د. بسام أبو عبد الله
أضاء الرئيس بشار الأسد في اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث الأخير، على حقيقة مهمة لطالما خضعت للنقاش والحوار على الصعيد الداخلي السوري، وعلى الصعيد الإقليمي، وإن شئتم العالمي، وهذه الحقيقة تقول: «إن الأمور في القضايا الكبرى، وفي الأوطان، وعند الشعوب، لا تقاس بمبدأ الربح والخسارة، لأننا لسنا في بورصة لكي نحسب الربح والخسارة، والذين يحسبون بهذه الطريقة هم أناس محبطون، وجبناء، ويريدون من الآخرين أن يكونوا مثلهم».
هذا يطرح سؤال علينا جميعاً، هو قديم- جديد: هل كان بالإمكان تفادي الحرب على سورية، وتفادي الدمار المادي؟ ومفهوم الربح والخسارة، الذي يتحدث عنه البعض من دون القراءة العميقة للأحداث، بل من خلال قراءة سطحية.
والحقيقة أن جوابي هو لا، وسأشرح في النقاط التالية لماذا؟
1- في عام 2000 وصل جورج بوش الابن إلى السلطة في الولايات المتحدة، وآرئيل شارون لرئاسة الحكومة الصهيونية في الكيان، ورأى هؤلاء أن عصراً جديداً في المنطقة والعالم قد بدأ، ولا بد من استغلال انهيار الاتحاد السوفييتي كما يجب من خلال تكريس الهيمنة الأميركية في القرن الحادي والعشرين بالقوة على أن يبدأ ذلك من المنطقة العربية التي سيكون اسمها «الشرق الأوسط الجديد».
2- التنظير لهذا المشروع كان قد بدأ في تسعينيات القرن الماضي من خلال مراكز أبحاث تخصصية لليمين المحافظ الأميركي، لا بل للدقة أكثر بدأ مع كتابي: صراع الحضارات، ونهاية التاريخ لـهنتنغتون وفوكوياما، كما قام شمعون بيريز في عام 1993 بطرح رؤيته لما سمي «الشرق الأوسط الكبير»، وجاء طرح بيريز في مرحلة تصدع فيها الحد الأدنى للأمن القومي العربي إثر غزو صدام للكويت، وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991، الذي يفترض به أن ينهي مقولة الصراع العربي- الصهيوني لإفساح المجال أمام الشرق الأوسط الجديد، وبالرغم من هذه الأجواء، وموجة الاتفاقات التي وقعت بين منظمة التحرير وإسرائيل من خلال أوسلو، ثم وادي عربة مع الأردن، فإن القدرة على الاختراق التطبيعي ظلت عصية، وصعبة في الأوساط الشعبية العربية عامة.
3- تعامل المحافظون الجدد مع الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، وآسيا الوسطى، كجغرافيا مهمة جداً بهدف السيطرة على مصادر الطاقة والتحكم بها تجاه منافسيها المحتملين الصاعدين وهما الصين وروسيا قبل أن يكبر خطرهما، ووضعت مخططات عسكرية- سياسية- اقتصادية للسيطرة على دول هذه المناطق، وترويض بعضها، وإسقاط الأنظمة التي تشكل تهديداً، أو تعارض مشروع الهيمنة الأميركي الجديد، وهنا لننتبه لعبارة إسقاط الأنظمة التي تشكل تهديداً للمشروع.
4- جاءت أحداث 11/9/2001 في نيويورك، الذريعة التي استند إليها هؤلاء لغزو المنطقة، وتنفيذ مخططهم الكبير، وكان البدء باحتلال أفغانستان تحت شعار «مكافحة الإرهاب» عام 2001، ثم العراق عام 2003 تحت عنوان كاذب «أسلحة الدمار الشامل» التي اعترف كولن باول لاحقاً بكذبته، معتبراً إياها وصمة عار، ووضع بوش الابن شعاره الشهير «من ليس معنا فهو ضدنا»، من دون أي اعتبار للقانون الدولي، أو مصالح وطنية، أو خيارات الشعوب، أي إنه على الجميع العمل لخدمة مشروع الهيمنة الأميركي.
5- بكل موضوعية وصراحة طأطأ الجميع رؤوسهم خوفاً من العقاب الأميركي، أو الجنون بشكل أدق، معتقدين أنهم سينجون بجلدهم إذا صمتوا، أو سكتوا، أو تواطؤوا، وحده الرئيس بشار الأسد الذي رفض الشروط الأميركية التي أتى بها كولن باول بعد احتلال العراق، وحمى بذلك حركات المقاومة في المنطقة، وأجلَ الحرب على سورية التي كان يدرك تماماً أنها واقعة لا محالة، ليس فقط بسبب رفضه الشروط الأميركية، ولكن لأن المشروع الأميركي المسمى «الشرق الأوسط الجديد»، كان يهدف لإعادة رسم خريطة المنطقة بشكل مختلف عن خريطة سايكس بيكو، التي وضعتها فرنسا وبريطانيا بعد سقوط السلطنة العثمانية عام 1916، إذ كان العراق المختبر الأول لتنفيذ التقسيم على أساس طائفي- إثني ما يجعل المنطقة تتدحرج بعد ذلك كأحجار الدومينو.
6- كان الرئيس الأسد أمام خيارين: إما مسايرة الولايات المتحدة، وهذا سيريحها في مشروع التقسيم في العراق، وهو يعرف أن نجاح المشروع في العراق سينقله فوراً إلى سورية، أو المواجهة المباشرة للمشروع مع إيران والقوى المقاومة في المنطقة، وهذا هو الثمن الأفضل الذي قال عنه مراراً: «المقاومة أقل كلفة من ثمن الاستسلام».
خطط الأميركيون لثلاثة أقاليم في العراق، تحدث عنها بايدن الذي كان نائب باراك أوباما، معتقدين بأن إقليماً شيعياً في الجنوب العراقي سوف يستقطب شيعة الخليج ضمن كيانه، وإقليماً سنياً سيدعم خليجياً ضد إيران، والأكثر أهمية أن إقليم كردستان العراق سيشكل بؤرة لدعم حراك كردي في المنطقة للاستقلال، وتشكيل «كردستان الكبرى»، التي ستكون صديقة، أو عميلة، للولايات المتحدة لأنها ستكون مدينة لها بوجودها، على حساب سورية، وتركيا، وإيران.
ومن يعتقد أن هذا المشروع قد انتهى عليه أن يدقق بما يفعله تنظيم قسد الانفصالي الآن من دستور، وتحضير لاعتراف الغرب به، ضمن إطار تخطيط أميركي مكشوف.
7- المراجعة والتدقيق أكثر يعيداننا إلى حزيران 2006، حيث نشرت مجلة «القوات المسلحة الأميركية» خريطة للمنطقة بعد تقسيمها المفترض، حيث غابت دول أبرزها العراق والسعودية، وقسمت دول المنطقة على أساس الطوائف والمذاهب والإثنيات، وهدف أميركا أن ترتاح من القتال خارج أراضيها، وتحقق أمن إسرائيل، وتدمجها في منطقة ممتلئة بالكيانات الطائفية الشبيهة لها، وتكون هي قائدة هذه المنطقة لتفوقها التكنولوجي والاقتصادي.
8- غطت الولايات المتحدة أهدافها الحقيقية تلك بعناوين براقة منها «نشر الديمقراطية»، التي قدم لها بوش الابن برنامجاً يدعو لفرض الديمقراطية بالقوة، وأنشأ لذلك قيادة عسكرية أميركية للمنطقة الوسطى، ولم تسأل إدارة بوش بسبب غطرستها، وفقدان التوازن الدولي عن خيارات الشعوب، ولا عن ثقافاتها، وتاريخها، بل أخذت شعار «الديمقراطية والإصلاح السياسي» ستاراً للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولكن الديمقراطية التي توصل عملاءها فقط، ولا تطبق على الأنظمة الخادمة للمشروع الأميركي.
9- للتذكير فإن حرب تموز 2006، كانت الاختبار الأول لهذا المشروع لضرب القوى والحركات، والدول التي صنفتها أميركا كجزء من محور الشر، وآنذاك قالت كونداليزا رايس إن ما يجري من قتل وتدمير في لبنان هو «مخاض شرق أوسط جديد»، ولا علاقة لذلك بالطوائف والمذاهب والإثنيات، سوى أنها مجرد أدوات لتنفيذ مشروع «القرن الأميركي الجديد»، أي الهيمنة على العالم بدءاً من منطقتنا، والذي بالطبع أصيب بأضرار كبيرة نتيجة مقاومة شعوب المنطقة.
10- إثر الفشل الأميركي في أول اختبار في لبنان، كان لابد من أن تزداد أميركا شراسة ضد القوى التي شاركت في دعم المقاومة اللبنانية، ومنها سورية، فصعدت عقوباتها، واتهاماتها وضغوطها، وصولاً للمرحلة الجديدة من المشروع عام 2011 التي أخذت عنواناً جديداً هو «الربيع العربي»، وهو شكل حديث من الحروب الهجينة كان هدفه الأساسي ضرب سورية لأسباب كثيرة منها:
– وقوفها ضد مشروع الهيمنة الأميركي منذ احتلال العراق وما قبل.
– دعمها حركات المقاومة في المنطقة لتعزيز قدرات شعوبها ودولها، ومواجهة مشروع التفتيت.
– تحالفها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية كإحدى الدول الإقليمية التي تواجه المشروع.
– استمرار سورية في طرح الفكر العروبي، الذي يتناقض تماماً مع مشروع الشرق الأوسط الجديد الطائفي- المذهبي- الإثني.
ولهذا كله فإن الحرب على سورية لم يكن بالإمكان تفاديها، بل إن ما جرى هو تأجيلها وصولاً لمرحلة الصدام، ذلك أن الخيارات أمام الرئيس الأسد كانت إما الحفاظ على سورية كدولة، ومؤسسات، وجيش، ومجتمع، بتنوعه وثقافته، وحضارته، وثقله التاريخي النوعي، أو ترك سورية تتشظى إلى دويلات طائفية، ومذهبية، أي اغتيالها، وشطبها عن الخريطة، والخيار الوحيد لتفادي الحرب كان الاستسلام للمشروع الأميركي التقسيمي.
هذه هي الخيارات في قضايا الأوطان، والقضايا الكبرى، ومثل هذه الخيارات أثمانها كبيرة بالطبع آلاف الشهداء والجرحى، ودمار كبير، وتحتاج لصبر شديد، وإلا فإن أي تهاون في ذلك كان يمكن أن يؤدي إلى كارثة، لا تُحل بتطييب الخواطر كما اعتقد بعض السذج، وهواة الفيسبوك.
في سورية لم يكن هناك ثورة، بل مخطط ممول بأكثر من 137 مليار دولار، وآلاف الإرهابيين من كل أنحاء العالم، وغرف عمليات استخباراتية، وتدمير ممنهج للبنى التحتية، وحصار وعقوبات، وإعلام مضلل، ومشايخ وفتاوى، والقضية ليست قضية الرئيس، ولا كرسي سلطة، ولا شكل النظام السياسي ولا الديمقراطية، ولا الحريات، إنما القضية سورية كدولة، ووطن، وهوية عروبية، ودور حضاري، وحاضن للمقاومة في المنطقة.
أخيراً: قد يطرح البعض سؤالاً منطقياً ومشروعاً: ألم يكن هناك أسباب داخلية، وعوامل لا علاقة لها بالمخطط المرسوم ساعدته على الاستمرار لفترة طويلة؟
جوابي: نعم بالتأكيد: لذلك هناك حاجة لإصلاح داخلي عميق، وصفه الرئيس الأسد بتغيير المنظومة، والقوى الخارجية لا يهمها كل ذلك إطلاقاً، لكنها تستفيد من نقاط ضعفنا بالطبع، وبقدر ما قدمت سورية من تضحيات هائلة للحفاظ على وجودها، فإن المطلوب في المرحلة القادمة دعم جهود الرئيس الأسد، وتشكيل رافعة وطنية حقيقية لهذا المشروع الإصلاحي، وفاءً لدماء الشهداء وآلام الجرحى، وصمود الشعب السوري الطويل، كما أن الإصلاح والتغيير هما حاجة وطنية سورية دائمة ومستمرة، ويبدو لي أن الظروف بدأت تساعد في إنجاز ذلك، فالانتصار على الذات أصعب بكثير من الانتصار على الأعداء.
كاتب سوري
سيرياهوم نيوز1-الوطن