د. بسام الخالد
منذ فترة دُعيتُ لسهرة في منزل أحد الأصدقاء، وهناك لفتني وجود ثلاثة أطفال، صبي في الثامنة من عمره، وطفلة في السادسة وأخرى في مرحلة الروضة، وعرفت من صديقي أن الأطفال هم أبناء أخيه القادمين مع أهلهم لزيارته، كان الصبي ممسكا بجهاز ” آيباد” يمارس عليه لعبة عنيفة وهو منفعل إلى حد الجنون، وكانت شقيقته الصغرى تفتح “موبايل” أمها وتتنقل بين فديوهات الـ “يوتيوب” المختلفة، أما الصغيرة فكانت تبكي وهي تستجدي شقيقيها لإتاحة دور لها لمشاهدة الفيلم الكرتوني “الذئب والخراف السبعة”
ومن خلال حوارات الصغار لمست لديهم وعياً معلوماتياً واسعاً وانغماساً عميقاً في تقنية هذه الأجهزة وبرامجها، وعند مناقشتهم بما يشاهدون اكتشفت أنهم يتفوقون على أعمارهم ويمتلكون معلومات عن جميع مواقع التواصل الاجتماعي تقريباً، بل عن دور ومهمة كل موقع، ولما نبهت صديقي إلى خطورة هذا التعاطي قال: بالكاد نجبرهم على كتابة وظائفهم وتناول وجباتهم، بعدها ينصرفون إلى اللعب والتسلية بهذه الأجهزة لدرجة أنهم لا يشاركوننا جلساتنا، ونحن نشفق عليهم، إذ لا رحلات ترفيهية ولا مشاوير ولا حدائق نصحبهم إليها في ظل الغلاء الذي نعيشه، وأنت تعلم ذلك.
قلت للأطفال: ما رأيكم أن أحكي لكم حكاية “النملة والصرصور”؟
تنبهوا إليّ مباشرة واقتربت الصغيرة وجلست بجانبي وتبعها شقيقاها بعد لحظات، وعندما بدأت الحكاية شعرت بمدى الألفة والحميمية التي يفتقدها هؤلاء الأطفال.. طلبوا حكاية ثانية .. فثالثة ففعلت، ولم يتركوني إلا عندما وعدتهم أنني سأكمل لهم الحكايات في الغد، انفرجت أساريرهم، وتشجعتُ لأطلب منهم الذهاب إلى النوم فانصاعوا بكل احترام وسط ذهول الأهل واستغرابهم!
عادت بي الذاكرة إلى طفولة جيلنا، يوم كانت حكايات الجدات هي العنوان الأبرز لطفولتنا، وكانت القيم الأسرية الصارمة هي مقياس التنشئة، أما المدرسة فكان لها الدور التعليمي والتربوي المكمّل الذي يصقل طفولتنا، وكان التلفزيون قمة ترفيهنا بأفلامه الكرتونية المحدودة.
بعد دخول العولمة وانتشار شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي المتعددة والهواتف الذكية، بات بمقدور أي طفل، تتاح له مثل هذه الأدوات، التجول في العالم كله على اتساعه، وبات يقرأ ويسمع ويشاهد ويتفاعل مع كل ما هو موجود في هذه المواقع بسلبياته وإيجابياته!
بالطبع أنا لا أقلل من أهمية وجود مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت تقرِّب بين القاصي والداني وتجعلنا نشاهد أشخاصاً في بلاد بعيدة عنّا، بالصوت والصورة، بالإضافة إلى تتبّع جميع الأخبار التي تدور من حولنا، ولم تعد تلك المواقع مقتصرة على أعمار معينة، فالطفل الصغير الآن يحمل هاتفاً محمولاً موصَّلاً بالإنترنت، ومن خلاله يتمكّن من الوصول إلى شبكات التواصل وجميع المواقع الأخرى، فهل بمقدورنا حماية أطفالنا ؟!
لن أدخل في القضايا التربوية ولا في التأثيرات الصحية والنفسية على الأطفال نتيجة استخدام هذه التقنيات، بل سأتوقف عند المضامين المتاحة في “الفيسبوك”، على سبيل المثال، من خلال الأوضاع التي أفرزتها الحرب في سورية والأزمات الأخرى التي خلّفتها فيها، فسهولة استعمال “الفيسبوك” على نطاق واسع واستخدام أسماء مستعارة في الحسابات، مكّنت الكثيرين من الاختباء خلف هذه الاسماء لنشر كل ما يخطر على بال، والتعليق بكل “حرية” دون حسيب أو رقيب إضافة إلى الشتم واستخدام الكلمات النابية وخدش الحياء بلا وازع أخلاقي، لكن أخطر ما أفرزته الحرب للأسف هو استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لتكريس الألفاظ الطائفية البغيضة ونفث سموم مطلقيها وتغذية هذه الألفاظ بشروحات وعبارات حاقدة، وهنا بيت القصيد، فقد أصبحت هذه المواقع منابر للبعض في التفنن بمصطلح الطائفية ومفرزاته القذرة.
هذه المواقع أصبحت متاحة للجيل الذي لم يقرأ تاريخ سورية يوم قسّمها المستعمر إلى دويلات على أسس طائفية، ولم يدرك أن شعبنا الواعي، بكل أطيافه، رفضها حينها وأعاد لسورية لُحمتها ووحدتها لتبقى، كما نعرفها، وطناً لكل السوريين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم، إنها مواقع التواصل، التي لا تعترف بتاريخنا ولا بثقافتنا ولا بأخلاقنا ولا بتربيتنا، فأتاحت للبعض العبث بهذا التاريخ لتكون بذلك أكبر منبر خبيث بستائر حضارية!
(سيرياهوم نيوز ٤-خاص)