. عبد الحميد فجر سلوم
**
ثلاثة أيام من زيارة الرئيس الصيني “شي جين بينغ” للسعودية، ما بين 7 و 9 كانون أول/ ديسمبر 2022، خطفت الكثير من الأضواء عن مونديال الدوحة، لِتتّجه نحو الرياض..
ثلاثة مؤتمرات عقدها الرئيس الصيني: الأول مع الجانب السعودي، والثاني مع دول مجلس التعاون الخليجي، والثالث مع الدول العربية، جرَت خلال ثلاثة أيام.. وصدرَ عن كلٍّ منها بيانا مشتركا..
جاءت القمم بعد عدة مناسبات مهمة جدا، شهدتها المنطقة..
ad
فقد سبقها مؤتمر القمة العربي في الجزائر في الأول والثاني من تشرين ثاني / نوفمبر 2022..
ومؤتمر الأمم المتحدة الـ 27 للمناخ في شرم الشيخ في مصر..
وافتتاح مونديال كأس العالم في قطر..
وكانت القمة العربية الصينية..
وجاءت أيضا في ظل توترات تعيشها المنطقة: ففي إيران احتجاجات منذ أواسط أيلول / سبتمبر 2022 ..
وفي شمال سورية قصف تركي وتهديد بالغزو، شمَل أيضا أراضي العراق، بذريعة محاربة “الإرهاب” .. وتزامنَ أيضا مع قصف إيراني في شمال العراق بإقليم كردستان ضد أحزاب كردية إيرانية مُعاِرضة للحُكم وتتّخذُ من إقليم كردستان مقرا لها.. واستنكارٌ من حكومة بغداد لذلك..
وتصعيدٌ في اليمن..
كما جاءت أيضا في ظل توتر متصاعد في الضفة الغربية واعتداءات إسرائيلية مستمرة، واغتيالات بدمٍ باردٍ وبوحشيةٍ مُعتادة من القوات الإسرائيلية..
هذا فضلا عن التوترات الداخلية التي تعيشها غالبية الدول العربية..
**
بيان القمة السعودي الصيني كان طويلا، وشاملا لكافة أوجه التعاون بين البلدين في شتى المجالات، إضافة لبعض القضايا الإقليمية والدولية.. وأهمُّ نتيجةٍ كانت التوقيع على اتفاقية شراكة إستراتيجية شاملة بين البلدين.. على غرار اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين الصين وإيران في آذار 2021 ..
ووردَ في البيان أن الجانب الصيني عبّر عن دعمه للمملكة في الحفاظ على أمنها واستقرارها، وأكد معارضته بحزم أي تصرفات من شأنها التدخل في الشؤون الداخلية للمملكة العربية السعودية، ورفضِ أي هجمات تستهدف المدنيين والمنشآت المدنية والأراضي والمصالح السعودية.. (وهذا الكلام موجّهٌ لإيران والحوثيين)..
**
أما بيان القمة الخليجي ــ الصيني، فكان في أهمِّ عباراتهِ موجّه نحو إيران، إن بشكلٍ مباشرٍ، أو غير مُباشر..
فطالب ” بِمنع التمويل والتسليح والتجنيد للجماعات الإرهابية من جميع الأفراد والكيانات، والتصدّي لجميع الأنشطة المُهدِّدة لأمن المنطقة واستقرارها.. والتصدي لدعم الجماعات الإرهابية والطائفية والتنظيمات المسلّحة غير الشرعية، ومنع انتشار الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، وضمان سلامة الملاحة الدولية والمنشآت النفطية، والالتزام بالقرارات الأممية والشرعية الدولية ” ..
وكذلك التركيز على منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في منطقة الخليج، وضمان الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني، ودعوة إيران للتعاون الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية..
ولم يُنسَى التذكير أيضا بالجُزُر الإماراتية الثلاث المُتنازَع عليها مع إيران: طُنب الكُبرى، والصُغرى، وأبو موسى.. وكذلك بالقضية الفلسطينية..
**
أما القمة الصينية العربية للتمنية، فهي الأولى من نوعها، وصدرَ عنها بيانا ختاميا من 24 بندا، غالبيتها تقريبا تقاطعت مع البيان الخليجي الصيني، أو إعادة تكرار للعديد من المبادئ والمواقِف والقضايا والمسائل المطروحة على كافة الأصعدة..
فتمَّ التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية، هذه العبارة التي يرفعها الجميع، ولكن يمارسون عكسها تماما.. وإيجاد حل على مبدأ الدولتين وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ومبادرة السلام العربية، ووقف الاستيطان..واحترام الوضع التاريخي القائم في مدينة القدس ومقدساتها .. ووو كل الكلام المُكرّر بهذا الخصوص ولم تعبأ به إسرائيل في أي يوم، بينما التطبيع معها مُستمِرا، والزيارات على أعلى المستويات، ومنها المستوى الرئاسي.. وقبل أيام كان الرئيس الإسرائيلي في المنامة ثم في أبو ظبي..
ولم يتم الإشارة بأي كلمة للجولان السوري المحتل، في كافة البيانات الثلاث.. فغابت سورية، وغابت الجولان أيضا.. ولكن حضرَ العلم السوري..
ولم يغفلوا دعمهم لسيادة العراق وأمنه واستقرارهِ، وجهوده في مكافحة الإرهاب.. ووقوفهم مع الشعب اللبناني ودعمهم المُستمر لسيادة لبنان وأمنه واستقراره، وللقوات المسلحة اللبنانية في حماية حدودهِ، ومقاومة تهديدات المجموعات المتطرفة والإرهابية..
وأكّدوا على ضرورة تكثيف الجهود لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية يحفظُ وحدة سورية وسيادتها بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن 2254 .. الصادر منذ عام 2015 .. ولعلّهم لا يغفلون أن سورية اليوم خرجت من يدِ أبنائها ومن يد العرب، وباتت بداخلها حدودا شبه دولية.. أي لا يُمكن أن تُزال وتعود وحدة أراضيها إلا بتوافق دولي، لاسيما روسي أمريكي، تُركي .. ولا تُوجَدُ إطلاقا أية إرادة أو نيّة لذلك، فالجميع راضون بقسمتهم، ولا مصلحة لأحدٍ منهم بمغادرة سورية، وكلٍّ لأسبابهِ.. ولا يوجدُ ما يُجبِرهم على ذلك.. حدود منطقة الحُكم الذاتي الكُردية في شمال شرق بِحماية أمريكية، وحدود المناطق التي تحتلها تركيا في الشمال، وحدود المناطق التي تسيطر عليها التنظيمات الإسلامية في شمال غرب بمحافظة إدلب، بحماية تركيا.. وأما الجولان فمسألة أكثر تعقيدا..
وتم التأكيد على إيجاد حلول سلمية للأزمات الإقليمية وفق القرارات الأممية في سورية وليبيا واليمن.. ورفضِ التدخلات الأجنبية بهذه الدول، ومواجهة التنظيمات الإرهابية والمتطرفة التي تعملُ على أراضيها.. دون الإشارة بالاسم لتلك التنظيمات.. والدول المُتدخِّلة..
**
ويبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن للصين أن تتفاعل مع كل المشاغل السعودية والخليجية..
فالصين دولة تسعى بكل السبُل لتحقيق كل التوازن في علاقاتها الدولية، والابتعاد عن التحالفات العسكرية، والمحاور السياسية المُوجّهةِ، وإن كانت تسعى لزيادة نفوذها السياسي، وتُركِّز على الشراكات الاقتصادية والتجارية ومشاريع التنمية والاستثمار، وتعزيز مشروعها التجاري الإستراتيجي “الحِزام والطريق”..
ولذلك كان اسم القمة: القمة الخليجية الصينية للتعاون والتنمية.. وكذلك القمة العربية الصينية للتعاون والتنمية..
إنها تمسك العصا في المنتصف، مع تأكيدها دوما على الالتزام بالقرارات الأممية، وميثاق الأمم المتحدة في أي قضية..
ومعروف عن القيادة الصينية الاتزان والهدوء والصبر، فهي حتى في أهم قضية إستراتيجية تمسُّها مباشرة، قضية تايوان، لم تلجأ لاستخدام الحل العسكري وتُهاجم تايوان وتضمها بالقوة العسكرية.. ولم تعُد تنتهج النهج الآيديولوجي الشيوعي المتشدِّد إزاء الغرب، فأصبحت شريكا اقتصاديا وتجاريا كبيرا لهذا الغرب، لاسيما بعد زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون، عام 1972، والتوقيع على بيان شانغهاي الذي وافقت فيه واشنطن على مبدأ سياسة: الصين الواحدة..
وحتى في أوكرانيا، كانت حريصة على موقف مُحايد، دون أن تنحاز لموسكو، وتُغضِب أمريكا والاتحاد الأوروبي.. وكما تربطها مصالح مع روسيا إلا أن مصالحها التجارية مع أمريكا والاتحاد الأوروبي أقوى بأضعاف المرات..
وكما أنها تدعم القرارات الأممية بخصوص القضية الفلسطينية، إلا أن علاقتها مع إسرائيل قوية.. وفي عام 1980، اشترت الصين من إسرائيل 54 طائرة مقاتلة، وعدة مئات من دبابات ميركافا، ومدافع ذاتية الحركة، وعربات مدرعة، وصواريخ جبريل المضادة للسفن، ومُضادّات إلكترونية متنوعة.. وقُدِّرت الصفقة حينها بحوالي بليون دولار..
وكما تقيم علاقات إستراتيجية مع السعودية ودول الخليج، فهي تقيم علاقات إستراتيجية مع إيران.. ولكن موقفها من الصراع في اليمن يتماهى مع موقف السعودية ودول الخليج وداعم للقرارات الأممية..
ولكن تبقى دول الخليج ترتاح للعلاقة مع الصين أكثر منها مع الولايات المتحدة..
فالصين لا تتدخل بالشؤون الداخلية للدول، ولا تنتقد انتهاكات حقوق الإنسان في أي مكان، ولا تُطالِب بإطلاق سراح مُعتَقلين سياسيين، ولا تُصدِر وزارة خارجيتها تقريرا سنويا يستعرض قضايا حقوق الإنسان في كل دول العالم.. ولا ترفع شعارات الديمقراطية، والليبرالية السياسية، ولا تسعى لتصدير الأفكار الماركسية ووو كل هذه القضايا التي تُزِعج دول الخليج.. وتُزعِج أنظمة أخرى عديدة، تعتبرُ ذلك تدخلا بشؤونها الداخلية.. فهي مُريحة جدا من كل هذه النواحي..
بل الصين تعتبر ذاتها في خندق واحد مع هذه الدول لِجهة الاتهامات الأمريكية والغربية، فهي مُتّهمة بانتهاكات حقوق الإنسان، وتخوض معاركا مع الغرب في مجلس حقوق
الإنسان في جنيف بين عامي 1991 و 1994 ..
كل ذلك تُدرِكه الولايات المتحدة، ولكن مهما أزعجها التقارُب السعودي الصيني، فهي تعرف أنه لا يمكن للسعودية أخيرا وشقيقاتها الخليجيات من النوم إلا على الوِسادة الأمريكية.. فهذه الدول لا تخشى في المنطقة إلا من إيران، والصين لا يمكن أن تنحاز إلى جانبها ضد إيران في حالة أي تصعيد عسكري، ولكن الولايات المتحدة تفعل.. وقد صادرت دورياتها البحرية التابعة للأسطول الخامس عدة شحنات أسلحة في بحر العرب، تدّعي الولايات المتحدة، أو تعتقد، أنها كانت في طريقها للحوثيين.. وطبعا كل موقف بِثمَن، فكلما شعرت دول الخليج بزيادة الخطَر “الإيراني” كلما زاد شراء الأسلحة الأمريكية، وأرباح الشركات الأمريكية.. وهذه المُعادَلَة تخدم المصالح الأمريكية..
الصين شعارها: مصالح الصين قبل كل شيء.. وهذا هو الصحيح.. وهي ما زالت تقول بكل تواضُع أنها تعتبر نفسها دولة نامية صاعدة، وليست مُنافِسة لأحد، بينما الولايات المُتحدة تنظر إليها على أنها دولة مُنافِسة، والأكثر مُنافَسةً.. وتسعى لتطويقها تجاريا وسياسيا وحتى عسكريا..
كاتب سوري وزير مفوض دبلوماسي سابق
سيرياهوم نيوز4-راي اليوم