مروة جردي
الكوميديا السورية تعيش تحوّلاً جذرياً بعد سقوط النظام السابق، منتقلة من خشبة المسرح والرقابة إلى منصّات مفتوحة يصنعها جيل جديد داخل سوريا وفي المنفى. أليكس وريكاردو يقدّمان نموذجين طازجين يعيدان الكوميديا إلى جمهور منهك، ويحوّلانها إلى مساحة حوار، لكنّ الأمر لا يخلو من العقبات
رغم جذورها الراسخة في المسرح السوري منذ ستينيات القرن الماضي، لم تكن التجربة الكوميدية السورية يوماً غزيرة أو متنوّعة كما في بلدان أخرى. بقيت إلى حدّ بعيد محكومة بتراث أكاديمي ولغة عالية نسبياً، حتى في أكثر أعمالها جماهيرية. من دريد لحّام ونهاد قلعي، إلى تجارب المسرح السياسي، ظلّ الشكل الكوميدي محصوراً داخل بنية ثقافية رسمية، تحتاج إلى خشبة، وموازنة، وبيروقراطية، ورقابة.
لكن قبل أكثر من نصف قرن، وبعد هزيمة 1967 التي كسرت الشارع السوري ونظرته إلى نفسه، وُلدت شرارة أول كوميديا سياسية صريحة: «مسرح الشوك» الذي أسّسه الفنان الحلبي عمر حجّو.
يومها اقترب المسرح للمرة الأولى من نموذج «الكباريه السياسي» أو الشانسونيه، من دون غناء ورقص، لكن بخفّة ظلّ وجرأة غير مسبوقة. تجاوز حجّو ورفاقه خطوطاً حمراء كثيرة، فيما اختارت السلطة السماح بالعرض، لامتصاص غضب عام لا يمكن السيطرة عليه.
لا سلطة قادرة على المنع
اليوم، لا سلطة قادرة على المنع، ولا شروط فنية مطلوبة أصلاً. انتقلت الكوميديا السورية إلى فضاءات مفتوحة على العالم، عبر منصات لا سقف لها، ليتعرف الجمهور إلى عشرات الأصوات الشابة التي تحاول أن تقول جديداً بلغة نقدية لكنها قريبة من الناس، تُخرج الجمهور من ثقل الأيديولوجيا والاستقطاب السياسي إلى خفة السخرية اليومية التي عادة ما نقولها في جلساتنا مع الأصدقاء.
وبينما ضاق هامش النقد داخل الصحافة التقليدية، خصوصاً في لحظات التوتر السياسي والانقسامات الحادة، ظهر شبان سوريون في المنفى يجربون أدوات ومنصات جديدة لكسر الخوف، ومنع إعادة إنتاج استبدادٍ يشبه ما قبل سقوط «البعث».
في هذا المزاج، يلتقي الشابان السوريان أليكس معوّض وريكاردو باصوص في باريس. من خلفيتين مختلفتين، وبيئتين اجتماعيتين وسياسيتين متباينتين، وصلا إلى قناعة واحدة: الكوميديا قادرة على خلق حوار، وتخفيف الاستقطاب، وتدريب جمهور مجروح على الإصغاء لبعضه بعضاً.
أليكس… كوميديا الحواجز وكوميديا الخوف
«طلعت من هون والروسي فات من هون». بهذه العبارة يسرد الكوميدي السوري أليكس لحظة خروجه من البلاد عام 2015. كان في التاسعة عشرة، مقبولاً في كلية طب الأسنان، لكنه «ما كان شايف مستقبل». غادر طرطوس إلى باريس للدراسة، وبعد تجارب أكاديمية متعثرة، استقر أخيراً على هندسة الطاقة الحيوية، فقط «لأجل الشهادة».
دخوله عالم الفن كان مصادفة. شارك في فيلم لطالب إخراج في «السوربون»، ثم جرّب التمثيل وصناعة المحتوى. لكن طريقه المستقيم لم يُفتح إلا عندما بدأ يميل نحو الكوميديا الاجتماعية. وحول ذلك يقول أليكس لنا: «الكوميديا كانت وسيلتي لأحكي عن سوريا بطريقة يتقبّلها الناس». أكثر فيديواته انتشاراً كان سخريته من الحواجز الأمنية أثناء مشاركة الفريق الأولمبي في أولمبياد باريس. وصل المقطع إلى أكثر من مليون مشاهدة، وتناقله صحافيون ومؤثرون، وتابعه لاحقاً عدد من الشخصيات العامة في «سوريا الجديدة» اي سوريا ما بعد «البعث».
لكن سقوط النظام السوري السابق لم يمنحه كامل الحرية التي توقّعها «صرنا نحكي بصوت أعلى… بس إجتنا موجة جديدة من المؤيدين الجدد اللي ما بيتقبلوا النقد». بعد ساعة ونصف ساعة فقط، اضطر إلى حذف أول فيديو له عن «الرئيس الشرع» بسبب تهديدات وهجوم شرس. يضيف: «رجعت قدّم نقد… بس بحرية أقل. شي بيشبه أيام النظام».
اليوم، لا يخرج إلى العلن سوى أربعين في المئة من أفكاره. مع ذلك، يستعد أليكس لجولته الكوميدية الأولى مع ريكاردو، التي ستمرّ بسبع مدن أوروبية. حلمه الأكبر «عرض كوميدي خاص يحمل اسمه»، يدور فيه بين العواصم.
ريكاردو: عندما تقول الدمى ما لا يقوله البشر
على طرف آخر، تبرز تجربة ريكاردو بوصفها أحد أنضج أشكال السخرية السورية الجديدة. ليس فقط لأنه يستخدم الدمى التي تحتاج مهارات تتعلق بالتعامل معها وكتابة النصوص، بل لأنه يعيد عبرها بناء ذاكرة سورية صوتية ولغوية، تستعيد روح السرد الشعبي.
ريكاردو، ابن حلب، عاش سنوات طويلة كموظف مصرف، وكاتب «سري» ينشر نقداً سياسياً بجرأة. غادر حلب عام 2015 عبر المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة «الجيش الحرّ» أحد التشكيلات العسكرية السورية المعارضة لنظام بشار الأسد نحو غازي عنتاب، بحثاً عن مساحة للتعبير. هناك، انفتح على مجتمع سوري واسع منفي ومنقسم ومتعب، لكن موحد في موقف سياسي.
مع انتشار خواطره الساخرة، استدعاه «تلفزيون سوريا» ليعمل معداً وكاتباً في برنامج «نور خانوم»، حيث ظهر للمرة الأولى على الشاشة. لكن قفزته الحقيقية جاءت أثناء جائحة كورونا، حين اشترى دمية خفّاش لاستخدامها في فقرة تلفزيونية. سرعان ما خطرت له فكرة أكثر جدية: دمى سورية الهوى. وبعد تعاون مع خياطة يونانية، ولدت شخصيتا «عدنان وسوسن» المستوحيتان من ملامح عصام عبه جي ووفاء موصللي، لكن محمّلتان بروح حيّة من ذاكرة حلبية وصوتين شديدي القرب من الطبقة الوسطى السورية.
شكّل ظهور الدمى في برنامج «خلصت وفشلت» على «تلفزيون سوريا» بداية الحضور الحقيقي، لكن السقف السياسي للقناة ظلّ عائقاً. بعد سلسلة حوادث عنصرية في تركيا، انتقل ريكاردو إلى أوروبا، آخذاً «عدنان وسوسن» معه، قبل أشهر من سقوط النظام السوري. وكان يظن أن زمن الدمى انتهى. لكن السقوط أعاد إليهما حياة جديدة.
أطلق حلقة خاصة بعنوان «عودة ماهر» كتعليق على الشائعات التي انتشرت في سوريا بعودة ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري إلى سوريا بعد سقوط نظام أخيه. حققت الحلقة انتشاراً واسعاً وجمهوراً متعطشاً إلى سماع مواقف الدمى من «سوريا الجديدة».
«كثير من الجمهور بيجي على عروض الستاند آب كوميدي اللي بقدمها ليشوف عدنان وسوسن»، يقول ريكاردو، مضيفاً «بس اللي بقدمو أنا في عروضي الخاصة على المسرح مختلف… أكثر جرأة وأقل عائلية. وهذا يشكل تحدياً أحاول التغلّب عليه بنكات خفيفة في البداية»، خصوصاً أن الدمية، عند ريكاردو، ليست بديلاً من وجهه الحقيقي… بل أداة تقول ما لا يقوله البشر بسهولة. فهي أدوات لمخاطبة السوريين بأقل قدر ممكن من الحدية، لكنه يدرك أن مشروعه أكبر من ذلك، وهذا ما دفعه للقيام بعروض شخصية. وحول تجربته مع أليكس، يقول ريكاردو لنا «كتير مهم وجود صوتين من أجيال مختلفة وربما سياسية مختلفة، لكن منحكي نفس اللغة يللي هيي الكوميديا».
ما بعد السقوط… بداية لمشهد جديد
بين تجربة أليكس وتجربة ريكاردو، يمكن قراءة شيء أكبر من مجرد محتوى رقمي، هو تحول الكوميديا السورية إلى مساحة سياسية ــ اجتماعية جديدة، غير خاضعة لمؤسسات الدولة، ولا للرقابة التقليدية، ولا حتى لبيئة الانقسام التي مزّقت المجتمع خلال الحرب.
جيل يرى في السخرية وسيلةً لإنقاذ حياة سياسية واجتماعية في سوريا. جيل لا يريد تكرار الماضي، ولا يريد أن يسكت، في زمن تزداد فيه المسافات بين السوريّين عندما يتوقفون عن الحديث مع بعضهم بعضاً. في باريس، يبدأ أليكس وريكاردو جولة كوميدية صغيرة. لكن ما يقدمانه قد يكون جزءاً من قصة أكبر هي قصة عودة السوريين إلى الكلام… ولو عبر ضحكة.
أخبار سوريا الوطن١- الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
