- هدى عمران
- الإثنين 4 كانون الثاني 2021
حين كرّمه «مهرجان القاهرة السينمائي» قبل حوالى شهر، لم يكن أحد يعرف أنّه سيكون وداعه الأخير لعالم عشق العيش فيه. قبل أيام، انطفأ الكاتب المصري عن 77 عاماً، مخلّفاً وراءه إرثاً طبع الذاكرة الجمعية المصرية وأسهم في تكوين وعي الأجيال الفني والاجتماعي والسياسي. هو ابن جيل الستينيات، شغل الهمّ الاجتماعي صلب رؤيته الفنية انطلاقاً من بحثه الدائم عن العدالة والدفاع عن الفئات المهمّشة، وإيمانه بدور المثقف في نشر الوعي والتنوير
في مطلع الألفية الثالثة، تعاون مع مخرجين آخرين، فكتب: «محامي خلع»، و«دم الغزال»، و«الوعد»، و«عمارة يعقوبيان» عن قصة تحمل الاسم نفسه للكاتب علاء الأسواني وإخراج نجله مروان حامد. كما كتب «الأولى في الغرام» للمخرج محمد علي، و«قط وفار» للمخرج تامر محسن. تعاون أيضاً مع المخرج يسري نصرالله، في فيلم «احكي يا شهرزاد» عام 2009.
حاز حامد جوائز عديدة ومهمة من مهرجانات «القاهرة» و«مالمو» و«فالينسيا»، ومن «جمعية النقاد السينمائيين»، كما حصل على جائزة الدولة التشجيعية، وعلى جائزة النيل أرفع جائزة مصرية تقدم للمؤثرين من الفنانين والعلماء والمفكرين.
قبل هذه النقطة، كان وحيد حامد صعلوكاً أصيلاً في مقاهي القاهرة، باحثاً عن الشغف والمغامرة. في «مقهى الفيشاوي»، رأى للمرة الأولى نجيب محفوظ، وتردّد في تقديم نفسه لأديب نوبل، لكن عندما واتته الشجاعة، ذهب إلى ندوة محفوظ التي كانت تقام في «كازينو صفية حلمي».
كان حامد يصف نفسه بأنه ابن الشارع، لم ينسلخ للحظة واحدة عنه. فهو أولاً ابن القرية مهاجراً منها في عمر الستة عشر عاماً. فهم جيداً ما يعنيه «الفلاح المصري» ومجتمعه ومشاكله، ثم هو ابن للقاهرة بكل تركيباتها المعقّدة، ما أحدث طفرةً في تفكيره، حين كانت قاهرة الستينيات مدينة للفن والثقافة بامتياز.
دائماً ما اعتُبر حامد مؤرخاً اجتماعياً لتاريخ مصر، وأبرز محطاتها السياسية من خلال السينما. لا أحد ينسى مشهد الختام في فيلمه «طيور الظلام» (1995) وانتهاء اللعبة بين عادل إمام ممثلاً تيار الدولة القديمة ورياض الخولي ممثلاً لجماعة الإخوان المسلمين، وانسحاب التيار الثوري متوارياً خلف خطابه الرومانسي. أعيد تأويل هذا المشهد بقوة عقب ثورة 25 يناير، وتساءل الجميع: كيف تنبّأ وحيد حامد بهذه النهاية؟. لم تكن هذه هي الحادثة الوحيدة التي تتحقق فيها نبؤات حامد: عقب فيلمه «البريء» (1986 ــــ إخراج عاطف الطيب) الذي يجسّد قصة عسكري أمن مركزي يكشف خدعة السلطة له ودفعه للإيمان بتخوين معارضيها، اندلعت ما أطلق عليه «انتفاضة الأمن المركزي» التي وقعت في 25 فبراير 1986، وتظاهر فيها عشرات الآلاف من مجنّدي الأمن المركزي احتجاجاً على سوء أوضاعهم وتسرّب شائعات عن وجود قرار سري بتمديد سنوات الخدمة من ثلاث إلى خمس سنوات. على إثرها، استمرت حالة الانفلات الأمني لمدة أسبوع أُعلن فيها حظر التجول وانتشرت قوات الجيش في شوارع القاهرة واعتُقل العديد من جنود قوات الأمن المركزي.
يرجع وحيد حامد هذه البصيرة لإيمانه بأن الفنان لا بد من أن يرى ويعي ويرصد مجتمعه جيداً، فهو ابن جيل الستينيات، لم ينحِ الهمّ الاجتماعي عن فنه، وكانت رؤيته الفنية تنبع من عنصرين أساسيين: بحثه الدائم عن العدالة الاجتماعية، لشعوره بالظلم الواقع على الفئات المهمّشة أو التي لا تمتلك السلطة، والشيء الثاني إيمانه بدور المثقف في نشر الوعي والتنوير، وهو ما أدخله في مشكلات كثيرة مع السلطة من جهة بسبب هجومه الدائم على المؤسسة الأمنية والفساد المؤسسي، ومواجهة أخرى مع التيار الديني الذي كان يكشف حيله في كل أعماله. وتبلور هذا الكشف في مسلسله «الجماعة» الذي أرّخ فيه لبداية ومنهج جماعة الإخوان المسلمين.
في أحد حواراته الأخيرة، صرّح حامد أن أغلب المثقفين لديهم طموح قوي للانضمام إلى السلطة أو الانتفاع منها. وأكد أنّ دور المثقف هو أن يكون مع مصلحة البلد، ويعبّر عن رأيه من دون خوف ولا فزع، ولا ينتظر مكافأة، فـ «المثقفون صنّاع الوعي، لديهم رسالة وربنا منحهم نعمة وهي المعرفة وهي غير متاحة لكل الناس، يجب استخدامها في خدمة الناس، لا لتحقيق مكاسب شخصية أو السعي وراء مناصب».
لعلّه بسبب هذه الفلسفة، انخرط حامد في المشهد السياسي المصري، خصوصاً عقب «ثورة يناير» وإبان حكم الإخوان المسلمين وشعوره بخطر كبير على الهُوية المصرية والحرية، وشعوره بأنه ينبغي له كمثقف مقاومة هذه السلطة الجديدة. مع ذلك، لم ينجر مثل كثيرين من أبناء جيله إلى شيطنة «ثورة يناير»، بل رأى أنّ ما حدث هو حق طبيعي لفئات تبحث عن العدل الاجتماعي كما شخصيات أفلامه.
لمع جماهيرياً في التسعينيات عندما قدّم ستة أفلام مع المخرج شريف عرفة
هذا العطل الذي حدث في مسيرة حامد بسبب انشغاله بالهم السياسي الذي كان ساخناً، اكتمل مع وجود رقابة حالية خانقة على الفن. إذ صرّح مرةً بأنه كتب فيلمين للسينما ذهبا إلى الرقابة ولم يخرجا منها كأنهما دخلا في نفق مظلم. إذ لطالما نظرت السلطة بتوجّس إلى حامد بسبب عدم انتمائه إليها وشعبيته الكبيرة وذكائه في تمرير النقد الاجتماعي من دون صدام حادّ. ومن الطريف ما قاله في ندوته الأخيرة عن الرقابة في «مهرجان القاهرة السينمائي» الأخير، إذ نصح الكتّاب الشباب بأن يستعملوا حيلاً لتمرير أفكارهم، كاستخدام مشاهد ساخنة أو قبلات لإلهاء الرقابة عن أفكار نقد السلطة أو نقد أفكار مجتمعية رجعية. ورغم قسوة النظام قبل «25 يناير» وهجوم حامد الصريح ضده، إلا أنه كان يؤكد أن الوضع الحالي أصعب وأكثر تعتيماً. رغم قسوة نظام ما قبل «25 يناير»، إلا أنّ حامد لم يصطدم بالرقابة حينها، والمشكلة الوحيدة التي تعرّض لها في فيلم «البريء» لم تكن بسبب الرقابة، بل بسبب بلاغ قُدم ضد الفيلم.
اختتم حامد حياته ومشواره الطويل بمشهد تكريمه في «مهرجان القاهرة» في دورته الـ 42، وتقديم شريك مسيرته شريف عرفة له. يومها، وقف على المسرح ليتسلّم «جائزة فاتن حمامة». وقف له الحضور باكياً ومتأثراً بكلمته التي ستبقى في ذاكرتنا جميعاً «أنا بحب زمني، أنا بحب الفن».
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)