ناظم عيد
لعلّها جرأة تُسجل لوزير المالية السوري، في مقاربة ملف القروض المتعثرة، الذي يبدو بالفعل من أعقد الملفات العالقة في بنية اقتصاد منهك على خلفيات فساد وسوء إدارة.
وإن كان الوزير محمد يسر برنية العائد بعد التحرير ملماً ببعض خلفيات هذا الملف، بحكم وجوده – قبل الثورة – في مجلس إدارة هيئة الأوراق والأسواق المالية، إلا أن ثمة تفاصيل كثيرة جرت لا بدّ أن يكون الجميع في صورتها، ليصار إلى التعاطي الصحيح مع إشكالية كانت اقتصادية الأثر، فأصبحت ذات ذيول اجتماعية متداخلة.
صحوة مشؤومة
في العام 2017 كان الحدث ذو الصدى المدوي في سوريا، وكأنه اكتشاف أو فتح غير مسبوق؛ إذ صحت البلاد في يوم 3 نيسان على أنباء عن لجنة حملت الرقم 352 مهمتها التحقيق في ملفات القروض المتعثرة، التي تزيد قيمتها عن 200 مليار ليرة سورية “كان سعر صرف الدولار حينها حوالي 500 ليرة سورية ..أما استجرار القروض كان بسعر صرف 48 ليرة للدولار”.
ترأس اللجنة حينها قيس خضر أمين عام مجلس الوزراء، بعضوية عبد الرزاق قاسم الرئيس التنفيذي لسوق دمشق للأوراق المالية، ومازن يوسف وزير الصناعة، لكن بصفته رئيساً سابقاً للجهاز المركزي للرقابة المالية.
انبثق عن اللجنة 352 لجان فرعية لكل مصرف من المصارف المانحة، تتألف كل لجنة من أستاذ جامعي وممثل عن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، إضافة إلى ممثل عن إدارة قضايا الدولة “محامٍ بطبيعة الحال”، وباشرت اللجان أعمالها مباشرةً مبهمة ومرتجلة، وخلال أقل من 15 يوماً أعدت قرارات كف اليد لأعداد كبيرة من موظفي المصارف، وحجوزات على أملاك كبار المقترضين مع منع سفرهم خارج البلاد.
والملاحظة أن قرارات كف اليد ظهرت بتوقيع وزير المالية “مأمون حمدان”، وكان ذلك مستغرباً لأن مثل هذه القرارات تصدر عن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش.
شارة بداية وشرارة ابتزاز
بدأت الحكاية بهمسة من مازن يوسف -المسمى حديثاً وزيراً للصناعة بعد أن كان رئيساً للجهاز المركزي للرقابة المالية- في أذن عماد خميس رئيس مجلس الوزراء، عن وجود كتلة أموال هائلة ممنوحة على شكل قروض لصناعيين ومستثمرين كبار باتت مشكوكاً في تحصيلها، وطبعاً كلا الاثنين مازن يوسف وعماد خميس يبحثان عن نقاط ارتكاز وفلاشات تعزز من حضورهما في مهمتيهما السياديتين الجديدتين.
و”زُفّت البشرى” لبشار الأسد الذي وجّه بما يشبه “تسونامي” في وجه كبار المقترضين، وهم رجال أعمال ذوي ملاءات مالية كبيرة، وأصحاب أصول استثمارية دسمة.
وهذه كانت بداية لسلسلة طويلة من رحلة ابتزاز لكبار المتمولين، التي لم تنته إلا مع سقوط النظام السابق.
شبح بنك الاستثمار الأوروبي
على نحوٍ أو آخر حُسم الجزء الأكبر من الملف بكل ما انطوى عليه من ابتزاز و”علاوات”، ولم يتبق إلا القروض الممنوحة من بنك الاستثمار الأوروبي، ولهذا يُعد ملفه الأكثر تعقيداً.
إذ قرر الاتحاد الأوروبي في وقت سابق منح تسهيلات وتمويل لمشروعات استثمارية في سوريا، عبر بنك الاستثمار الأوروبي، وأُنشئت حلقة وسيطة في سوريا اسمها “وحدة تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة”. تقوم هذه الوحدة بدور الوكيل، وتوجه المقترضين بعد إعداد استمارات القروض نحو مصرفين حكوميين هما البنك التجاري السوري والبنك العقاري، لإدارة ملف القروض لجهة دراسة الملاءة والضمانات، ثم منح مبلغ القرض مع التعهد بتحصيل الأقساط وتحويلها إلى البنك الأساسي المانح “بنك الاستثمار الأوروبي”، والقروض تمنح طبعاً باليورو والدولار، وليس بالليرة السورية.
ومع دخول الليرة في أزماتها المتتالية، بات من المتعذر على المقترضين تسديد التزاماتهم “من سعر صرف 45 ليرة مقابل الدولار إلى 15 ألف ليرة قبل التحرير”، وبقي هذا الجزء من الملف عالقاً، وهو أحد التحديات أمام لجنة التسوية التي أعلنها وزير المالية منذ أيام.
مهمة عسيرة وهواجس تعثّر
من كبار المقترضين إلى صغارهم بات المشهد أكثر تعقيداً، ويثير حالة من الترقب للطريقة التي ستُعالج بموجبها.
فالحكومة تقف اليوم وجاهياً أمام طيف واسع من المقترضين الحاصلين على قروض صغيرة باسم “القرض الشخصي”، وهو منتج مصرفي جديد ابتُكر في الأوساط المصرفية الحكومية بعد إقلاع المصرف المركزي عن سياسات الإقراض المتحفظة، وإطلاق حرية المصارف لتعويض خساراتها الناجمة عن عدم السماح لها بمنح قروض تشغيلية لسنوات طويلة، بسبب مخاطر الاستثمار والأفق الضبابي للبلاد، مع اضطرارها لقبول الإيداعات، ودفع فوائد بمعدلات عالية.
القرض الشخصي كان نافذة النجاة الوحيدة، شرعت البنوك عبرها بالإعلان عن قروض اعتبرها المواطن السوري “المخنوق” فرصة لترميم بنية حياته المشوهة..وكان البنك التجاري السوري “أكبر بنك” صاحب المبادرات الأكثر جذباً للزبائن، وأكبر المانحين للقروض الشخصية بسقوف وصلت إلى 50 مليون ليرة سورية بضمانات عقارية، و25 مليون ليرة بضمانات شخصية وكفلاء تسديد، في حين كانت السقوف لدى مصرفي التسليف والتوفير 7 مليون ليرة للموظفين، وتصل إلى 15 مليون ليرة مع ضمانات.. وكذلك كان حال البنك العقاري.
العسكريون زبائن الغفلة
وكان لافتاً تهافت العسكريين للحصول على القروض الشخصية، بما أن العسكري لم يكن في عداد الزبائن المفترضين للبنوك، “لا يحق له الحصول على قرض بنكي”، لكن قرارات السماح والمبالغ الكبيرة أشعلت شهية كل عسكري للسعي إلى ما يتيسر له من البنوك، وكانت الحصيلة عشرات آلاف المقترضين..
اليوم بعد التحرير والتسريح الأوتوماتيكي للجيش، بات جميع هؤلاء أصحاب القروض المتعثرة التي تشكل أزمة حقيقية يترقب الطريقة التي ستجري بموجبها المعالجات.
وفي ذات الاتجاه.. ثمة أعداد كبيرة من موظفي القطاع العام الحاصلين على قروض وفقدوا وظائفهم في عداد المقترضين المتعثرين، وهؤلاء أيضاً يشكلون نسبة غير قليلة من حجم المشكلة التي تعقد الطريق المؤدية إلى حل سلس.
ترقب
الآن يترقب السوريون الطريقة التصالحية التي سيصار عبرها إلى حل مشكلة القروض المتعثرة، والتي يختلط فيها الاعتبار الاقتصادي بالآخر الاجتماعي وامتداداته المتشعبة.
ويتوقع متابعون وخبراء أن يكون ثمة مفاجآت على صعيد الحلحلة، قد تتمثل بالإعادة التدريجية للمسرحين من أعمالهم، أو السماح لهم بإجراءات تقاعد نظامية، والحصول على رواتب تقاعدية يسددون بواسطتها أقساط قروضهم..
خصوصاً أنه لا ضمانات من قبيل الأصول والممتلكات لدى هؤلاء، أو معظمهم، يمكن أن تكون وسيلة تعويض لمبلغ القرض مع فوائد أو بدون.
(أخبار سوريا الوطن1-المدن)