بقلم : د. حسن أحمد حسن
على رِسْلِكِ يا سويعات الزمن المتحرك دونما استئذان ولا انتظار لأحد مهما علا شأنه أو تدنى… الجميع سواسية في رحلة حتمية تبدأ بصرخة الولادة، وتستمر بتحول الماضي إلى حاضر، والسيرورة إلى صيرورةٍ ما تلبث أن تعود جزءاً من سيرورة متواصلة الحلقات إلى أن تبلغ المحطة الأخيرة والوداع، وبعدها تتفتق المواهب المخبوءة في الحديث عن الخصال الحميدة، وتنطلق الألسن في تقريظ الراحل أو الراحلة إلى غير رجعة… غصات الألم والتحسر على محطة هنا، وعناق أو خصام هناك، وتنسيق مع هذا الشخص أو ضده لا لشيء إلا استجابة لتفكير عبثي يقدس الأنا المتورمة، ويجهل أن لا طعم ولا لون ولا رائحة ولا بصمة ذاتية يمكن أن تظهر إلا في هذا الوسط المتمازج بقوة الحتمتين الجغرافية والحياتية.
كمَ ْمِنْ عزيزٍ فقدناه، وبكاه كثيرون مع أنه عاش مهمشاً بين الأقربين، وكم من أحاديث تروى عن مآثر كان هذا الفقيد أو ذاك يتمنى سماع بعضها قبل أن يغادر الحياة، لكنه غادرها وفي القلب حسرة، ودموع في المحاجر أبت الرجولة المشرقية بشقيها الأصيل والمهجن أن تظهر لألف سبب وسبب، فهل نُسْمِعُ أعزاءنا بعض ما يتمنون سماعه بدلاً من ندبهم والتفجع لفراقهم بعد الرحيل؟ …
لست ممن يبيح لذاته الأستذة ولا التنظير على الآخر كائناً من يكون، فما أنا إلا تلميذ ما يزال يحبو ليتعلم من أكاديمية الحياة، لكني على يقين أن الخبرة التي تصقلها السنون وبخاصة إن تجاوزت الستين تحمل في تلافيفها بعض ما قد يستفاد منه، فالاهتمام بالأموات قيمة أخلاقية راقية وخلّة حميدة، لكن الاهتمام بالأحياء أجدى وأولى، وكثيرون ممن نتغنى بمناقبيتهم وأدوارهم المشرفة وطنياً وثقافياً ومجتمعياً وإنسانياً يتمنون لو أننا أظهرنا لهم بعض بعض ذلك وَ هُمْ على قيد الحياة… أو على أقل تقدير ألا نكون ساهمنا بإهمالهم وتهميشهم بعد أن عجنتهم الحياة وخبزتهم، فقدموا عصارة ما يملكون بكل سخاء من دون انتظار كلمة شكر أو امتنان.
الأعمار قصيرة مهما تطاولت، وحياة كل فرد ستمرُّ سواء أعاشها وصدره محقون بالضغائن والأحقاد، أم كان مسامحاً وحريصاً على التواصل الراقي مع الجميع.. نعم الحياة قصيرة، ولا أحد يملك ترف الوقت وانقضاء العمر بالانتقام أو التفكير في كيفية الانتقام وإيلام الآخر… الغريب في الأمر أن الجميع يتحدث عن ظلم لحق به هنا، وغدر ناله هناك، وحاجة ساهم الآخر بتفاقمها والحيلولة دون تلبيتها…
الزوجة تضع كل اللوم على الزوج المستهتر، والزوج يعيد الدلو مملوءاً بالنقيض وبما يفيض… الأخ يحقد على أخيه، والجار يحمل على جاره، والمرؤوس على المسؤول عنه، والمسؤول على المرؤوسين، وهذه الدائرة على تلك، والمتهم على القاضي، والقاضي على القانون القاصر، والسجين على المتنفذين الذين لا يطالهم سيف القانون ولا حتى ريش نعامه المستخدم لتلطيف الجو الحار في ظل انقطاع التيار الكهربائي، والمتنفذ يلقي المسؤولية على غباء الآخرين وسذاجتهم وعدم القدرة على فهم الأهداف السامية التي يناضل من أجلها… الكل مظلوم ومهضومة حقوقه ويشعر بالغبن والحيف الذي يلحق به، فمن هو الظالم؟ بالله عليكم أفيدوني، وخففوا من حدة الصراع الذي لا تخبو ألسنة لهبه قط، بل تبقى متقدة، وبخاصة في لحيظات الهدوء ومتابعة الأفق اللامتناهي بنظرات الشرود والتحليق في الفضاء الرحب الخالي من أي جواب!
قصص وحكايات عشت بعضها وسمعت الكثير والمتنوع منها على ألسنة صادقة ومؤتمنة وخلاصتها تقول: أخي المتغطرس في هذه الدولة أو تلك من مشرقنا المكلوم بالكثير من أصحاب الرجولة المخصية قبل الولادة… هذا المشرق الندي البهي النقي المبتلي بعاهات وكوارث لا خلاص منها إلا بعفو رب العالمين ولطفه، فيا أصحاب المقامات العالية على رسلكم وامشوا الهوينى مرة والتعجرف مرات، فلا ضير في ذلك لدى العامة من أمثالنا … المهم أن تضع أنت وهو بالحسبان أن ظروفك قد تسمح لك بالتعالي والتباهي، ونفش ريش الطاووسية القاتلة، وتجاهل أقرب خلان الماضي القريب، وقد يمنحك الكرسي المتأرجح الذي تختفي معالمك في جنباته المزخرفة بعض إحساس مَرَضِي بتميزك عن كل أقرانك، وهذا لا يغير من حقيقة سيرورتك التي لا يعلمها أحد أفضل منك، فما هو ممنوح لك اليوم لن يرافقك إلى ما لانهاية، وسيأتي اليوم الذي تتصل فيه هاتفياً ببعض من كانوا يتمنون الجلوس معك والاستفادة من كل ما لديك من فَهْمٍ عميقٍ، وفِكْرٍ نيّرٍ، وقِيَمٍ ساميةٍ ومُثُلٍ عليا، فتصور يا رعاك المولى أن تعيد محاولات الاتصال بلا جدوى…
الإنسان كائن مجتمعي بفطرته ــ هكذا قال علماء الاجتماع ـــ وتعاليك عن أي من أقرانك في أي موقع كنت هو اعتداء على فطرة الله التي فطر الناس عليها قبل أن تكون تهميشاً لهذا الشخص أو استهزاء بذاك، أو انتقاماً من ثالث لا يعرف لماذا يُنْتَقَمٌ منه…
الانتقام يشوه معالم النصر، فإذا كنت تعتبر نفسك في معركة مع أشقائك وزملائك وأقرانك ومعارفك فحري بك أن تحرز قصب السبق وتحقق النصر المؤزر البعيد عن شوائب الأنا المريضة الكفيلة بتشويه معالمه وإفقادك شعور اللذة بالقدرة على الإساءة للآخرين، فهي قدرة آنية زائلة…
ما أحوج الجميع للتواصل بشفافية بعيداً عن كل الماسكات وأقنعة التخفي التي سرعان ما تسقط بالجملة بعد التأرجح الخادع على الكرسي المزركش.
أحدهم قال لمتجاهل بلا سبب: اعتذر إن كنت أخطأت بحقك، ومن دون أن أعرف سبب توترك أنا اعتذر، ولا أريد إلا أن تكون بخير، فازدادت الطاووسية فوقية، وترفع صاحب الجاه ككثيرين غيره عن منح الخل الأقرب حتى رمقة عابرة بطرف العين، وعندما خلا بنفسه صاحبنا المصدوم اقتنع بأنه مخطئ، وقال لأناه الغريبة المُغَرَّبَةِ: من أنت حتى تبيح لنفسك محاولة الحصول على شرف التواصل مع أمثال هؤلاء من علية القوم، وتحلم بالتواصل مع من هم فوق البشر، وما دون الآلهة بقليل؟ … بعد طول شرود علا محياه طيف ابتسامة ساخرة تقول له: عليك الاعتذار من نفسك ثانية لأنك أسأت لأرباع أو أنصاف الآلهة بمجرد التفكير بالتواصل المباشر ومخاطبتهم، فاعتذر فورا من نفسك تجسيداً لوفائك لعلاقة طيبة جمعتك مع بعضهم، وحذار أن تعيد الإساءة لهم بتكرار محاولة التواصل لأي سبب كان.
(موقع سيرياهوم نيوز 1)