ورد كاسوحة
لم تعرف سوريا في تاريخها المعاصر عنصر الاستثمار الأجنبي إلا في المرحلة التي سبقت وصول «البعث» إلى السلطة في عام 1963. وحتى قبل ذلك، كانت إجراءات التأميم التي بُوشر بها، خلال مدة الوحدة مع مصر، عائقاً، ليس فقط أمام هذا النوع من الاستثمار الخارجي، بل كذلك في وجه مشاركة القطاع الخاصّ المحلّي نفسه. وقد بقيَ هذا الحظر على استثمارات القطاع الخاصّ السوري سارياً حتى إقرار قانون الاستثمار الرقم 10 في عام 1991، حين انفتح نظام حافظ الأسد جزئياً على التدفّقات الرأسمالية، على ضوء التقاطعات الإقليمية والدولية التي قادته إلى المشاركة في حرب الخليج الثانية ومؤتمر مدريد للسلام.
النموّ الذي شهدته البلاد في هذه المرحلة لم يكن بدفعٍ من القطاع الخاصّ المحلّي وحده بقدر ما كان نتاج انفتاح الغرب الجزئي على سوريا، وسماحه للنظام حينها بالاستفادة من المناخ الإقليمي المؤاتي، لدفع عجلة التنمية، في حدود ما يسمح به التعليق الجزئي للعقوبات المطبّقة منذ عام 1979. أي بما يتماشى مع مشروع إعادة الإعمار في لبنان الذي كانت تدير سوريا التسوية فيه، وعملية السلام في الإقليم، إثر توقيع اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة، وصولاً إلى تحريك المسار السوري نفسِه، في محطتي واي بلانتيشن وجنيف.
تحريك القطاع الخاصّ للنموّ
هذا سَمَح بنموٍّ فعلي في قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات، حتى مع تراجُع دور القطاع العام لمصلحة نظيريه الخاصّ والمشترك، على اعتبار أنّ العقوبات كانت تعيق عملية قيادة القطاع العامّ المطلَقة للتنمية. وهو ما تعزّز مع الانهيار الكبير في سعر الصرف، في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، إذ انهارت الليرة من عتبة الأربع ليرات مقابل الدولار، إلى 40 مع نهاية عقد الثمانينيات.
تسريع العقوبات بانهيار سعر الصرف بهذه الطريقة، عجّل بتقديم تنازلات من جانب السلطة، ومعها السياستان النقدية والاقتصادية، فتمّ التخفيف من أثَر سياسات التأميم، لا سيّما في القطاع الصناعي، لمصلحة السماح للرساميل الخاصّة بإدارة كثير من القطاعات الصناعية الناشئة حينها، ولكن من دون تغيير كبير في عامل المُلكية. وهذا يعود إلى التشدّد الذي أبداه الأسد الأب في عدم المساس جوهرياً بالهياكل الاشتراكية، لناحية نقل أصول الدولة إلى القطاع الخاصّ، فظلّت مُلكية معظم الصناعات التي ازدهرت، لا سيّما التحويلية والغذائية، في يد الدولة، ولكن مع مرونة كبيرة لم تشهدها البلاد منذ مجيء «البعث» إلى السلطة، في ترك القطاع الخاصّ يعمل، لتحقيق نموّ يعوّض عن الخسارة الكبيرة التي لحقت بالناتج المحلي الإجمالي بسبب نظام العقوبات.
وكان لفلسفة القطاع المشترك الذي نَشَأَ في هذه المرحلة أثَرٌ كبير في كبح عامل الخصخصة التي تنتقل فيها الأصول بالكامل إلى القطاع الخاص، لمصلحة إدارة مشتركة، تحتفظ فيها الدولة بالمُلكية، لقاءَ ترك الرساميل الخاصّة تدير الصناعات والاستثمارات المشتركة بفاعلية أكبر. على أنّ النموّ ظلَّ مقتصراً على الصناعات التي لا تحتاج إلى استثمارات كبيرة، وتتحقّق فيها العوائد بمقدار ما يسمح به التعليق الجزئي للعقوبات الغربية.
المسار حالياً لا يُقاد من جانب القطاع الخاصّ المحلّي كما كانت عليه الحال سابقاً، بل من استثمارات أجنبية تقودها شركات غير مقيّدة بمصالح ومكتسبات الناس
وهي تشمل، إلى جانب الصناعات التحويلية والتجميعية والغذائية التي حقّقت الطفرة الأكبر حينها، النموّ المحدود الذي تحقّق في قطاع الخدمات، لا سيّما في السياحة والنقل والاستشفاء. إذ ظلّ العائد مساوياً للتكلفة، إن لم يكن أقلّ منها، نظراً إلى حاجة الإقليم وليس البلد فقط، إلى خدمات جيّدة، تكون قاطرة محلّية للتنمية، وتتناسب في الوقت ذاته مع مستوى الدخل المتوسّط للفرد، والذي لم يكن يتجاوز الـ100 دولار، بالنسبة إلى سعر صرف يساوي فيه الدولار الواحد 50 ليرة أو أقلّ.
وكلّ هذا في إطار عدم السماح ببيع الأصول التي تعود للدولة إلى القطاع الخاصّ، ليس فقط لتعذّر القيام بذلك في ظلّ نظام اشتراكي يمنع الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج، بل لأنّ أي مساس بالأصول تلك سيسحب الشرعية من السلطة، ويفتح المجال للتشكيك في قدرتها على حماية ثروة البلاد.
بدء التصرّف بالأصول الجديدة
لم يتغيّر الحال كثيراً لدى مجيء بشار الأسد إلى السلطة خَلَفاً لوالده، فظلّت الأصول الأساسية للدولة، مثل المطارات والموانئ والكهرباء وسكك الحديد ومعامل الزيوت والأقطان والتبغ، في يد القطاع العام، ولكن مع السماح للقطاع الخاصّ بالانتقال من الإدارة وفقاً لنظام القطاع المشترك، إلى المُلكية، عبر الاستحواذ على الأصول الجديدة التي لم تكن قائمة في عهد النظام الأسبق. وأبرز الأمثلة على ذلك، هي شركات الاتصالات للهاتف الخليوي، إذ لم يتمّ إشراك الدولة أبداً، لا في ملكيّتها ولا في إدارتها، وذهبت فورَ إنشائها بعد عام 2000، وفقاً لمناقصات دولية، إلى القطاع الخاصّ، عبر أفراد ينتمون إمّا إلى السلطة مباشرة، مثل رامي مخلوف، أو إلى شركات عربية وأجنبية على علاقة جيّدة بها.
وكان ذلك بمنزلة مساس جدّي بطبيعة الهياكل الاشتراكية التي تأسّست مع مجيء «البعث» إلى السلطة في عام 1963، وأفضت إلى تجيير الدولة ملكيّتها معظم المنشآت والأصول الكبرى للمصلحة العامّة. التربّح المباشر من قطاع الاتصالات الخليوية، بهذا المعنى، وضَعَ حدّاً للفلسفة التي وقفت وراء وضع قانون الاستثمار الرقم 10، ومعه إنشاء القطاع المشترك، إذ كان المبتغى من الربط بينهما الحفاظ على هياكل استثمارية مَرِنة تسمح بإبقاء الاشتراكية، عبر منع المساس بالمُلكية العامّة للأصول الصناعية والتجارية والخدمية، وتفضي في الوقت ذاته إلى إدارة أفضل لقطاعات الصناعة والخدمات، عبر إشراك القطاع الخاص في الإدارة وتحسين الخدمات والمنتجات المقدّمة لعموم السوريين.
هذا وَضَع البلاد أمام منعطف جديد تماماً، يقف فيه القطاع الخاصّ بوصفه، ليس فقط شريكاً في تطوير الاقتصاد السوري، كما كانت عليه الحال سابقاً، بل بصفته، انطلاقاً من سابقة مُلكية شركات الخليوي، المساهمَ الأكبر فيه. لتنتهي الأمور لاحقاً، مع زيادة استحواذ القطاع الخاصّ السوري والعربي على معظم الأصول الصناعية، إلى تحوّله أيضاً إلى ربّ العمل الأكبر في قطاعي الصناعة والخدمات.
ترافَقَ ذلك، في المدة التي سبَقَت الحرب، مع مباركة النخب لتمدُّد القطاع الخاصّ، من منظور أن ذلك يسهم في الحدّ من نفوذ الدولة الأمنية، ويدفع قُدُماً بمنهج «التحديث» الذي أتت به الحلقة الضيّقة المحيطة ببشار الأسد، في ما يشبه الخلط بين الدولتين الأمنية والاشتراكية، ومن دون الانتباه كفايةً إلى أنها كانت البداية الفعلية لإتيان النيوليبرالية الاقتصادية على ما تبقّى من هياكل اشتراكية في البلد.
خاتمة
والحال أنّ الذريعة نفسها عادت لتُستخدَم الآن بعد سقوط النظام السابق، ولكن في سياق لا يحتمل المزيد من الخفّة في تناول مسائل مصيرية، مثل التصرّف كيفما كان بالأصول الاقتصادية للدولة. إذ يبدو الحديث عن دعم مسيرة التعافي الاقتصادي مشروطاً بالتنازل عن المقاربة النقدية لمسار إعادة الأعمار.
وهذا أمر يحتاج، في الحقيقة، إلى نقاشٍ كبير، كون المسار حالياً لا يُقاد من جانب القطاع الخاصّ المحلّي كما كانت عليه الحال سابقاً، بل من استثمارت أجنبية تقودها شركات غير مقيّدة بمصالح ومكتسبات الناس الذين ستُقدَّم إليهم هذه الخدمات، بعد خصخصتها بالكامل، وتحرير أسعارها، بحيث تصل إلى السعر العالمي.
يحصلُ ذلك أيضاً، في غيابٍ كاملٍ للدعم، أو للتدخّل الدولتي لفَرض شرائح سعرية تناسب القدرة الشرائية الحالية، ومستوى الإنفاق الاستهلاكي الذي لا يتجاوز في أحسن الأحوال عتبة الـ100 دولار شهرياً.
* كاتب سوري
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار