدَّساتهم، بعيداً عن التعاليم الحقيقيّة للإسلام بوصفِهِ ديناً جامعاً ومُحرِّضاً على نَشْرِ المحبَّةِ والسَّلام وَفْقَ المنطوقِ القُرآني: {فإذا الذي بينَكَ وبينَهُ عداوةٌ كأنّهُ وليٌّ حميم}.

إنّنا في أمَسِّ الحاجةِ إلى شَرْعَنةِ ثقافةِ الاختلاف، والبحثِ عن قواعدَ مُتبادَلةٍ ومُتوافَقٍ عليها لتنظيفِ الخِلافاتِ، بدلاً من الإنكارات الدَّمَويّةِ العَبَثيّة واللُّهاثِ وراءَ شَحْذِ سُيوفِنا برِقابِ إخوتِنا.

 

 

 

 

 

اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

وزير الأوقاف يبحث مع محافظ حمص آليات تعزيز التعاون

بحث وزير الأوقاف الدكتور محمد أبو الخير شكري خلال لقائه محافظ حمص وعدداً من المعنيين بالأوقاف اليوم، آليات تعزيز التعاون، وذلك بهدف توحيد الجهود ونشر ...