| بتول سليمان
تفتتح الكوريتان، الشمالية والجنوبية، العام الجديد، على وقْع تصعيد متزايد بينهما، وصل أمس حدّ تهديد الرئيس الكوري الجنوبي بالانسحاب من الاتفاقية العسكرية المبرَمة عام 2018 بين بلاده وبين جارتها. وإذ تقف الولايات المتحدة جنباً إلى جنب حليفتها في مواجهة خطوات بيونغ يانغ، التي كانت أعلنت صراحة نيّتها المضيّ في تطوير ترسانتها النووية، وصولاً إلى تحقيق «التوازن الاستراتيجي» المطلوب، فإن الأولى تبدو حريصة إلى الآن على إبقاء التصعيد مضبوطاً بسقف معيّن، وإنْ كان انخراطها بقوّة في استراتيجية العسكرة في شرق آسيا، ستكون له حتماً، ولو آجلاً، تداعيات في الاتّجاه المعاكس
أقفل عام 2022 على تسجيل كوريا الشمالية رقماً قياسياً في تاريخ تجاربها الباليستية، وصل، وفق بعض الإحصاءات، إلى 65 عملية إطلاق. عملياتٌ لا يبدو أنها ستسلك مساراً انحدارياً في عام 2023، الذي يُصادف الذكرى الـ75 لتأسيس هذا البلد، والذكرى الـ70 لانتهاء حربه مع جارته الجنوبية. واستعداداً للتحدّيات التي سيحملها العام الجديد، حدّد الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، خلال المؤتمر التاسع لحزب «العُمّال» الحاكم، أهداف عام 2023، داعياً إلى «الاستمرار في تطوير الترسانة النووية للبلاد، وإنتاج أسلحة نووية تكتيكية»، كاشفاً عن نيّة بيونغ يانغ تطوير صاروخ باليستي جديد عابر للقارّات مهمّته توجيه «ضربة نووية سريعة مضادّة» – وهو سلاح يحتاجه لضرب البرّ الرئيسي للولايات المتحدة -، معلِناً أن أوّل قمر صناعي شمالي للاستطلاع العسكري سيتمّ إطلاقه «في أقرب وقت ممكن». وكان كيم حدّد، في المؤتمر الثامن الذي عُقد أوائل عام 2021، مجموعة واسعة النطاق من أهداف التحديث العسكري والنووي، ترمي إلى «تحقيق التوازن» في مواجهة التحالف التقليدي بين واشنطن وسيول، وفق ما يورد الخبير في «مؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي» أنكيت باندا. ويبيّن باندا، في مقالٍ نُشر أخيراً في مجلّة «فورين بولسي» الأميركية، أن التصاعد الذي سُجّل مذّاك في التجارب النووية الكورية الشمالية، والتي شملت اختبار أسلحة تفوق سرعتها سرعة الصوت وصواريخ «كروز» بعيدة المدى، إضافة إلى صواريخ باليستية عابرة للقارات، إنّما يرمي إلى «ردع أيّ حملة عسكرية محتمَلة من قِبَل واشنطن وحلفائها لإسقاط نظام كيم بالقوة»، مضيفاً أن هذا الأخير «يأمل من خلال التصعيد المستمرّ في إنهاء الصراع بشروط مواتية له». ويوضح الخبير أنه في التفكير الكوري الشمالي الاستراتيجي، فإن «الاستخدام المبكر للأسلحة النووية من شأنه أن يعقّد بشكل كبير العمليات العسكرية لتحالف سيول وواشنطن»، خصوصاً أن بيونغ يانغ تمتلك أنظمة عابرة للقارات قادرة «على تهديد المراكز السكّانية في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وحتى اليابان»،
في المقابل، لم تتأخّر كوريا الجنوبية، من جهتها، في الاستجابة لـ«التهديد» الشمالي، وتحديداً منذ انتُخب يون سوك يول، الزعيم المحافظ، رئيساً، خلَفاً لمون جاي إن. إذ لم يوفّر يون أيّ فرصة للتحشيد ضدّ بيونغ يانغ، التي أعلن أمس، في آخر فصول تصعيده ضدّها، أنه «سيدرس تعليق الاتّفاق العسكري المبرَم معها عام 2018، إذا تَكرّر انتهاكها لمجال بلاده الجوي». كما دعا الرئيس الكوري الجنوبي إلى بناء «قدرة ردّ ساحقة تتجاوز حدود التناسب»، حاضّاً على «تسريع عمليات التطوير لإنتاج طائرات مسيّرة لا يرصدها الرادار هذا العام، والإسراع بإنشاء نظام مضادّ للطائرات المسيرة». وسبق ليون أن حثّ جيش بلاده، الأسبوع الماضي، على «الاستعداد لحرب بقدرات ساحقة في أعقاب اختراق خمس طائرات كورية شمالية من دون طيّار الأجواء الإقليمية للجنوب»، وهو الأمر الذي فشلت الدفاعات الجنوبية في التصدّي له. وكانت وزارة الدفاع الكورية الجنوبية قد أعلنت عن خطط لإنفاق 560 مليار وون (441.26 مليون دولار)، على مدى السنوات الخمس المقبلة، لتحسين دفاعاتها ضدّ «الدرونز»، بمتوسّط زيادة سنوية قدْرها 6.8%. كما بلغت ميزانيتها للعام الحالي 54.6 تريليون وون (42 مليار دولار)، بما يشمل الإنفاق على تطوير سلاح ليزر محمول جوّاً، وجهاز تشويش على الإشارة.
ثمّة حرص أميركي على إبقاء الأمور مضبوطة بسقف معيّن، خصوصاً أن الصين ليست بعيدة عن المشهد
على أن اللافت، حديث يون، أخيراً، عن مناقشات جرت مع نظيره الأميركي، حول إجراء تدريبات مشتركة تشمل الأصول النووية الأميركية لمواجهة البرنامج النووي الكوري الشمالي، وهو ما سارعت واشنطن إلى نفيه، مؤكّدة على لسان المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، أن المناورات النووية المشتركة مع سيول «ليست مطروحة»، على اعتبار أن الأخيرة لا تمتلك أسلحة نووية، وإنْ كان أكد أن بلاده «متمسّكة بشكل تامّ بالتحالف مع كوريا الجنوبية، وتقدُّم الردع الموسّع من خلال المجموعة الكاملة للقدرات الدفاعية الأميركية».
وإذا كان النفي الأميركي يشي بنوع من الحرص على إبقاء الأمور مضبوطة بسقف معيّن، خصوصاً أن الصين ليست بعيدة عن المشهد بكلّ تفاصيله، فإنه يؤشّر أيضاً إلى المأزق الذي لا تزال تواجهه إدارة بايدن إزاء الملفّ الكوري الشمالي، الذي رفضت أن تنحو إزاءه منحى سلفها دونالد ترامب في ما عُرف بـ«ديبلوماسية القمم»، أو تبنّي منهج الرئيس الأسبق، باراك أوباما، المعروف باسم «الصبر الاستراتيجي». وفيما يبدو من غير المتوقّع أن تجد واشنطن طريقاً واضحاً لها حيال هذا الملفّ في النصف الثاني من ولاية بايدن، خصوصاً في ظلّ ما يبدو أنه «مقعد خلفيّ تحتلّه معضلة بيونغ يانغ بالنسبة إلى الرئيس الأميركي مقارنةً بأزمات العالم الأخرى»، فإن حالة العسكرة المتزايدة في شرق آسيا، والتي تلعب فيها الولايات المتحدة دوراً رئيساً، يمكن أن تَدفع الإدارة، بإرادة منها أو من دونها، إلى مزيد من التورّط هناك، ولا سيما وسط تصاعد الأصوات الداعية إلى «العودة إلى الهيمنة العسكرية»، بوصْفها «السبيل الوحيد» لضمان «الاستقرار السياسي والديبلوماسي والاقتصادي في شرق آسيا»، وفق ما يطالب به مثلاً الكاتب في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، والتر راسل ميد، معتبراً أن «فشل واشنطن في توفير دفاع عسكري مناسب عن مصالحها الأساسية في منطقة المحيط الهندي والهادئ، في وقت تستمرّ فيه بكين في تعزيز قدراتها العسكرية، ويتواصل نموّ ترسانة كوريا الشمالية النووية بلا هوادة، ويتعمّق الوفاق الصيني – الروسي، سيؤدّي إلى فشل الردع عاجلاً أم آجلاً». وعلى الرغم من أن ميد يرى أن فريق بايدن لا يريد انتهاج هذه الاستراتيجية، على اعتبار أن الخطط الحالية تدعو إلى «إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق الدفاعي»، غير أن الإدارة كانت قد أقرّت بالفعل أكبر ميزانية دفاعية في تاريخ أميركا، تخطّت الـ800 مليار دولار.